العمر المديد... مسنّو الصين في مرحلة الشباب

23 ديسمبر 2021
فرحة بجلسة قص شعر في حديقة (نويل سيليس/ فرانس برس)
+ الخط -

لا تكاد تخلو حديقة في الصين من مكان مخصص للمسنين لممارسة الأنشطة الرياضية. واللافت أن معظمهم يتجاوزون العقد الثامن أو حتى التاسع ويظهرون انسجاماً كاملاً وغير عادي في ممارسة هذه الألعاب، وكأنهم ما زالوا شباباً، ما يطرح تساؤلات حول السرّ الكامن وراء ذلك، خصوصاً أن الصين تعتبر إحدى الدول الأكثر احتضاناً لكبار السن على العالم. 
وبحسب تصنيف الأمم المتحدة، حلّت منطقة ماكاو الإدارية الخاصة في المرتبة الثانية عالمياً على صعيد معدل أعمار المتقدمين في السن، وجزيرة هونغ كونغ في المرتبة السادسة. أما الجمعية الصينية للمسنين فتفيد بأن أكثر من 125 ألف معمر تجاوزوا سن المائة في العام الماضي.
ويرى محللون أن سرّ وجود عدد كبير من المتقدمين في السن هو اعتماد نظام غذائي صحي يخلو من المأكولات الدسمة، فالمطبخ الصيني يخلو من "الأبيضين" (السكر والملح)، ويستخدم طريقة السلق في طهي الطعام بدلاً من الزيوت، كما يركز على تناول كميات كبيرة من الخضار، والابتعاد قدر الإمكان عن اللحوم الحمراء. أما آخرون فيعتقدون بأن طول أعمار الصينيين يتعلق بطبيعة جيناتهم الوراثية.

كونغ فو في الـ 80
يذهب جو فانغ (82 عاماً) عبر دراجته الهوائية كل صباح ثلاثاء إلى حديقة تشاويانغ المجاورة لمنزله في العاصمة بكين، حيث يلتقي أصدقاء، ويمضون نهارهم في ممارسة أنشطة رياضية متنوعة تشمل الركض والمشي والرقص والكونغ فو وتمارين إطالة العضلات، باستخدام أجهزة مخصصة لهذا الغرض في الحدائق.
يقول جو لـ"العربي الجديد": انتظر يوم الثلاثاء بفارغ الصبر فهذا يوم تفريغ الطاقة وتجديد النشاط ولقاء الأصدقاء القدامى، وهو ما اعتدت على فعله منذ 15 عاماً، علماً أن صاحب العمر الأصغر في مجموعتنا يبلغ 76 من العمر، وأكبرهم بسن الـ93، لكنه يأتي برفقة حفيده على كرسي متحرك". يضيف: "فقدنا العديد من الأصدقاء خلال السنوات الماضية. توفي بعضهم، وبات آخرون في عمر متقدم جداً، ويصعب أن يأتوا إلى الحديقة".
ويوضح جو أن نظامه الغذائي يشمل المواظبة منذ وفاة زوجته قبل 12 عاماً على شراء الخضار بنفسه كل صباح، وسلق الطعام بلا وضع أي أنواع نكهات أو إضافات غذائية. ويشير إلى أنه اعتاد أكل الدجاج والأسماك بدلاً من اللحوم الحمراء، ويحرص على تناول كميات وفيرة من الماء والشاي الأخضر والفواكه الطازجة.

ويكشف أنه لم يزر الطبيب منذ زمن بعيد، وأن المرة الأخيرة التي قصد فيها مستشفى كانت حين توفيت زوجته، إذ اضطر لمراجعة طبيب بعدما ارتفع ضغط دمه. ويعتبر أن ابتعاد المجتمع الصيني خصوصاً الجيل الشاب عن الثقافة التقليدية يشكل سبباً رئيساً في ظهور معظم الأمراض، و"نلاحظ ذلك خصوصاً في عدم جلوس أفراد الأسرة الصينية على مائدة طعام واحدة، وجلبهم غالباً وجبات جاهزة وسريعة من مطاعم غربية لا تراعي المعايير الصحية".

تعاليم كونفشيوس
وحول أسرار طول عمر الصينيين، تقول الباحثة شين قوه لـ"العربي الجديد": "يرتبط الأمر في شكل وثيق بجينات شعوب دول شرقي آسيا التي تنضم ثلاث منها إلى قائمة الخمس الأول في العالم على صعيد نسب السكان الأكثر تعميراً، وهي اليابان والصين وسنغافورة، ولا ينتقص ذلك بالطبع من أهمية النظام الغذائي الذي يعتبر عاملاً مهماً في الحفاظ على الصحة وديمومة الشباب مهما تقدم الإنسان في العمر".
وتلفت إلى أن الصين تملك ثقافة خاصة فيما يتعلق بمسألة الطعام، سواء على صعيد الاعتماد على الأرز المسلوق كوجبة أساسية على المائدة، والابتعاد عن الشحوم والدسم والزيوت، أو على صعد تطبيق ثقافة تناول الشاي الأخضر بعد كل وجبة طعام، والذي يوفر فوائد صحية كبيرة عدة على صعيد مساعدة المعدة والجسم في عملية الهضم وحرق الدهون الزائدة".

مسنّو الصين في حركة دائمة (نيكولاس أسفوري/ فرانس برس)
مسنّو الصين في حركة دائمة (نيكولاس أسفوري/ فرانس برس)

تضيف: "تناول الطعام في وقت محدد يشكل أيضاً عاملاً مهماً في الحفاظ على الصحة، إذ يسمح بحصول عملية حرق الغذاء أو ما يعرف بعمليات الأيض في شكل مثالي بين وجبة وأخرى، ما يضمن استمرار بناء خلايا وأنسجة جديدة داخل الجسم، ويساعد في بقاء إفراز الهرمونات وعملها بطريقة طبيعية ومنتظمة، حتى في سن الشيخوخة.
إلى ذلك، يعتبر آخرون أن سرّ تعمير الصينيين يعود إلى تعاليم الفيلسوف كونفوشيوس الذي عاش بين عامي 551 و479 قبل الميلاد، ودعا إلى احتراف كبار السن والاعتناء بهم. وهذه التعاليم لا تزال سائدة في المجتمع الصيني الذي يتخذ من الكونفوشيوسية مرجعاً وأساساً اجتماعياً لمعظم السلوكيات الفردية والجماعية.
ويؤكد صينيون كُثر أنّ تعاليم كونفوشيوس ما زالت حيّة وحاضرة في وجدان الشعب الصيني، وإنّ قيمتها ومكانتها لم تتأثرا أو تتراجعا بمرور الأزمنة والمنعطفات التاريخية التي مرّت بها الأمة الصينية. ويبدون اعتقادهم بأنّ طبيعة الحياة الصناعية والتنافسية الحادة بين الدول دمّرت الروابط الإنسانية بين البشر، ما يشير إلى حاجة اليوم إلى تمثّل روح كونفوشيوس وتعاليمه التي تدعو إلى السلام الداخلي والتناغم بين الناس باختلاف أشكالهم وألوانهم، وصولاً إلى تحقيق التوازن النفسي المطلوب في عالم مضطرب". 

قضايا وناس
التحديثات الحية

ومطلع العام الحالي، أصدرت السلطات الصينية قوانين جديدة حثت الأبناء على الاعتناء بالأجداد، في ظل انشغال الجيل الجديد بأعمالهم وانصرافهم عن أهلهم وذويهم بتأثير الحياة الصناعية. وتضمنت هذه القوانين نصوصاً من تعاليم الفيلسوف كونفوشيوس التي تتحدث عن أهمية احترام المسنين وإظهار الوقار والتقدير لهم، وتلبية احتياجاتهم الأساسية، ودور هذه التعاليم في بناء حضارات الشعوب وتقدمها ثقافياً واجتماعياً.
يذكر أن حوالي مئتي مليون فرد يتجاوزون سن الـ 65 في الصين، ويشكلون نحو 14 في المائة من إجمالي عدد السكان المقدر بـ 1.4 مليار. ويوجد بين هؤلاء 800 ألف مسّن تتجاوز أعمارهم الـ80، و120 ألفاً تخطوا حاجز المائة. وتتوقع السلطات الصينية أن ترتفع نسبة المسنين في البلاد إلى 30 في المائة خلال العقود الثلاثة المقبلة.

المساهمون