يوميات الحرب: شهادة فلسطينية في باريس محاطة بالنفاق الفرنسي

يوميات الحرب على غزة: شهادة فلسطينية في باريس محاطة بالنفاق الفرنسي

26 أكتوبر 2023
خانيونس، غزة، أمس (مصطفى حسونة/الأناضول)
+ الخط -

أول ما ألقي النظر عليه فور استيقاظي هي عشرات الإشعارات المرصوصة على شاشة هاتفي من جميع الصفحات التي أتابعها عن فلسطين. "عاجل.. 10 شهداء برصاص الاحتلال في الضفة الغربية… صفارات الإنذار تدوي في الجليل المحتل… كتائب القسام تقصف تل أبيب رداً على استهداف المدنيين… الاحتلال الإسرائيلي يشن غارات مكثفة على غزة...".

أغلق عينيّ مجدداً بعد رؤية ما يقارب الأربعين أو الخمسين منشوراً كل صباح، محاولة استجماع قوة كافية لمواجهة يوم آخر في حياة فلسطينية محاطة بالنفاق الفرنسي المتعاطف (بأشد الطرق دراميةً) مع المقاوم الأوكراني، ولا يكف عن "إدانة" أفعال الفلسطينيين، وكأنهم الحكم الأعلى ورأس الحكمة في هذا العالم.

لا أعرف كيف يمكن للحياة أن تستمر بشكل طبيعي، عندما تذاع مجازر التطهير العرقي على التلفاز ونحن نشجع هذا أو ذاك من أرائكنا سالمين، كمن يشاهد مباراة كرة قدم. لكنها تستمر رغماً عني. في غزة تقطع الكهرباء ويحل ظلام لا تنيره سوى قذائف الاحتلال والفسفور الأبيض. يمر الليل بطيئاً على من تقبّلوا الشهادة قبل حلولها. في الليل تتكدّس الجثث في مستشفيات غزة، وتتكدّس الإشعارات على شاشات هواتفنا. حتى يأتي الصباح كاشفاً عن مشاهد مرعبة.

لم تعد هناك مساحة لإشعارات تشير إلى حياة طبيعية، ولم أعد أملك القدرة على الرد على تلك التي تصلني من أصدقائي القلقين. أتصل بصديقي الأفغاني، الذي بدوره يتألم على آلاف الموتى إثر الزلزال الذي ضرب بلدته بالتحديد، والذي تزامن مع حرب غزة. أخبره أني اشتقت للجلوس معه على ضفة قناة سان مارتان، حيث اعتدنا الاستماع للموسيقى والتحدث بأمور الحياة في باريس والتي تبدو كلها سخيفة الآن.


جئت إلى فرنسا كامرأة حرة جاهزة لمجابهة العالم الأبوي الذي لطالما أنهكني من دون أن يكسر من عزيمتي

كان الانتقال إلى فرنسا لوحدي، كطالبة من عائلة فلسطينية تعتمد على مرتب يكاد لا يذكر من منظمة التحرير الفلسطينية، ليس بالأمر الهين. إلا أنني وجدت جميع المصاعب المصاحبة للانتقال إلى باريس تستحق العناء، على الرغم من أنني لا أتحدث الفرنسية ولم أحصل على دعم مادي كاف.

فبعد سنوات طويلة من التخطيط والحلم بالانتقال إلى هذه المدينة العظيمة، ودراسة حقوق الانسان في واحدة من أفضل الجامعات عالمياً في مجال حقوق الإنسان والعلوم السياسية، هأنذا هنا. طالبة في جامعة العلوم السياسية في باريس، أسكن في الدائرة العشرين بالقرب من بلفيل، الأحب إلى قلبي.

جئت جاهزة لتشرب اللغة الفرنسية وموسيقاها التي أحببتها منذ الصغر (ومنذ اكتشفت ووقعت في حب إيديث بياف وإيف مونتان بعمر العاشرة). جئت جاهزة لاغتنام كل فرصة كبيرة وصغيرة للتعلم واكتساب كل ما أقدر عليه من قوة ومعرفة تمكنني من خلق تغيير ملموس في مجال حقوق النساء.

ينهكني النفاق الفرنسي

من جهتي، جئت إلى فرنسا كامرأة حرة جاهزة لمجابهة العالم الأبوي الذي لطالما أنهكني في الأردن، من دون أن يكسر من عزيمتي. والآن، ينهكني النفاق الفرنسي بمعاييره المزدوجة. في هذا البلد العريق الذي يحتفي بتاريخه المبني على الثورات وشعار "حرية - مساواة – أخوة"، لم يعد يمكنني التظاهر في الشوارع.

ذات الشوارع التي شهدتُ فيها تظاهرات لا تعد ولا تحصى خلال السنة التي أمضيتها هنا منذ وصولي، وحيث شاركت فيها رفضاً لقانون سن التقاعد الذي لا تأثير له علي، لكنني أحببت الروح الفرنسية الجاهزة للتظاهر دائماً مهما كانت الظروف.

لم يوقف عنف الشرطة ولا الغاز المسيل للدموع الناس عن التظاهر يوماً، إلا أن الحكومة الفرنسية تمكنت من إصدار التهديد المثالي: سحب الإقامات من الأجانب.

  تظاهرة داعمة للفلسطينيين، في إدمونتون ـ كندا، الاثنين (أرتور ويداك/الأناضول)
تظاهرة داعمة للفلسطينيين، في إدمونتون ـ كندا، الاثنين (أرتور ويداك/الأناضول)

أجد نفسي اليوم أمام خيارين اثنين: مساندة شعبي وممارسة حقي في التظاهر والتنفيس عن الغضب العارم في داخلي، أو حماية مستقبلي ومستقبل عائلتي في هذا البلد الذي يرفض الاعتراف بإنسانية شعب بأكمله، انتُهكت ضده جميع القوانين الدولية.

أكلم أمي بشكل يومي، صوتها متألم لكن يشوبه الأمل دائماً. في أكثر اللحظات ألماً وفي أكثر اللحظات انهزاماً، وفي غياب اليقين الكامل حول المستقبل، هنالك حقيقة واحدة يوقنها كل فلسطيني على هذه الأرض: لن يتم التخلي عن القضية ولو بقي منا فلسطيني واحد. وإن هزمنا بالكامل، فليتذكرنا التاريخ كشعب أُبيد قبل أن يستسلم.

أشاهد فيديو لأب محطم يحمل في ذراعيه ابنته المقتولة بقذائف الاحتلال بعد أن انتشل جسدها الهزيل من تحت الركام، رافعاً علامة النصر بإصبعيه الملطختين بدمائها صارخاً "لن نستسلم". ومن ثم أرى صورة لمستوطنة إسرائيلية قررت الرحيل قائلة: "هذه الأرض لا تستحق الموت من أجلها"، وعبارة أسفل المنشور تسأل: "هل عرفت الآن من صاحب الأرض؟".

بينما ترتفع حصيلة الشهداء في غزة وتزداد فيديوهات انتشال الأطفال من تحت الركام، وفيديوهات للآباء يحملون بقايا أطفالهم في أكياس بلاستيكية، ومشاهد الجثث الموزعة في أراضي المستشفيات، تطاردني الصفحات الأولى للصحف الفرنسية القلقة بكل ما أوتيت من إنسانية انتقائية منافقة وانتماءات بدائية جاهلة، على القتلى الإسرائيليين على يد "الإرهاب"، متناسية فظائع الاحتلال التي لم تعد تخفى عن العالم وكتب التاريخ وتقارير منظمات حقوق الإنسان العالمية.

يهتز الغرب المتحرر المناشد بحقوق الإنسان لمقتل مستوطنين في حفل على بعد كيلومترات قليلة من غزة المحاصرة في ظروف غير إنسانية، مع شح في المياه والأدوية والأطعمة وكل أساسيات الحياة. وكيف لا؟ عندما يرى الغرب أناساً يشبهونهم، بيض يحتفلون ويشربون ويرقصون مثلهم.

ربما يجدر بأهل غزة القيام ببعض "التحديثات" لأساليب حياتهم حتى يتلقوا اهتماماً ودعماً إنسانياً أكبر. فلو "تحرر" الغزاويون بالشكل الكافي حتى يتم قصفهم بملابس أوروبية وفساتين قصيرة في بارات مطلة على البحر (الملوّث والمحدود على الصيادين) عوضاً عن موتهم الممل في بيوتهم أو في مدارس أونروا، لربما "تحرروا" من الحصار.

لكن للأسف الشديد لا يوجد حزب يساري أخضر ليبرالي في غزة يخطب بالناس عن البيئة وأهمية إعادة تدوير القنابل والصواريخ التي تسقط عليهم إلى مزهريات وأعمال فنية تدعو "لممارسة الحب" (Make love not war) عوضاً عن الحرب.


تطاردني الصفحات الأولى للصحف الفرنسية القلقة بكل ما أوتيت من إنسانية انتقائية منافقة

"عاجل: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى أكثر من 800 بعد قصف إسرائيل لمستشفى المعمداني في وسط غزة"

أمطرت طائرات الاحتلال ملايين المنشورات في سماء غزة منذرة 1.1 مليون إنسان بضرورة إخلاء منازلهم "حتى إشعار آخر" والانتقال إلى الجنوب... الذي بدوره يتعرض للقصف، وقد استهدفت إسرائيل المعبر الوحيد مع مصر (رفح) لمنع أية مساعدات إنسانية من الدخول إلى غزة. وكان رد العالم (بالشكل الأخص الولايات المتحدة): "تحذير عادل".

وفي 17 أكتوبر/تشرين الأول الحالي، تم قصف مستشفى المعمداني، ولم تعد الحياة كما هي. استيقظت لعشرات الإشعارات مجدداً، يساوي كل منها أرواح المئات من الأطفال. في هذه اللحظة تأكدت من أنه لا يوجد، حقيقةً، جريمة فظيعة بما فيه الكفاية يمكن أن ترتكبها إسرائيل لصعق العالم وتغيير نظرته لمجريات الأمور.

نشر الجيش الإسرائيلي الأكاذيب حول مصدر الصواريخ بأنها أتت من غزة، واختار العالم تصديقها كما صدق كذبة قطع رؤوس الرضّع (التي نفاها البيت الأبيض من دون أن يهتم أحد لذلك). فإسرائيل بلد خلقه الغرب وجعل منه طفلاً مدلّلاً لم يقل له أحد "لا" طيلة حياته، ترعرع ليصبح وحشاً بحماية عالمية غير مشروطة علمته كيفية بناء سرديته لتبرير جرائمه.

منح الغرب إسرائيل "حقها في الدفاع عن نفسها" مهما كانت الطرق والوسائل، من دون أن تُحاسب يوماً على ما تقوم به، متبنياً سرديتها بأن وجودها هو الطريقة الوحيدة لضمان أمن اليهود في العالم من الظلم الذي تعرضوا له لآلاف السنين. ذلك الظلم ذاته الذي أتى من الغرب دائماً وأبداً.

كما تقع إسرائيل خارج نطاق المسؤولية والأحكام والقوانين والمعايير التي تطبق على باقي العالم، يقع الفلسطينيون خارج نطاق الإنسانية لأنهم لا يكتفون بدور الضحية المثالية.

أرى صور المهاتما غاندي منتشرة بشكل مضحك خلال هذه الأيام، وكأن غاندي كان سينتصر لو أنه في فلسطين. هل نسي هؤلاء "معركة الأمعاء الخاوية" التي بدأت في سجون الاحتلال بتاريخ 17 إبريل/نيسان 2012 حين امتنع 1600 سجين عن الطعام؟

هل نسي هؤلاء الذين يملأون أوقاتهم الثمينة بإدانة "حماس" وأفعالها "الإرهابية" سامر العيساوي، الذي سجل أطول إضراب عن الطعام في سجون الاحتلال والذي استمر طيلة 227 يوماً رفضاً لاعتقاله الإداري من دون محاكمة؟ لن أقول إن غاندي كان سيتعفن في سجون الاحتلال. لكن سأقول إن فلسطين قدمت ما يزيد عن 1600 غاندي، ولم يكن بوسعهم إنهاء الاحتلال.

هل نسي هؤلاء رقيقي القلب مسيرات العودة المسالمة في غزة التي حصلت كل يوم جمعة في عامي 2018 و2019، حين تعرضوا للقنص مثل الحيوانات في البرية؟ هل غاب عن نظرهم الشعراء والكتاب والفنانون والموسيقيون الفلسطينيون الذين حاربوا بفنهم وكتاباتهم؟ لم يستيقظ الشعب الفلسطيني في يوم من الأيام وكان قد قرر استخدام العنف من أجل "التغيير" أو قتل الملل.

بل لجأنا للمقاومة المسلحة عندما فشلت كل الوسائل الأخرى التي جربناها مراراً وتكراراً. نعم، المقاومة المسلحة التي تمكنت من إعادة توحيد الفلسطينيين في كل مكان من الداخل المحتل وحتى دول الشتات، وتمكنت من إيقاف عملية التطبيع بين السعودية وإسرائيل.

وكغيرها من حركات التحرير الوطني عبر التاريخ، يتم وصمها بـ"الإرهاب" إلى أن تُجبر سلطات الاحتلال على التفاوض معها. أرجو من كل من ينتقد المقاومة الفلسطينية على استخدامها العنف أن يقدم لنا بدائل لم نجربها من قبل، فقد شبعنا من الموت.

ذنب الشعب الفلسطيني أنه موجود

لنتوقف، رجاءً، عن النفاق. المعضلة الفلسطينية لا تتعلق بأساليب المقاومة. لم تعد المسألة مسألة توثيق أو تقرير، لم تعد مسألة اختلاف في السرديات، ولم تعد حتى مسألة حقوق إنسان. بل هي في الأساس مسألة وجود. ذنب الشعب الفلسطيني أنه لا يزال موجوداً، والعالم يساند إسرائيل في إيجاد حل دائم لهذه المشكلة.

إن خيبتي العظيمة في فرنسا لا تأتي من مساندة إمبراطورية استعمارية سابقة لحكومة استيطانية أخرى، فهذا ليس بالمفاجئ. خيبتي الحقيقية تكمن في هؤلاء اليساريين الذين يعربون عن دعمهم للقضية بشرط أن يبقى هذا الدعم سهلاً عليهم ولا يعرضهم لمواجهة الأسئلة الحقيقية، مثل: ما مصير الفلسطينيين الحقيقي إن توقفوا عن المقاومة بالسلاح؟ ألا يعني ذلك استسلام الفلسطينيين التام لنكبة متواصلة؟

لكن ما لا يفهمه الكثير من "مناصري" القضية من الغرب أنه لم يعد لدينا ما نخسره، وأن الفلسطيني، منذ بداية الاحتلال، فضّل الموت على العيش الذليل.

لربما هذه مفاهيم يصعب فهمها هنا، لكن إن كان الغزي يستطيع حمل ابنته الميتة بين يديه ويصرخ "لن نستسلم"، من أنتم لتؤكّدوا عكس ذلك؟ من أنتم لتصدروا الأحكام على ما يستحق أو لا يستحق الموت من أجله، وعلى أفعال شعب عاش لمدة 16 عاماً تحت حصار جهنمي لن تقدروا على عيشه أسبوعاً واحداً؟ كيف للآمن في منزله أن ينتقد من يحاول تحرير نفسه بنفسه بعد أن خذله العالم بأجمعه؟


ما لا يفهمه الكثير من "مناصري" القضية من الغرب أنه لم يعد لدينا ما نخسره

فشل الغرب بمقارنة المقاومة المسلحة الفلسطينية بتلك الأوكرانية على الرغم من نجاحه بخلق مقارنات صاعقة ببعدها عن أي منطق تاريخي أو سياسي. تفهّم الجميع حاجة أوكرانيا الضعيفة أمام الوحش الروسي الكبير للدفاع عن نفسها بكل ما أوتيت به من سعة، بدعم عالمي ومعنوي امتد من الصلوات وحتى الأسلحة.

يعاد نشر فيديو لرئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين تقول فيه: "إن الهجمات التي تستهدف البنية التحتية المدنية بهدف واضح، هو قطع إمدادات المياه والكهرباء والتدفئة عن الرجال والنساء والأطفال، مع قدوم فصل الشتاء، هي هجمات إرهابية خالصة. وعلينا أن نطلق عليها هذا الاسم…".

أستمع وأنا مذهولة. نعم! إن قطع الكهرباء والماء عن أهل غزة، مع قدوم فصل الشتاء، هو إرهاب! أستمر بمشاهدة الفيديو بسذاجة ويقين من أن قصف مستشفى المعمداني كان له أثر على الغرب. يستمر الفيديو: "... هذه هي اللحظة المناسبة لمواصلة المسار، وسندعم أوكرانيا طالما…".

وينتهي الفيديو بشكل مقصود بعد كلمة "أوكرانيا"، ليتبين أنه فيديو قديم أعربت فيه رئيسة المفوضية عن الدعم لأوكرانيا بطريقة لن تقدم أبداً لفلسطين. تنطبق جميع الشروط التي جعلت من الغرب الداعم الأكبر لأوكرانيا أمام الاحتلال الروسي على فلسطين، وبالأخص غزة.

من المضحك (المبكي) أنه إن استرجعنا كل تغريدات وخطابات الدعم ضد حرب روسيا واستبدلنا "أوكرانيا" بكلمة "غزة" سيبقى ذات المنطق حاضراً.

مبان مدمّرة في غزة، أمس (أحمد حسب الله/Getty)
مبان مدمّرة في غزة، أمس (أحمد حسب الله/Getty)

على سبيل المثال، غرد الرئيس ماكرون في 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2022 ما يلي: "وقعت تفجيرات ضخمة اليوم في أوكرانيا (يمكن استبدال أوكرانيا بـ"ضد غزة")، مما أدى إلى ترك جزء كبير منها دون ماء أو كهرباء. إن أي هجوم يستهدف البنية التحتية المدنية يشكل جريمة حرب ولا يمكن أن يمر من دون عقاب". إلا أن التغريدة لم تكن عن غزة، بطبيعة الحال.

الفظائع الدعائية

نجح الغرب في خلق المقارنات الصادمة، فسُمي السابع من أكتوبر "الحادي عشر من سبتمبر/أيلول الإسرائيلي". إن وجه الشبه الوحيد بين 7 أكتوبر و11 سبتمبر هي الفظائع الدعائية (atrocity propaganda)، التي بررت يوماً احتلال العراق وقتل مليون من سكانه، والتي تستخدم اليوم بالطريقة ذاتها لتحديد مصير أكثر من مليونين من سكان غزة.

إلا أن المقارنة الأكثر بشاعة هي مقارنة مقتل المستوطنين الإسرائيليين بمجزرة صبرا وشاتيلا [مجزرة صبرا وشاتيلا: مجزرة حصلت بحق فلسطينيين مدنيين غير مسلحين في مخيمات اللاجئين في لبنان، أقدمت عليها كتائب مسيحية عنصرية من دون أية دوافع تذكر، سوى أنها عنصرية كارهة للفلسطينيين وبالأخص المسلمين منهم. تمت هذه المجزرة برعاية ودعم إسرائيل، ذات الكيان الذي جعل من هؤلاء الفلسطينيين لاجئين بالأساس].

لسوء الحظ كان عليّ الاستماع إلى "مناظرة" حول هذا التشبيه خلال إحدى الجلسات، مع فرنسيين يساريين ليبراليين داعمين لفلسطين، وهم لا يعون أنهم يتبنّون من خلال هذا التشبيه الدعاية الإسرائيلية. استمر نقاشهم نحو الساعة ونصف الساعة، ما بين هذا وذاك، ما بين رافض ومؤيد. تنقلت بعيني من متحدث إلى آخر والنار تغلي في دمي.

لم يأبه أحد من الجالسين بمعرفة رأيي في الموضوع، كوني الفلسطينية الوحيدة في الجلسة. لم يدعُ الفضول أحداً منهم لطرح السؤال عليّ شخصياً. منعني ضعف تمكني من اللغة الفرنسية من التدخل، إلا أنني أفهم الفرنسية بشكل كاف لفهم الحديث الذي كان يجري بينهم.

وعلى الرغم من أن جميع الموجودين يفهمون اللغة الإنكليزية (وحتى بعضاً من العربية)، استمروا في نقاشهم من دون أي اعتبار لوجودي. ذهبت إلى الحمام لشدة خنقي أحاول استجماع قوتي.


إن استبدلنا "أوكرانيا" بكلمة "غزة" سيبقى ذات المنطق حاضراً

اعتدت إخبار أمي بكل ما يحصل معي في يومي، من باب إشعارها بأنها حاضرة معي. لكني في ذلك المساء لم أقوَ على إخبارها بما شهدت. أمي التي عاشت هي وكامل عائلتها في شاتيلا وقت المجزرة. أمي التي أخبرتني عن أيام الجوع في المخيمات وربط النساء لبطونهن للتخفيف من حدة الألم.

أمي التي نظرت إلى صور المذبحة أثناء تحضيري لواجب مدرسي عنها قبل سنوات عديدة، مؤشرة بإصبعها نحو بيوت محاطة بالجثث تخبرني بأسماء من عاش فيها. "شايفة هاد البيت؟ بعدو بشارعين عاليمين كنت أنا وستك عايشين"، وأنا أستمع وأنظر إليها مدهوشة بتلك المرأة العظيمة التي عاشت كل ما عاشته ولا تزال تقوى على الحياة.

صاحبت المقاومة عائلتي منذ البداية، فتعرفت أمي اللاجئة على أبي في مخيمات لبنان، حين كان جندياً مقاوماً في "الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين". التقيا في الحرب، وتزوجا في الحرب، وأنجباني في الشتات مؤكدين علي أنا وإخوتي بأن وجودنا بحد ذاته هو رد فعل على الاحتلال. أبي من عائلة مسيحية من بيت لحم وأمي من عائلة مسلمة من حيفا، ولولا الاحتلال والشتات وظروف الحرب التي جمعتهما في ذات المخيم، لم أكن لأوجد.

كيف أخبرك يا أمي أن الفرنسيين يشبِّهون مقتل المستوطن في أرضك بمقتل أهلك في صبرا وشاتيلا؟ كل الكتب التي قرأوها أو نشروها لن تغنيهم عن تجربتك أنتِ هناك. لكن لن يسألك أحد عن رأيك، لأننا فقدنا حتى الأحقية في سرد قصصنا. يعلّمنا الفرنسيون وغيرهم من الغرب "الحر" كيف نعيش... وكيف نموت.

ينشر بالتعاون مع أوريان 21
https://orientxxi.info/ar