عزل غزة... القطاع وسكانه خارج التغطية

29 أكتوبر 2023
عُزل قطاع غزة كلياً عن العالم في ليلة ويوم كامل (أشرف أبو عمرة/ الأناضول)
+ الخط -

على مدى ليلة ويوم كامل، عُزل قطاع غزة عن العالم كلياً، بعدما قطع الاحتلال الإسرائيلي شبكة الاتصالات، كأنّما أهل القطاع ينقصهم مزيد من العزلة. لم تنفع كلّ المناشدات الأممية بإعادتها، غير أنّ صباح اليوم الأحد عادت الشبكة إلى العمل تدريجياً.

كانت الساعة تشير إلى التاسعة مساء، يوم الجمعة الماضي في السابع والعشرين من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، عندما أُغرق قطاع غزة في عتمة كليّة، فيما كان القصف الإسرائيلي مستمراً على مناطق مختلفة. وفجأة، راحت السماء ترعد، فيما القذف والصواريخ تنهمر بوتيرة لم يُشهَد لها مثيل مذ بدأ الاحتلال عدوانه على غزة في السابع من أكتوبر الجاري. وعندما أراد الغزيون معرفة ما يجري، وجدوا أنّ الاتصالات قُطعت كلياً بما في ذلك الإنترنت.

وعُزل أهل غزة ليس فقط عن العالم، بل كلّ واحد في موقعه وعن أقرب جيرانه. ثمّة من حاول التوجّه إلى أعلى المباني على الرغم من القصف، لعلّه يُوفَّق بالتقاط إشارة، غير أنّ الأمر بدا محسوماً... انقطاع كلي عن العالم. وقد تأكّد كذلك عندما راحت إذاعة واحدة تبثّ وتعيد بثّ خبر عاجل مفاده أنّ غزة خارج التغطية.

وساد الصمت للحظات مدينة غزة لحظة عزلها عن العالم، قبل أن تصدح تكبيرات في بعض الأحياء وفي مناطق أخرى من القطاع المحاصر والغارق في الظلام. كذلك راحت تصدح أصوات أطفال يردّدون "الله أكبر على الظالمين وعلى العرب الصامتين"، في مناطق أخرى، لا سيّما مدينة خان يونس في الجنوب والتي قد تُعَدّ اليوم أكثر مدن غزة اكتظاظاً بالسكان، إذ إنّ مساحتها أكبر من مساحة مدينة رفح الحدودية مع مصر وهي شهدت النزوح الأكبر من شمالي القطاع. يُذكر أنّ وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) أقامت مخيّماً للنازحين في المدينة، في حين امتلأت المدارس التابعة لها بالهاربين من آلة الحرب الإسرائيلية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى ساحات المستشفيات، بعد الأوامر الإسرائيلية بإخلاء شمالي غزة.

الصورة
مشهد دخان قصف إسرائيلي على غزة (فاضل سنّا/ فرانس برس)
مشهد من القطاع الذي يحاول الاحتلال تحويله إلى رماد (فاضل سنّا/ فرانس برس)

أسوأ من العصر الحجري

"أعادونا إلى العصر الحجري، غير أنّ الطائرات لم تكن موجودة في العصر الحجري لتقتلنا". هذا ما يقوله الفلسطيني حسن الحداد الذي كان يقيم في حي الزيتون، شرقي مدينة غزة، والذي نزح إلى مخيّم خان يونس. هو فقد الاتصال حتى بزوجته، فهي نزحت مع عائلة ابنتهما التي أنجبت ابنها الثالث في أوّل أيام العدوان الإسرائيلي، في حين بقي هو مع أبنائهما الأربعة الآخرين.

ويخبر الحداد "العربي الجديد" أنّه تلقّى أخبار وفيات أفراد من عائلته في مدينة غزة وفي محافظات وسط القطاع، في خلال الأسابيع الثلاثة الماضية، غير أنّه كما كثيرين سواه لم يستطع المشاركة في جنازات هؤلاء، لانقطاع الطرقات وصعوبة المواصلات. ومع انقطاع الاتصالات، لم يتمكّن حينها من معرفة من الذي بقي حياً من أفراد عائلته، بما في ذلك زوجته وابنته وزوجها وحفيدتاه وحفيده المولود حديثاً والذي لم يتعرّف إليه بعد.

يضيف الحداد، الذي يشير إلى أنّه كان قادراً على متابعة بعض ممّا يجري عبر "إذاعة الجزيرة" الوحيدة التي كانت تبثّ حينها، أنّ الاتصال انقطع مع والدته المسنّة في مخيّم دير البلح (وسط قطاع غزة)". ويبرّر القلق الذي شعر به، قائلاً "لم أكن قادراً على الاطمئنان على أي كان".

ويتابع الحداد: "حتى في العصر الجاهلي، من كان يرغب في الاطمئنان على والدته كان يستطيع ركوب جمل أو حصان. لكنّنا في غزة، في هذا العصر، حتى الجمال والأحصنة ممنوعة علينا. وحتى لو امتلكناها، فإنّ طائرات الاحتلال التي تراقبنا سوف تقتلها كما تقتلنا".

الصورة
فلسطيني وسط دمار غزة (سعيد الخطيب/ فرانس برس)
وسط العزل الكلي الذي فرضه الاحتلال على أهالي قطاع غزة (سعيد الخطيب/ فرانس برس)

بعيداً عن شمالي القطاع

في خارج مدينة غزة وشمال القطاع عموماً، كان الأمر يبدو أقلّ وطأة، لا سيّما أنّ العمليات المركّزة لم تكن جنوباً. وفي مدينة خان يونس، دفع انقطاع الاتصالات بعض الغزيين إلى التوجّه إلى مجمّع ناصر الطبي في وسط المدينة، ظنّاً منهم أنّ الاتصال بالإنترنت قد يكون متاحاً هناك. لكنّهم لم يوفَّقوا. وبدلاً من ذلك تبيّن لهؤلاء أنّ أعداد الشهداء والجرحى في ارتفاع.

ويؤكد زهير بربخ، من سكان محيط مجمّع ناصر الطبي، الأمر. فهو كان واحداً من بين هؤلاء. ويصف بربخ انتظارهم أمام المجمّع بأنّه كان "أصعب لحظات حياتي"، مشيراً إلى أنّ "في عائلتي شهداء بالعشرات ومئات الجرحى، وفي كلّ يوم ترتفع الأعداد". يضيف بربخ لـ"العربي الجديد": "لدي شقيقات في كلّ محافظات قطاع غزة انقطع التواصل معهنّ. كذلك لدي خمسة أبناء، أنا عاجز عن حمايتهم، علماً أنّ أحدهم أُصيب في الأسبوع الأوّل من العدوان في ساقه".

وطوال يوم السبت، بعد ليلة الجمعة الرهيبة، ظلّ الاتصال مقطوعاً، ليعود تدريجياً ابتداءً من صباح اليوم الأحد. وإلى ذلك الحين ظلّ القلق سائداً، في دير البلح كما في سائر أرجاء قطاع غزة، في كلّ واحد من أحياء الوسط كما الجنوب والشمال.

وفي سياق متصل، يخبر بربخ أنّ "في بداية الانتفاضة الأولى، كنت طفلاً وكان الجيش الإسرائيلي يفرض حظر تجوّل على مناطق كثيرة من قطاع غزة. لكنّ الناس كانوا يتجمّعون بالقرب من منزل من يملك جهاز راديو، أو كان الراديو يوضَع في أوّل الشارع ليتمكّن جميع شاغليه من الاستماع إلى البيانات العسكرية وكذلك الأخبار الأخرى، بما في ذلك تلك المتعلقة بالمباريات الرياضية". ويكمل أنّ "الأمر تكرّر أخيراً، بطريقة أو بأخرى. فالناس راحوا يتجمّعون للاستماع إلى الراديو، ومعرفة ما يحصل مع انقطاع الاتصالات".

من جهته، يخبر محمود حمّاد أنّه عاش وسط قلق كبير على أقاربه في مدينة غزة الذين لم ينزحوا. هو كان قد وجد مأوى له ولزوجته وأطفالهما الثلاثة في إحدى مدارس وكالة أونروا بالشطر الغربي من مدينة خان يونس. هو نزح من مدينة غزة برفقة عائلة زوجته التي دُمّر منزلها في شمال القطاع، بعدما كانت قد نزحت إلى منزله في منطقة الشيخ عجلين، قبل أنّ يتوجّه الجميع جنوباً.

ويؤكد حمّاد لـ"العربي الجديد" أنّ "القلق راح يتزايد لدى الجميع، فسكان شمال القطاع، لا سيّما مدينة غزة، في خطر. هم لازموا منازلهم وأعدادهم غير قليلة"، لافتاً إلى أنّ "من بينهم من رفض النزوح خوفاً من تكرار نكبة عام 1948 ونكسة 1967. لذا لم يتركوا منازلهم، على الرغم من أوامر الإخلاء الإسرائيلية".

ويقول حمّاد إنّه "في حين انقطع الاتصال بكلّ أفراد عائلتي، إلا أنّه بلغني استشهاد أحد أبناء أشقائي"، مشدّداً على أنّ "ما يحصل في غزة اليوم مجزرة، هي الكبرى في المنطقة. فعندما كانت تقع مجازر في العراق أو سورية أو غيرهما، كان من الممكن للسكان أن يهربوا إذ إنّ الحدود مفتوحة. أمّا نحن في غزة فمعزولون. وأنا لا أعلم بالتحديد كم من الشهداء في عائلتنا سقطوا، وكم من صديق فقدت، كذلك لا أعلم إذا كنت سوف أبقى حياً بدوري أم لا".

الصورة
أهل غزة وسط الدمار (عبد الرحيم الخطيب/ الأناضول)
عناق بعد انقطاع أهل الحي الواحد بعضهم عن بعض خلال العزل الكلي (عبد الرحيم الخطيب/ الأناضول)

اتصال مقطوع مع طواقم الإنقاذ

ولعلّ الخطورة الكبرى التي سُجّلت في ليلة الجمعة ويوم السبت الماضيَين كانت في عدم القدرة على الاتصال بطواقم الإسعاف أو الدفاع المدني. وكان يتوجّب عليها بالتالي تحديد المواقع التي استهدفها الاحتلال الإسرائيلي من خلال تقديرات، أو الاستدلال عليها من خلال سؤال الناس الموجودين في الشوارع.

ويخبر أحمد صالح، المنقذ لدى جهاز الدفاع المدني، أنّهم كانوا يسألون الناس أحياناً: "هل سمعتم دوي انفجار قريب؟". ويشير صالح لـ"العربي الجديد" إلى أنّ "المصابين وسط انقطاع الاتصالات كانوا عاجزين عن التواصل"، الأمر الذي مثّل تهديداً أكبر لهؤلاء. يضيف صالح أنّه "قبل ذلك، على الرغم من رداءة شبكة الاتصالات، فإنّنا كنّا قادرين على تلقّي اتصالات الجرحى أو أهلهم أو أقاربهم أو جيرانهم". لكنّه يبيّن أنّ في خلال ليلة الجمعة ويوم السبت، كان القلق سيّد الموقف، إذ لم يكونوا يعرفون "من استشهد ومن أصيب".

ويصف صالح الوضع الذي كان في ظلّ انقطاع الاتصالات، بأنّه "الأخطر. فالمسعفون وعناصر الدفاع المدني قد يُصابون بمكروه من دون أن يتمكّنوا من إبلاغ أجهزتهم المركزية أو الطواقم الفنية". ويتابع أنّ "الطواقم تدلّ بعضها بعضاً على مواقع القصف، لا سيّما إذا كانت ثمّة حاجة إلى سيارات إسعاف أو مسعفين أو عمّال إنقاذ إضافيين".

المساهمون