لم ينحسر مدّ انتفاضة محافظة السويداء جنوب سورية، على الرغم من مرور 50 يوماً على انطلاقتها، لتعيد الثورة السورية سيرتها الأولى، وتحقق جملة من الأهداف السياسية، وتؤكد أن مطالب السوريين بالتغيير العميق في بلادهم لم تتراجع.
وما تزال هذه الانتفاضة التي أربكت باستمرارها النظام، محط اهتمام أغلب السوريين سواء في داخل البلاد أو في المغتربات، معتبرين أن ما يجري في محافظة السويداء موجة ثانية من ثورتهم التي واجه النظام بالحديد والنار موجتها الأولى، ما أدى إلى مقتل وتغييب واعتقال وتهجير الملايين، فضلاً عن الدمار الكبير الذي أصاب مدناً وأحياء وبلدات.
حراك السويداء... فقدان الأمل في الحل
وبدأت التظاهرات الاحتجاجية في السويداء رداً على قرارات من حكومة النظام عمّقت الأزمة المعيشية لنحو 10 ملايين سوري يعيشون في مناطق سيطرته، ولكن سرعان ما أخذت طابعاً سياسياً صرفاً يعكس فقدان السوريين الأمل في حلّ سياسي قريب لأزمتهم التي طالت بسبب عدم اكتراث النظام بالتوصل لحل يضع حداً لها.
أسقطت الانتفاضة الكثير من الأوراق السياسية من يد النظام، أبرزها ورقة حماية الأقليات
ورفعت انتفاضة السويداء جملة من الشعارات السياسية الوطنية والتي تتماهى مع شعارات الثورة التي انطلقت في عام 2011 وبذل النظام ما بذل من جهود لتحييد طائفة الموحدين الدروز السوريين عنها، إلا أن الحراك الثوري الحالي أثبت فشل هذه الجهود، إذ باتت السويداء في قلب هذه الثورة.
ولعل أبرز ما حققه المتظاهرون في ساحة "الكرامة" في مدينة السويداء التأكيد على وحدة سورية أرضا وشعبا؛ هذه الوحدة المهددة اليوم بسبب تحول البلاد إلى مناطق نفوذ لقوى إقليمية ودولية فاعلة في الملف السوري. ونسفت شعارات المتظاهرين التي تؤكد كل يوم أن "الشعب السوري واحد" كل مزاعم النظام حول وجود نوايا انفصالية لدى متظاهري السويداء والتي يرددها في وسائل إعلامه باستمرار، في محاولة يائسة لإفراغ الانتفاضة من مضامينها الوطنية، لتأليب الشارع السوري ضدها.
كما أكد المتظاهرون أن الحلّ في سورية سياسي يتحقق بتنفيذ مضامين القرار الدولي 2254 الصادر منذ عام 2015 ويعرقل النظام وحلفاؤه تطبيقه حتى اللحظة في محاولة لتجاوزه، إلا أن انتفاضة السويداء أعادته إلى واجهة المشهد السوري بزخم أكبر.
وأسقطت هذه الانتفاضة الكثير من الأوراق السياسية من يد النظام، لعل أبرزها ورقة حماية الأقليات التي رفعها في وجه المجتمع الدولي منذ عام 2011 واتخذ منها ذريعة للفتك بالسوريين المطالبين بالتغيير. فالدروز السوريون أثبتوا أن النظام كان يتلطى خلف هذه الأقليات محتمياً بها وليس العكس، وأن مطالب التغيير لا تتوقف عند مكون معين من مكونات الشعب السوري.
ووجد النظام نفسه عاجزاً تماماً، سياسياً وأمنياً وعسكرياً، أمام الحراك الثوري في السويداء حيث لا يمكنه إلصاق تهمه الجاهزة به، نظراً للطبيعة المذهبية لسكان محافظة السويداء التي اغتنمت خصوصيتها للتعبير عن رفضها المطلق لهذا النظام الذي يتداعى اقتصاده بسبب رفضه التعاطي إيجاباً مع كل مبادرات الحل السياسي.
وتجاوز حراك السويداء بعض الأخطاء التي وقعت بها الثورة السورية في موجتها الأولى، خصوصاً لجهة غياب القيادة السياسية الواضحة، إذ بات الشيخ حكمت الهجري الرئيس الروحي لطائفة الموحدين الدروز في سورية هو قائد هذا الحراك، وتحولت مضافته والتي تقع على تلة ترتفع 1200 متر في بلدة قنوات إلى عنوان سياسي بارز للحراك الثوري، تزوره مختلف الفعاليات الاجتماعية والسياسية في المحافظة.
خطاب واحد وتجاوز الأخطاء
ووجد الخطاب الوطني الذي تميّز به الهجري ترحيباً واسعاً من قبل الشارع السوري المعارض الذي ساند حراك السويداء من خلال التظاهرات الحاشدة التي تخرج كل يوم جمعة في الشمال السوري، بل إن التظاهرات المساندة خرجت في مناطق سيطرة "هيئة تحرير الشام" (جبهة النصرة سابقاً) و"قوات سوريا الديمقراطية" (قسد)، في تأكيد على وحدة السوريين، وهو ما يحسب لحراك السويداء.
ويعتقد المحلل السياسي رضوان زيادة، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "حراك السويداء نقض رواية النظام حول نهاية الحرب لصالحه، كما نقض خطابه عن أن الأقليات في سورية تدعم بشار الأسد". ويرى زيادة أنه "ربما لم تحقق التظاهرات التغيير المنشود، ولم يكن ذلك متوقعاً، ولكن استمرارها يلعب دوراً في المزيد من الضغوط على الأسد".
بسام أبو عدنان: الاتصالات الخارجية مع الرئاسة الروحية للدروز في سورية لها دلالات عدة
وفي السياق، يعتبر الباحث في مركز "جسور" للدراسات بسام أبو عدنان، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "انتفاضة السويداء أعادت الزخم للحراك السلمي، وأظهرت ضعف النظام وعدم قدرته على ضبط مناطق سيطرته، وتأمين الحاجات الأساسية للقاطنين بها". ويتابع: "الاتصالات الخارجية مع الرئاسة الروحية للدروز في سورية لها دلالات عدة، أبرزها أن الدول باتت لا تنظر إلى سورية كدولة مركزية لها قيادة يمكن التعامل معها".
ودخلت انتفاضة السويداء دائرة اهتمام الدول المعنية بالملف السوري وخصوصاً الولايات المتحدة، حيث أجرى نائب مساعد وزير الخارجية الأميركي، إيثان غولدريتش، أواخر شهر سبتمبر/أيلول الماضي اتصالاً بالزعيم الروحي لطائفة الموحدين الدروز الشيخ، حكمت الهجري، للتعبير عن دعم بلاده لـ"حل سياسي يتوافق مع قرار مجلس الأمن 2254".
وكان النائب الأميركي الجمهوري فرينش هيل، أجرى اتصالاً مع الهجري، دام أكثر من نصف ساعة، وتبعه اتصال مماثل من النائب الديمقراطي برندن بويل، والذي أشاد بسلمية الحراك الثوري في السويداء. وكذلك اتصلت النائبة في البرلمان الأوروبي، ورئيسة لجنة الشؤون الخارجية، ومسؤولة الملف السوري عن كتلة "الخضر" البرلمانية، كاترين لانغزيبن، بالشيخ الهجري، وهو ما يؤكد الدور الذي يلعبه الحراك في محافظة السويداء في إبقاء القضية السورية في دائرة الاهتمام الإقليمي والدولي.
ويرى الناشط المدني عدنان أبو عاصي، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "الحراك الشعبي في السويداء تجاوز حملات الإجهاض والتخوين"، مضيفاً: "لدينا ثوابت وطنية لعل أهمها القرار الدولي 2254، وهو محط إجماع جماهير الحراك بكافة مكوناته السياسية والمدنية، باعتباره الحل السوري والوطني الأفضل لجميع السوريين". ويشير أبو عاصي إلى أن الحراك "كشف زيف النظام وادعاءه الممجوج حول حماية الأقليات في سورية"، مضيفاً: "أعاد الحراك القضية السورية إلى الواجهة، وأوقف إلى حدّ ما مسيرة التطبيع العربية مع النظام السوري وأحرج المهرولين".
من جهته، يبيّن الناشط صالح العقباني في حديث مع "العربي الجديد"، أن "حراك السويداء هو امتداد طبيعي للثورة السورية التي بدأت عام 2011"، مضيفاً أن "ما تشهده السويداء هو استمرار لنضال أبناء الشعب السوري للتحرر من التسلط والطغيان، وتطبيق القرار الدولي 2254 هو الحد الأدنى لمطالب هذا الحراك". ويلفت العقباني إلى أنه "بعد نحو 50 يوماً من التظاهرات، وصلت أصوات الناس إلى المنظمات والهيئات الدولية الفاعلة في المسرح السوري، وبات على الجميع، بمن فيهم النظام الحاكم، أن يسعى إلى حلّ الأزمة السورية قبل أن تكبر دائرة الاحتجاج وتصل إلى باقي المحافظات السورية".
وكان الحضور النسائي وزخمه الواسع لافتاً في الحراك الثوري في السويداء، في تأكيد على "دور المرأة السورية البارز والمحوري في الثورة"، وفق الناشطة سوسن الشامي في حديث مع "العربي الجديد". وتضيف الشامي: "شاركت المرأة إلى جانب الرجل في الانتفاضة، منذ الساعات الأولى، وأبدعت في تحريك الشارع وتنظيمه وتهذيبه عبر خطاب متماسك يدعو لقيام دولة علمانية يحكمها القانون الذي يساوي بين جميع مكونات المجتمع".