يوميّات الحرب في غزّة (6)

يوميّات الحرب في غزّة (6)

10 نوفمبر 2023
يعزف الناي فوق أنقاض أحدثها قصف إسرائيلي بمخيم الشابورة جنوب قطاع غزة (8/11/2023/الأناضول)
+ الخط -

يدوّن الكاتب والقاصّ والروائي، وزير الثقافة الفلسطيني عاطف أبو سيف، أيامه وسط جحيم القتل والحصار في قطاع غزّة، وهو الذي فقد عديدين من أقاربه شهداء، في أثناء المذبحة الراهنة التي يرتكبها مجرمو الحرب في دولة الاحتلال الإسرائيلي. يكتب أبو سيف في يوميّاته توثيقاً إنسانياً وشخصياً ومجتمعياً، رهيفاً وبالغ السخونة والحرارة. يكتب الألم الفردي، متوازياً مع الألم الجماعي الفلسطيني الذي يُكابده أهل غزّة المتروكون لآلة الحرب العمياء. تنشر "العربي الجديد" بعضاً من هذه اليوميات التي يحرص الروائي، المعروف، على كتابتها، لتكون مقطعاً في مدوّنة الموت والحياة الفلسطينية المديدة.

(7 نوفمبر)

بدأت غزّة تفرغ من كلّ شيء إلا من الذين أصرّوا على البقاء فيها، حتى لا يتم تهجير أهلها إلى سيناء أو إلى المجهول. وبدأ الناس في التمركز في أكثر من منطقة في غزّة وشمالها. فثمّة مناطق كاملة خلت تماماً من السكّان، إذ تمّ تهجيرهم تحت قصف الدبّابات والطائرات، خصوصاً بلدتي بيت حانون وبيت لاهيا والمناطق المحاذية لهما. كذلك مناطق شرق جباليا ومناطق غرب مخيّم جباليا، خصوصاً أحياء الكرامة والتوام وأبراج المخابرات وأطراف منطقة الصفطاوي، وأيضاً مناطق غرب بيت لاهيا المشاطئة للبحر، خصوصاً السودانية ومنطقة العامودي. أما مدينة غزّة، فقد تمّ تهجير الأحياء الجنوبية لها، خصوصاً الشيخ عجلين وتل الهوى وبعض أطراف حيّ الزيتون، كذلك أطراف حيّ النصر شمالاً ومناطق مخيم الشاطئ غرباً. في مقابل ذلك، باتت بعض المناطق مراكز أساسية لتجميع الناس وكثافة وجودهم. في شمال غزّة، ثمّة مركزان أساسيان لتجمّع المواطنين من كل تلك المناطق المنكوبة في الشمال، وهما مخيّم جباليا الذي يشكل منتصف المحافظة، تماماً من كل الاتجاهات، رغم ما يتعرّض له من قصف يومي، وما وقع فيه من مجازر بشعة، ومنطقة النزلة ما يلاصقها من بلدة جباليا في مربّع سكاني متواصل.

أما في مدينة غزّة، فقد ظلّ شارع الجلاء عامراً بالسكان وبالنازحين، رغم قربه من حيّ النصر ومناطق العمليات غرباً، وكذلك أجزاء من الرمال الشمالي وأطراف حيّ النصر الجنوبي، وصولاً إلى وسط المدينة وأمعائها الصغيرة التي تشكّلها أحياء الشجاعية والتفاح والدرج. وبنظرة عارف المنطقة وابنها، تشكّل كل هذه التجمّعات جيباً سكّانياً متواصلاً يضم مئات الآلاف على مساحة أقلّ من ثلث ما كانوا يعيشون فيه قبل ذلك، وهذا الجيب محاطٌ بمناطق عملياتٍ تتفاوت قوّة اللهب فيها من شدّة وعنف متواصل في الغرب وبعض أجزاء الشمال إلى حضور مكثّف للدبابات والقوة العسكرية في الشرق.

تظلّ كل تلك المناطق مع هذا تحت مرمى النيران، واستهداف الطائرات في أي لحظة. ومع ذلك، تبحث الناس عن مكانٍ تستطيع أن تشعر فيه بخطر أقل. السؤال ليس: "أمن أكثر"، بل: "خطر أقل"، فالسلامة غير واردة، ولا توجد بوليصة تأمين لأحد، ولكن الهدف أن يكون الخطر أقلّ، رغم الإقرار بأن فرص وقوعه واردة، وهي تتمّ من دون استئذان ومن دون تردّد.

بدأت غزّة تفرغ من كلّ شيء إلا من الذين أصرّوا على البقاء فيها، حتى لا يتم تهجير أهلها إلى سيناء أو إلى المجهول

مع هذا، ثمّة نقص أو انعدام تام تقريباً لكل الخضار في تلك المناطق، إذ تقع المناطق الزراعية التي تمدّ غزّة وشمالها بسلّتها من الخضار في المناطق التي داستها الدبّابات، وقلّبت أرضها الجرافات، وعاثت بمحاصيلها وظلت مسرحاً لتحرّكاتها. أما الجزء الثاني من تلك السلة، فيأتي من جنوب قطاع غزّة، خصوصاً مناطق شرق خانيونس ومواصيها غرباً. وفي ظلّ فصل غزّة وشمالها عن الجنوب، بات دخول الخضار منه معدوماً.

الصورة
عربة خضار
عربة خضار تمشي قرب أنقاض مبانٍ دمّرها قصف إسرائيلي في رفح جنوب قطاع غزّة (28/10/2023 فرانس برس)

الأمر أكثر تعقيداً في ما يتعلق بالبضائع التي ظلّت تختفي تدريجياً، حتى صار يصعُب على المرء أن يجد شيئاً في تلك المحلات القليلة التي ما زالت تفتح أبوابها، إذ نفدت كل البضائع، وفرغت المخازن المتوافرة ضمن نطاق تحرّك أصحابها، فالمخازن الكبرى أيضاً تقع شرقيّ غزّة أو في المنطقة الصناعية، وكلها تحت سيطرة الجيش، ولا يسمح لأحد بالتحرّك هناك، كما أن انقطاع التيار الكهربائي عن تلك المناطق لا بد أفسد كل ما تم تخزينه فيها. وعليه، بات البحث عن الطعام أمراً معقّداً، وفي مرّات كثيرة شاقّاً وبلا فائدة. لم يبق الكثير، فالمدينة تضيق، والحياة تقسو بكل ما أوتيت من قوّة على سكّانها.

المخابز تقريباً أغلقت جميعها، فيما يصطفّ الناس بالآلاف على كل مخبزٍ يفتح أبوابه، لعلهم يحصلون على ربطة أو نصف ربطة. وفيما كان الأمر يستغرق منك خمس ساعات، للحصول على مبتغاك، فقد بات يتطلّب ربما سبعةً من أجل أن تعود إلى البيت بما يملأ بطون أطفالك. صارت الحياة بالنسبة إلى هؤلاء عبئاً يومياً، عليهم أن يفكّروا كيف يتجاوزونه كل يوم، عليهم أن يجدوا حلاً لمشكلة الطعام يوماً بيوم، ويفكّروا في هذا الطعام قبل أن يناموا كيف سيحصلون عليه، وكيف سيتمكّنون من قضاء اليوم التالي، وقد أعطاهم الربّ كفاف يومهم. للبقاء ضرائب كثيرة وكلها مرهقة، لكن الإصرار عليها يجعل من النضال من أجل جزءٍ متعة تحقيقه.

الصورة
مخبز
​ طابور للحصول على خبز أمام مخبز تم تدميره جزئيا في مخيم النصيرات وسط قطاع غزّة (4/11/2023/Getty)

ذهبتُ مع محمّد وياسر إلى بلدة جباليا حيث في مركزها ثمّة من يبعيون اللحوم. ولأننا لا نعرف، تتم عملية البيع في الصباح وتنتهي باكراً جداً. لم نجد ما نشتريه، وكنتُ قد وعدتُ فرج وأدهم أنني سأحاول أن أحضر لحماً لنطهوه ونأكل، ولم نكن قد أكلنا اللحم منذ أسابيع لا نتذكّر عددها. لم أفكّر في شيء إلا في محاولة الخروج من الشعور باليأس الذي بدأ يحصُد أرواحنا. لم أجد شيئاً. الملاحظ أنك تجد في السوق فقط من يبيع حبّات الليمون الخضراء وبعض الثوم. فقط لا شيء آخر من الخضار أو الفواكه. كان واضحاً أن الجزّارين في البلدة قد باعوا ما ذبحوا من العجول. لم نكن محظوظين. قلت: مرّة أخرى للفلافل. ... ولكن لا خبز لدينا أيضاً حتى للفلافل. هاتفتُ فرج وطلبت منه أن يحاول أن يتدبّر كيلو طحين. قال باستغراب: طحين؟ قلت سنعجن ونعمل خبزاً. لم أرَ وجهه. لكنه قال: تمام... وكانت "تمام" تلك حائرةً، كما بدا من صوته. لحظتها وجدنا رجلاً يبيع لحم الحبش (اليدم الرومي) وكان الشاب الذي يعمل لديه يذبح الديوك وينظفّها بيديه بعد نقعها في الماء الساخن، حتى يُسهّل على نفسه عملية نتف الريش، ويقطع صاحب المحلّ الديوك ويبيعها وفق طلب الزبون: لحمة صدر، فخذ أو أجنحة ورقاب. كان علينا أن ننتظر ساعة ونصف ساعة، قبل أن نتمكّن من الحصول على كيلو ونصف من صدر الحبش. اشتريتُ بعض البهارات التي خمّنت أنني سأحتاجها ثم عُدنا إلى المخيم. قلت لفرج إنني سأحضر الطعام بعد السادسة، حتى نأكل ونجلس للسهرة قبل أن ننام.

تبحث الناس عن مكانٍ تستطيع أن تشعر فيه بخطر أقل. السؤال ليس: "أمن أكثر"، بل "خطر أقل"، فالسلامة غير واردة، ولا توجد بوليصة تأمين لأحد

في الليل، أوقدْنا الحطب في الشقّة الفارغة في الطابق الثاني التي كان فرج يعدّها من أجل أن يعيش فيها ابنه وسيم الذي يعمل في دبي. عجنتُ الطحين، وجهّزته وقطعه محمّد ورقّه على شكل أرغفة. وضعتُ الصاج فوق الحجريْن الكبيريْن اللذين شكلا حدود منطقة النار المشتعلة. ثم بدأت خبز الأرغفة حتى تنضج. إنها الطريقة نفسها التي كانت جدّاتنا يصنعن بها خبز "الرقاق"، لكننا جعلناه أسمك قليلاً، حتى يكون به بعض اللبّ فنشبع. ولأن المكان مغلق، بدا الدخان كثيفاً وأسال دموعنا وأنوفنا، وجعل تنفسنا أكثر صعوبة. لكننا في نهاية المطاف حصلنا على أرغفة شهية ساخنة يمكن لنا أكلها من دون أن شيء لو أردنا. ثم طهوتُ اللحم مع البصل والفلفل في صاج كبير. كانت تلك الصاجية من أكلات أولادي المفضلة، حيث يعدّها نعيم بشكل ممتع وبطعم رائع. بات لدينا الآن طعام وخبز وكلّه صنعناه بأيدينا. كان الأمر مثل "عزومة" ووليمة كبيرة تستحقّ كل هذه الفرحة التي كنا نأكل بها، ونحن، في خيال كل واحد منا، نستعيد بهجة الأيام التي لم نعُد نعيشها منذ أكثر من شهر.

يبدو شارع حارتنا بعد عمليات القصف والتدمير مثل هيروشيما. طاول الدمار بيوتاً كثيرة، إذ يصعب أن تجد بيتاً على الشارع لم يتضرّر ولو جزئياً. الهدم والحجارة والأسلاك وألواح الزينكو والخشب في كل مكان. في أكثر من موضع، الشارع شبه مغلق إلا من مسربٍ صغير تمت إزاحة الركام عنه حتى يتسنّى مرور سيارات الإسعاف. وصار يمكن أن ترى الأطراف الخارجية للحارة من مواضع الهدم، حيث يمكن لك أن ترى الشوارع الجانبية للحارة التي كانت تحجبُك عنها قبل ذلك البيوت المتراصّة والمتلاصقة، كما اختفت أزقّة كثيرة صغيرة كانت تسري بين البيوت مثل ماء في الشقوق.

تغيّر كل شيء إلا إحساسنا بالانتماء وبالعلاقة مع المكان الذي يُشعرك أنه جزء منك، وأنت جزءٌ منه

 

تغيّر كل شيء إلا إحساسنا بالانتماء وبالعلاقة مع المكان الذي يُشعرك أنه جزء منك، وأنت جزءٌ منه. لذلك، حيث أسير في الصباح في الشارع، وأرى الشباب والرجال يتجمّعون في الأطراف وعلى العتبات وحول الركام، وأسمع تلك القصص التي يتبادلونها، والتي يمزجون فيها بين الماضي وأحلام الغد وبين الجد والفكاهة. وأتذكّر طفولتي، حين كان المخيّم أكثر بساطة وأقلّ تعقيداً. وأتخيّل نفسي، أنا وأخي نعيم، ننتظر عودة أبي من العمل على طرف الشارع، حتى نركض أمامه مبشّرين بعودته، أو حين كنا نلاحق الجنود في الأزقّة خلال الانتفاضة الأولى، وكيف كنّا نتسابق من يستطيع أن يرمي الحجر أبعد.

أتخيّل أن هذا الاستمرار جزء من الرغبة في البقاء والنجاة هذه المرّة. هذه الذكريات التي يمكن في لحظة أن تصبح من حبّات مسبحةٍ تنفرط مرّة واحدة، وتنهال عليك لحظاتٌ من الماضي، لم تتخيّل أنك يمكن أن تتذكّرها يوماً أو لعلها لم تخطر على بالك في السابق. هي، أي تلك الذكريات، ما يجعل البحث عن الغد أمراً مألوفاً في صياغة الحاضر. لا شيء يمكن أن يغيّر ما جرى ويجري، لكن هناك ألف طريقة من أجل البحث عن تغيّر المستقبل. المستقبل الذي يعني، أولاً وقبل كل شيء، أن تنتهي الحرب، وتنجو وتفوز بحياة جديدة، على اعتبار أن الحياة التي تحياها ليست إلا موتاً مؤقتاً، وتريد أن تخرُج من هذا المؤقّت إلى الحياة الدائمة.

الصورة
امرأة فلسطينية تجلس في مستشفى النصر غرب غزة هرباً من القصف الإسرائيلي في 8/ 11/ 2023 (الأناضول)
امرأة فلسطينية تجلس في مستشفى النصر غرب غزّة هرباً من القصف الإسرائيلي (8/11/2023 الأناضول)

تبدو المدينة كئيبة. الطرقات. البيوت. المحال. وجوه الناس. القمامة المتراكمة. علبة الكولا الفارغة في منتصف الطريق غير آبهةٍ بسيارات قد تدوسُها لأن السيارات لم تعد تتحرّك في المدينة. كل شيء بدا كئيباً في الطريق من جباليا إلى حيّ الرمال. أمام مستشفى الشفاء عربةٌ يجرّها حمار تحمل مصابين يتألمون، وهم يريدون أن يصلوا إلى سرير الطوارئ. ثلاث سيارات إسعاف تهرول تحمل جثامين شهداء من قصف أمس. الجثامين التي يتم اكتشافها كل صباح بعد غارات الليل التي تشنّها طائرات الاحتلال، إذ يتعذّر كثيراً في الليل، وبعد القصف تبيّن مكان القصف، أو العمل لإنقاذ الناس في أغلب الأحيان، لعدم وجود كهرباء من جهة، ولعدم مقدرة عربات الباقر والجرّافات على التحرّك ليلاً لاستهداف الدبّابات لها. المزيد من الجثامين ممدّدة على الأرض، والمزيد من النازحين من الأماكن التي يتم استهدافها كل ليلة، وفيما يزيد الناس يضيق المكان ويأخذ شكلاً أكثر ملاءمة لوجود ساكنيه الجدد، من حيث الطرقات والممرّات، ومن حيث الغرف والخيام.

صوت القصف وتبادل إطلاق النار يقترب. كلّ شيءٍ يقترب إلا فرصة النجاة، وحدها تظلّ قابعة في مكان لا تعرفه، لعلها تصل فجأة وينتهي كل شيء

في الصباح، الكلّ مشغولٌ بنشاطه الصباحي من تنظيف وإزالة الغبار عن الملابس، أو عن قطع الكرتون التي ينامون عليها في الليل، أو في الاصطفاف أمام بائع القهوة أو الشاي، من أجل كوبٍ يبدأون به نهارهم. أمّا بائعو الخضار فقد اختفوا من الطرقات المؤدّية إلى المستشفي. نشاهد عربة يجرّها حمار تبيع الليمون. ويضحك ويسأل ويسألني: "ليش بيشتروا الليمون؟". والإجابة الوحيدة: لأنه الشيء الوحيد المتوافر، ربما يعصرونه ويشربونه. ولكن، في ظل عدم وجود ماء كيف يحضرون الليمونادا؟ أسئلة كثيرةٌ، ولكن الأهم أن الحياة تستمرّ مع ذلك تحت القصف ومع الموت وبجوار الاستهداف.

ثمّة رحلة لا تنتهي بمزاج الجنرالات، وثمّة من يريد أن يواصل حياته، رغم كل وسائل الموت التي تنزل على الناس من السماء ومن البحر من الأرض. سرَت في الممرّات الجديدة التي أتفاجأ كل يوم بوجود مزيد منها داخل أروقة المستشفى وفي ساحاته، حتى أصل إلى مدخل قسم الجراحة لأصعد الطوابق الأربعة بصعوبة، من شدّة وجود الناس وافتراشهم الدرج والبسطات والممرّات. حتى داخل القسم نفسه، هناك من صنع خيمة أو غرفة بربط بطّانية بين جدارين. ثلاثة أطفال يشدّون شرشفاً ويصنعون زاوية صغيرة، يبدو أن طفلة تبدّل ثيابها داخلها. المساحة المتاحة التي صنعوها لا تتعدّى عشرات السنتمترات المربعة، لكنها كافية في ظل هذا الازدحام لتبديل الملابس، مثل جناح فندق ملكي. كلّ مساحة تصير واسعة، وكل مكان يصبح فسيحاً في ظلّ التكدّس والزحمة.

الصورة
يفترشون الممرات داخل مستشفى النصر غرب غزة في 8/ 11/ 2023 (الأناضول)
يفترشون ممرّات داخل مستشفى النصر غرب غزّة (8/11/2023/الأناضول)

عشرات الفرشات ينام عليها الرجال والنساء والأطفال ممدّدين يغطّون أجسادَهم بخرقٍ قليلة، في محاولةٍ لصنع الحيز الخاص لكل جسد. بعض النسوة استيقظن، وبدأن مرحلة إعداد الطعام لأطفالهن. قطعة خبز يدهنها بالشكولاته أو الطحينة. أي شيءٍ يسدّ الجوع. شابٌّ يحمل غلاية الشاي، ويسير نحو والده، مثل من يحضر جائزة كبرى.

صوت القصف وتبادل إطلاق النار يقترب. كلّ شيءٍ يقترب إلا فرصة النجاة، وحدها تظلّ قابعة في مكان لا تعرفه، لعلها تصل فجأة وينتهي كل شيء. أصوات الناس قرب متجر "مترو" تبدو شديدة، وثمّة صراخ و"طوشة"، فالناس تريد أن تدخل المتجر حتى تتبضّع وتتسابق في ذلك. لا شيء، في ظل ذلك كله، أكثر ثمناً من الهدوء، الهدوء الذي تسلبك إياه الطائرة الزنّانة وصوت الانفجارات وطنين عقلك، وهو يقول لك عليك أن تنجو، وعليك أن تجد فرصةً من أجل أن تُفاجئ الحياة بأنك تعيشها، قبل أن تشطبك من قائمة مريديها.

(8 نوفمبر)

لأول مرّة، أفتقد شخير أخي محمّد. في عتمة الليل وأصوات الانفجارات تعلو في كل مكان حولنا كنت أحسّ بشخيره، مثل سلوى وونس يؤكّدان لي أن ثمّة من يقف معي في هذا الخوف المهول الذي يلتهم كل هدوء الليل. وفيما أعدّ صوت الانفجارات، وأدخل في لعبة التخمين بشأن موضعها على وجه الدقّة، كان صدور شخيره بين فترة وأخرى يُعيدني إلى حيث أنا شخصٌ آخر، رجل يحاول أن ينام فيقلقه شخير الرجل الذي بجواره، فيبدو هذا مشهداً طبيعياً من مشاهد الليل وتفاصيل الحياة فيه. أتوقّف عن عدّ الانفجارات، وعن محاولة تخمين مواضع سقوطها، وأبدأ تذمّري المصطنع من هذا الشخير الذي يزعجني ويقلق نومي، وكأنني لولاه كنتُ سأنام وسأغطّ في نوم عميق. وفجأة، حين توقّف الشخير، شعرتُ بوحشةٍ كبيرة، فقد تركني مع صوت القصف وصوت الانفجارات. كنتُ أريد له أن يتواصل، أن لا يتوقّف. أخذتُ أنظر إلى محمّد ممدّداً على الفرشة كأنني أرجوه أن يعاود شخيره المزعج، فأعود إلى طبيعتي، شخصاً يُحاول النوم ويزعجه شخير الآخرين. لا أريد أن أظلّ فريسة لهواجسي عن القصف الذي يقترب، والقذائف التي تسير بسرعة نحونا، والصوت الذي يهزّنا ويحملنا على الخوف من الموت المحتوم. القليل من الشخير يمكن أن يجلب الهدوء، أن يعيد توازن اللحظة، أن يُجبر كل هذا الخوف وهذه الهواجس على التراجع.

بات عدم وجود ما تشتري مُزعجاً، وصار عليك أن تتقبّل أنك قد لا تأكل طوال اليوم شيئاً

فكّرتُ طويلاً في شخير أحمد يعقوب، الصديق الشاعر الجميل ابن طيرة حيفا. لعلّي لم أسمع شخيراً أعلى من شخيره إطلاقاً. وقتها، كانت تلك زيارة أحمد الأولى لغزّة بعد عودته إلى البلاد. كان أخي نعيم قد خرج لتوّه من السجن، وكنا نبني طابقاً فوق سطح البيت، ليكون بيتاً للعائلتين التي سنكوّنهما، أنا وهو، حين يتزوّج كل منا. كان أحمد ينام عند نعيم في غرفة واحدة غير مجهّزة، وكان صوت شخيره "بجيب التايه" كما يقول المثل، وكان نعيم يظلّ يقظاً طوال الليل، لا يعرف كيف ينام. وفي نهاية المطاف، ينام معنا في الغرفة، أو في غرفة الضيوف في الطابق الأول. استعدتُ شخير أحمد، وتذكّرتُ لو كان بجواري الآن لغطّى شخيرُه على كل أصوات قذائف إسرائيل وانفجاراتها، ولكان خير ونسٍ وجليسٍ في مثل هذه الأوقات. ومجازاً كان يمكن لي تخيّل هذا الشخير وسماعه، لولا أن قوّة ما يجري حولي لا تمنحني الكثير من ترف التخيّل وصناعة الوهم، فالواقع أشد إيلاماً من كل المجاز. فجأةً، عاود أخي محمد الشخير. ظننتُ أنه يهيّأ لي من شدّة تفكيري في الشخير، أو أن الأمر خروجٌ لامنطقي لفكرة شخير أحمد من ذاكرتي، بيد أن الصوت كان يتناسب، بشكل كبير، مع التفاتة عينيّ، وأنهمك بالانشغال بالصوت الذي يعلو ويهبط كأنه يتحدّى قدرة الطائرات والقصف على إزعاجي وتبديد هدوئي المنشود.

الصورة
طفل فلسطيني يبكي بجانب جثث أفراد عائلته الذين استشهدوا في قصف إسرائيلي في مشفى في خانيونس جنوبيّ قطاع غزّة في 9/ 11/ 2023 (فرانس برس)
طفل فلسطيني يبكي بجانب جثث أفراد من عائلته استشهدوا في قصف إسرائيلي في مشفى في خان يونس جنوبيّ قطاع غزّة (9/11/2023/ فرانس برس)

تقريباً، لم آكل شيئاً يوم أمس باستثناء حبّة شوكولاته وحبة بسكويت صغيرة أعطاني إياهما ياسر، وقد وجدَهما على الكرسي الخلفي للسيارة من بقايا ما كان يشتري وقت كان الشراء متاحاً والسوبرماركتات متوافرة. بات عدم وجود ما تشتري مُزعجاً، وصار عليك أن تتقبّل أنك قد لا تأكل طوال اليوم شيئاً. شربتُ قهوةً مرّة واحدةً في اليوم، حيث جهزة الغلاية وتركتها بجواري حيث أذهب. لا وقت ولا غاز ولا ترف للتفكير في صنع القهوة بطريقة سليمة. أيّ شيءٍ قد يعني كل شيء، وأبسط الأشياء قد يكون أفضلها في مثل تلك اللحظات. في المساء، لم يكن ثمّة كثير من الخبز. اقترحتُ على ياسر أن يأكل الخبز المتوافر من بقايا الصاج الذي خبزناه يوم أمس على الحطب. فكّرت أن ثمة القليل منه، ورغم إصرار فرج على وجود المزيد، إلا أنني فضّلت أن يأكل ياسر ما يكفي، ويبقى بعضه لفرج وأدهم في الصباح فيأكلون. حقيقةً شعرت بالشبع. لم أجد أيضاً شهيةً تدفعني إلى الأكل. وضعتُ حبّات من الترمس في صحنٍ صغير، وبدأت آكل حبّات الترمس، ثم قشّرتُ برتقالة خضراء، وتناولت نصفها، وكان هذا عشائي وغذائي وفطوري طوال اليوم، وكان كافياً ولذيذاً وشهياً، وزوّدني بكثيرٍ من الطاقة التي كنت بحاجةٍ لها من أجل الاستمرار بقية الليل في تلك الأحاديث والنقاشات التي لا بد أن نُحاول فيها التحايل على ما نعيشه.

أمضيتُ ساعةً وأكثر على الشارع أتحدّث مع الشباب، قبل أن نصعَد إلى بيت فرج. تناول أحدُهم زجاجة مياه غازيّة من بيته، وأحضر كؤوساً وصبّ لكلٍّ منا كأساً، وجلسنا على عتبة محلّ الإنترنت الذي يملكه عاشور، وبدأنا سهرةً "من أيام زمان" نتحدّث في كل شيء، ونمزح عن كل شيء، ونخلط فيها الذكريات من مراحل العُمر المختلفة، ونقفزُ من يوم إلى آخر من دون اعتبار لحدود الزمن القاهرة. وكأس وراء آخر، ومرّ الوقت، كأننا لم نسمع القصف العنيف في الجوار قرب مدرسة الفاخورة بجوار كوافير كريستينا، أو ذلك في منطقة مشروع بيت لاهيا. لم نكن نسمع شيئاً إلا حديثنا الشغوف عن أزماننا الجميلة، وتعليقاتنا الساخرة على بعض المواقف الطريفة. أعمارُنا تتفاوت، ولكن ذاكراتنا تبدو واحدةً، فنحن نرث الذاكرة نفسَها من آبائنا وأجدادنا. وفي المخيم، هناك ذاكرةٌ كبيرةٌ وشاسعة، لا يضيع فيها أحد، حيث يجد كلّ شخصٍ فيها ما يكفي من حكاياتٍ مشتركةٍ مع الآخرين، تلك الحكايات التي يظنّ لوهلة أنها له وحدَه لشدّة خصوصيّتها، ولأن ثمّة ما يربطها به، لكنها، في المحصلة، مثل الحكاية الشعبية، جزءٌ من وعي عامّ وأشمل. كل شيء بدا جميلاً، وكل شيءٍ بدا هادئاً لولا الضجيج الذي يُحدِثه القصف الذي تذكّرناه فجأة، حين طرح شابٌّ السلام، وهو يقول إن القصف يشتدّ، وإنّ من الأفضل أن ندخل إلى بيوتنا.

أعمارُنا تتفاوت، ولكن ذاكراتنا تبدو واحدةً، فنحن نرث الذاكرة نفسَها من آبائنا وأجدادنا

بدلاً منذ ذلك، ذهبت إلى بيت جارنا سليم لتعزيته وتعزية والدته باستشهاد أخيه ماجد الذي توفي في السجن، إثر إهمال طبّي، حيث رفضت إدارة السجن أن تعطيه الدواء الذي يستخدمه في متابعة علاجه من مرض سرطانٍ أصابه في الكبد. كان يتعالج في مشافي القدس والضفة الغربية، حيث ذهب إلى الداخل خلال الحرب، وتم اعتقاله مع عشراتٍ من سكّان قطاع غزّة الذين كانوا يعملون في الداخل. رفض السجّان في سجن عوفر أن يسمح له بتناول دوائه، رغم الأوراق الكثيرة والتقارير التي عرضها عليهم، والتي كانت في حوزته لحظة اعتقاله.

مات ماجد وحيداً بعيداً عن أمّه وعن زوجته وطفله. وصل الخبر إلينا، في بداية الأمر، قبل خمسة أيام مع العمّال الذين أطلق الجيشُ سراحهم قرب الحدود عند رفح. قال بعضُهم إن ماجد استُشهد في اليوم الثاني لاعتقاله مباشرة، وإنّ إدارة السجن تكتّمت على الأمر، فيما قال آخرون إنه كان معهم، حين جرى ترحيلهم قرب رفح، وإنه لم يستطع مشي المسافة الطويلة التي تطلّبها الوصول إلى الجانب الفلسطيني من الحدود، وإنه سقط إثر إطلاق الجيش النار عليهم، حتى يحثّوهم على الإسراع. المؤكّد أنه لم يعد مع العمّال، وأنه قد يموت الآن، لكنّ أحداً لا يعرف القصة كما حدثت. ما عرفته يوم أمس بعد أن هاتفتُ وزير الأسرى والمحرّرين ورئيس نادي الأسير، قدّورة فارس، أن شابّاً خرج من سجن عوفر أبلغ الوزارة أن شاباً من غزّة ربما استشهد قبل أيام، لكن لا أخبار مؤكّدة عن ذلك. بعد جهدٍ، استطاع التواصل مع موجّه المعتقل (المسؤول أمام إدارة المعتقل عن التواصل مع الأسرى) الذي أبلغه أنه سمع من بعض العاملين في إدارة السجن أن هناك شابّاً من غزة قد استُشهد لعدم تلقيه العلاج. لتوّه، وقبل أن أهاتفه، أبلغه الارتباط العسكري بوجود شابّ شهيد من غزّة في السجن، ولكن عائلته أبو العيش... وهذا اسم العائلة الأكبر لماجد، فاسمه المتداول ماجد زقّول.

الصورة
دخان يتصاعد من قطاع غزّة بعد قصف إسرائيلي في 8/ 11/ 2023 (فرانس برس)
دخان يتصاعد من قطاع غزّة بعد قصف إسرائيلي (8/11/2023/ فرانس برس)

كانت تلك ليلة زيارات اجتماعية، إذ ذهبت لعيادة قريبي فؤاد الذي فقد زوجته مها وجميع أطفاله في القصف قبل أربعة أيام. والدته نعمات، ابنة خال والدتي، وواحدة من أعزّ صديقاتها، وهي قريبتي. كانت تلك فرصة لأراها، حيث لم يسبق أن رأيتُها منذ سنوات. تدمّر بيت فؤاد بشكلٍ كامل، فلم يعد له بيت. كان يتمدّد على سرير في غرفة في بيت أهله، وكان أخوه إبراهيم، الطبيب، يشرف على علاجه. كان يتألم بشكل كبير، وكان يتحدّث عن أطفاله بحسرة. نجحت طفلتُه الكبرى في الثانوية العامة قبل أسابيع من الحرب، وكانت قد سجّلت للدخول إلى الجامعة. حضرت بضع محاضرات حين أخذتها الحرب بعيداً. قبل أيام، حضر معها حفلاً تكريمياً للطلبة الناجحين، أقامته حركته (فتح) في المخيّم. كان الحديث عن الأطفال يُدمي القلب. حاولتُ أن أشتّت الحديث، وأبتعد به قليلاً. قلتُ ممازحاً لوالدته: كيفك يا نعمات؟ من باب الدعابة بالطبع. وحوّلنا الحديث في شؤون العائلة. سألتُ فؤاد إذا كان يعرف من كان يسكن في هذا البيت قبل أن يشتريه والدُه. ردّت والدته: "أبو تهامة"، وكنت أستخدم معرفتي الجيدة في الحارة، وربما فارق السن، في تذكّر ذلك، ثم سألت: والبيت الذي تسكن فيه من كان يسكنه قبلك. كانت خالتي نور، وهي خالة والدتي، وهي آخر من تبقّى من أولاد الحاج عرفة جدّي الأكبر من جهة والدتي.

الوجوه شاحبةٌ وناعسةٌ، والعيون حمراء مثل حبّات البندورة، وصوت البوارج يرسل لنا حمماً قريبة جداً من بيت الصحافة، حيث أكتب الآن، وبلال ينظُر إليّ ويسأل: "شكلها مطوّلة؟".

جلسنا في الساحة الداخلية للبيت. كنّا أكثر من عشرين شابّاً من الحارة، وجلّهم من لاجئي قرية هوج التي تهجرت منها عائلة ماجد. حين دخلتُ لتعزية والدته بكت، وهي تقول إنها تريد أن تدفن ابنها في غزّة حتى تتمكن من زيارة قبره. الوضع صعب الآن، وسيكون عسيراً إحضار الجثمان إلى غزّة، لكن علينا أن نحاول. قلت لها أن تنتبه وتربّي الطفل الصغير على الأقل يبقى من رائحة والده. أشارت بإصبعها بحسرة، وهي تقول: "واحد"... قلتُ: أفضل من لا شيء، المهم أن تعتني به وتحافظي عليه... لا يوجد لأم محمد الآن في غزّة من الأولاد إلا سليم الذي يحمل اسم جدّه، فمحمّد الكبير تعلّم في روسيا، وتزوج ويعيش هناك، وماجد الأصغر استُشهد ولم يبق إلا سليم والطفل.

لا مخابز. لا طوابير. في الطريق الذي أسلكه عادة من أول شارع الجلاء مروراً بحيّ النصر والرمال. لم أرَ مخبزاً من التي اعتدتُ رؤيتها قبل ذلك. حتى البقّالات الصغيرة التي كانت تفتح أبوابها في الحارات الداخلية لم تعُد تعمل. فقط رأيت واحدةً في بلدة النزلة فترجّلت لأشتري بعض الشوكولاتات والشيبس والأندومي لياسر. ستكون مثل هذه الأشياء وجبات شهية ربما بعد أيام. أخذ ياسر ما يشتهيه منها. وقلت ممازحاً: "خذ لي ولك". لأننا، في النهاية، قد لا نجد ما نأكله. سيارة مسرعة تمرّ عنا في شارع الوحدة تحمل شهيداً. الناس تكتشف جثامين الشهداء بعد أيام من القصف، إذ عادة لا يمكن لأحدٍ أن يرى في قلب العتمة ضحايا كل غارة. ومع اشتداد القصف وتقدّم الدبابات وتقدّم مواضع النيران، يصبح البيت المقصوف، ولم يتم انتشال جثامين من في داخله، خلف أماكن القصف، وبالتالي، يتعذّر إخراجهم. بعد أيام، قد يمرّ شخصٌ أو يذهب فردٌ نجا من العائلة للبحث عمّن سقطوا. قصص النجاة تشبه قصص الفقد. والمدينة المكلومة التي تنتشر فيها كل أنواع الحزن. بات الفقد ترنيمةً دائمة الحضور في تفاصيلها. الوجوه شاحبةٌ وناعسةٌ، والعيون حمراء مثل حبّات البندورة، وصوت البوارج يرسل لنا حمماً قريبة جداً من بيت الصحافة، حيث أكتب الآن، وبلال ينظُر إليّ ويسأل: "شكلها مطوّلة؟".

يشتدّ القصف وصوت تبادل إطلاق النار يقترب. أصواتُ ناسٍ تصرُخ وأمهاتٌ يستعجلن أطفالهن. خرجت إلى الباب، كان المئات يحملون أمتعتهم ويتجهون شرقاً. سألتُ أحدهم، قال إنهم كانوا في مدرسة أنس بن مالك، والقذائف حولهم. لم أتيقّن مكان المدرسة، حين حاولت التفكير... فقال: بجوار شاورما معاذ... ثم استطرد: الدبّابات على شارع الرشيد مقابلنا. دعا لنا بالنجاة، وواصل سيره وهو يحمل فرشةً لفّها مثل فرشوحة الشاورما. الأطفال يركضون. والسيدة تقول لابنها أن لا داعي لحمل الصندوق الخشبي الذي يثقُل عليه. طلَبت منه أن يرميه. رفض الطفل، وواصل عناده في الطريق. ذلك كله أمامنا في بيت الصحافة، والدبّابات لم تعد بعيدة، والقرار الذي يجب أن نتّخذه يجب أن لا يطول. هل نبقى؟.

قضايا وناس
التحديثات الحية

المساهمون