اليمين المتطرف الأوروبي يخالف ترامب: حسابات جديدة للعلاقة ببوتين بعد الاجتياح

28 فبراير 2022
صحافية ترفع رسماً لبوتين ولوبن وترامب، موسكو 2016 (Getty)
+ الخط -

فيما تدور رحى الحرب في أوكرانيا، بين الجيش الأوكراني من جهة، والجيش الروسي والقوات الانفصالية الأوكرانية المؤيدة لروسيا من جهة أخرى، بعد اتخاذ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قراره بغزو هذا البلد، يجد اليمين المتطرف الغربي، وخصوصاً الأوروبي، نفسه، في موقف صعب، بعدما بنى علاقات علنية وأخرى سرية مع الكرملين، منذ سنوات، وأبدى مراراً إعجاباً بالقيادة الروسية التي هيمن عليها بوتين منذ أكثر من عقدين.

ولا يمكن اختصار الارتباك الذي أبداه عددٌ من وجوه اليمين الراديكالي في الغرب، والذي تبّدى بصمتهم أو بإدانتهم الخجولة للغزو، المتناقضة مع إشادات صريحة سابقة بالقيادة الروسية، أو حتى بتجنب بعضهم اليوم توجيه الانتقاد المباشر لسيّد الكرملين في معرض إدانتهم للاجتياح، بالعامل الانتخابي وحده، الذي يحتّم على هؤلاء التماهي مع رأي عام غربي مصدوم بغالبه من "العدوان الروسي غير المبّرر"، بل الأكبر والأشد خطورة على القارة الأوروبية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

فإذا كان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، الذي بات يعدّ أحد أهم الوجوه السياسية الملهمة لليمين المتطرف الأميركي، هو وحده من لا يجد حرجاً في الإشادة بـ"ذكاء" الرئيس الروسي، فإن المشهدية التي يرسمها بوتين اليوم في أوروبا، تبدو أكبر من قدرة اليمين المتطرف الأوروبي، على ابتلاعها أو تقبلها، بل قد تدفعه إلى تبديل بعض حساباته، وإعادة صوغها بناء على ما تجلى من الطموحات في روسيا لاستعادة "أمجاد" الاتحاد السوفييتي السابق.

لا يقتصر الارتباك على وجوه اليمين المتطرف، بل على شخصيات من اليمين الوسطي، أو نخب سياسية مالية في أوروبا

ولا يقتصر ذلك فقط، على اليمين المتطرف الأوروبي، الذي دعم بعضه الحرب الروسية على جورجيا في عام 2008، وضمّها في عام 2014 شبه جزيرة القرم، بل ينسحب على وجوه من اليمين الأوروبي "الوسطي"، أو نخب سياسية - مالية في أوروبا، بنت طوال عقود، شبكة مصالح وعلاقات وطيدة مع موسكو وأوليغارشيتها. ويسري ذلك على شخصيات نافذة ومعروفة وقيادية سابقة، من ألمانيا إلى النمسا، ومن إيطاليا إلى فنلندا والسويد والمجر.

وتختلف القراءة لمواقف اليمين المتطرف الغربي، أو "اللامواقف"، بين تلك  الصادرة في الولايات المتحدة، أو في أوروبا، أو حتى في أميركا اللاتينية، حيث كان الرئيس البرازيلي جايير بولسونارو، الملقب بترامب البرازيل، أحد آخر الرؤساء الذين زاروا موسكو، والتقوا بوتين، قبل الغزو الروسي لأوكرانيا.

ترامب يشيد بـ"ذكاء بوتين"

وفي تصريحين في أقل من أسبوع، خرج الرئيس الأميركي السابق، الذي واجه العزل بتهمة التواطؤ بين حملته الرئاسية في عام 2016، وموسكو، عن الموقف الأميركي الرسمي المدين للاجتياح الروسي، والصادر أيضاً بشكل عام عن جميع النخب السياسية في الحزبين الجمهوري والديمقراطي.

ولا تأتي هذه الإدانة الأميركية، أصلاً، من موقع المتفرج، حيث تقود الولايات المتحدة حلف شمال الأطلسي، الذي يرى فيه الكرملين تهديداً لروسيا في شرقي أوروبا، وحيث أن موسكو تتهم واشنطن بسعيها إلى محاصرتها في خاصرتها الأوروبية، وبإفشال التفاوض حول الأزمة الأوكرانية، والقبول بمطالبها بالضمانات الأمنية.

لكن ترامب، آثر توجيه الاتهام لخلفه جو بايدن، ولحلف "الناتو"، بالتسبب بهذه الحرب، حيث اعتبر أول من أمس السبت، خلال اللقاء السنوي "مؤتمر العمل السياسي للمحافظين" في مدينة أورلاندو بولاية فلوريدا، أن سبب الغزو الروسي لأوكرانيا هو "ضعف" بايدن، مشيداً بـ"فكر" بوتين.

وقال ترامب: "كما يعرف الجميع، هذه الكارثة المروعة ما كانت لتحدث لو لم يتم تزوير انتخاباتنا"، معتبراً أن حلف شمال الأطلسي يتسم "بعكس الذكاء" لفرضه عقوبات على روسيا بدلاً من العمل على "تدميرها، على الأقل نفسياً". وأضاف أن "المشكلة لا تكمن في أن بوتين رجل ذكي، وهو بالطبع ذكي، بل في أن قادتنا أغبياء جداً".

وكان ترامب قد وصف يوم الثلاثاء الماضي، اعتراف الرئيس الروسي بمنطقتي دونيتسك ولوغانسك الانفصاليتين في شرقي أوكرانيا، بأنه عمل "عبقري"، معتبراً في الوقت ذاته أن الأزمة ما كانت لتحدث أبداً في ظلّ إدارته الجمهورية.

واعتبر ترامب أن تكتيكات بوتين كانت "ذكية"، وأن الولايات المتحدة يمكن أن تطبق مثل هذه التكتيكات عند حدودها مع المكسيك. وذكّر بالعلاقة المتينة التي كانت تجمعه ببوتين، مضيفاً أن الأخير "لم يحصل على ما أراده دائماً فحسب، ولكنه يزداد ثراء من ارتفاع أسعار النفط والغاز".

اليمين المتطرف الأوروبي: إدانة خجولة لروسيا

لكن اليمين المتطرف الأوروبي، الذي يتماهى مع عدائية روسيا لفكرة الاتحاد الأوروبي، ويرى فيها دولة "قومية"، وانعكاساً روسياً لأيديولوجيته المؤمنة بالتفوق الأبيض، أو المحاربة للإسلام المتطرف (ما أظهره اليمين المتطرف من دعم وتأييد للتدخل الروسي في سورية)، لم يكن حتى الآن، بمثل جرأة ترامب. وتعكس مواقفه، بمعظمها، بعد الغزو الروسي، التعبير عن "الصدمة" من إقدام روسيا على الاجتياح، ورفضاً للعملية العسكرية الروسية.

دانت مارين لوبن وإريك زيمور وماتيو سالفيني الهجوم الروسي

ومن ماتيو سالفيني، زعيم حزب "الرابطة" في إيطاليا، إلى مارين لوبن، زعيمة حزب "التجمع الوطني" الفرنسي، والمرشحة للرئاسة في انتخابات إبريل/نيسان المقبل، إلى المرشح الرئاسي الفرنسي أيضاً، اليميني المتطرف والمثير للجدل إريك زيمور، إلى نايجل فاراج في بريطانيا، "عدو" الاتحاد الأوروبي اللدود، انقلب اليمين المتطرف الغربي على رؤيته التقليدية للعلاقة مع موسكو، مديناً الاجتياح، ومتجنباً في الوقت ذاته انتقاد بوتين.

وأكد سالفيني، الخميس الماضي، عبر "تويتر"، إدانته لـ"أي عدوان عسكري"، وتوجه ليضع زهوراً أمام السفارة الأوكرانية في روما. وقال سالفيني لاحقاً إنه "محبط من الإنسان الذي يسعى في عام 2022، لحل الأزمات الاقتصادية والسياسية بالحرب".

وفي فرنسا، دانت لوبن، المعارضة لوجود "الناتو"، التحركات الروسية، مضيفة أن "ما فعله بوتين مستهجن تماماً" بالنسبة لها، و"يغير النظرة" التي كانت لديها عن الرئيس الروسي.

أما زيمور، الذي كان أبدى في السابق إعجابه بالجهود الروسية لـ"استعادة إمبراطورية متراجعة"، فدان بدوره الاجتياح، بعدما كان استبعد حصوله، معتبراً أن التنبؤ الغربي بحصول الغزو "بروباغندا أميركية".

واضطر زيمور، الذي يحتل المرتبة الثالثة في استطلاعات الرأي الرئاسية (لوبن ثانية خلف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون)، للتراجع عن أقواله السابقة، مؤكداً "إدانته بشكل تام للاجتياح"، غير المبرر بالنسبة له، إذ إن "روسيا لم تتعرض لهجوم، كما لم تكن مهددة مباشرة من أوكرانيا".

كما اعترف فاراج في بريطانيا، بأنه كان مخطئاً في الاعتقاد بأن بوتين لن يقدم في النهاية على غزو أوكرانيا، مضيفاً أن الأخير "ذهب أبعد بكثير مما كنت أعتقد". كما دان رئيس وزراء إيطاليا الأسبق سيلفيو برلسكوني، الذي يعد صديقاً لبوتين، "العنف".

وإذا كان ترامب هو الوحيد تقريباً في المنظومة السياسية الأميركية الرسمية، الذي لم يخف يومياً تصريحاته التي حملت ولا تزال تحمل بشكل أو بآخر "مديحاً" لسيّد الكرملين، الذي عاشت بلاده تاريخاً من الصراع "الأيديولوجي" مع أميركا، وحيث لا تزال الولايات المتحدة تواجه الطموحات الروسية في أكثر من بؤرة في العالم، في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، فإن العلاقة الخاصة التي تربط بوتين والنخبة الحاكمة في موسكو باليمين المتطرف الأوروبي، تحمل بعداً آخر، بعيداً عن الشعبوية الأكثر التصاقاً بخطاب ترامب.

ويأتي ذلك من دون إغفال أن جزءاً معتبراً من فريق ترامب السابق، ومنهم مستشاره السابق ستيف بانون، ومستشار الأمن القومي الأميركي السابق مايكل فلين، نسج أيضاً شبكة وثيقة من العلاقات والدعم لليمين المتطرف في أوروبا، حيث أصبح الطرفان حالياً يتغذيان من بعضهما البعض.

حسابات جديدة لليمين المتطرف الغربي

وكان اليمين المتطرف في كل من الولايات المتحدة وأوروبا (واستطراداً في أميركا اللاتينية والهند في عهد ناريندرا مودي)، قد رأى في روسيا - بوتين، صورةً لحليف ممكن ومنطقي، نظراً للأولويات الدولية لدى هذا الفريق، والتي تختلف عن أولويات السياسة الخارجية لدى دولهم: معاداة العولمة الاقتصادية والناتو والاتحاد الأوروبي والإسلام، ومحاربة العلمنة المتزايدة داخل المجتمعات، والنظرة المعادية لحقوق الأقليات، والمثليين، بالإضافة إلى جميع التوجهات المحافظة جداً التي لعب بوتين على وترها للتغلغل في أوروبا.

رصد حراك لوجوه قيادية من اليمين المتطرف الأوروبي، لجمع التمويل وتجنيد المقاتلين لقتال روسيا في أوكرانيا

وتظلّ القارة الأوروبية، هاجس بوتين الأول، على الرغم من استعراض القوة الروسي، في أفريقيا والشرق الأوسط ومحاولة استعادة الدور الروسي القوي في كوبا وجزء من أميركا اللاتينية.

ويحمل قراره باجتياح أوكرانيا، تهديداً محتملاً، لهذه العلاقة مع نخب اليمين المتطرف الأوروبي، الذي يعيش اليوم مشاعر متناقضة تجاه الغزو الروسي، الذي يبنى على بروباغندا "محاربة النازيين الجدد والفاشيين والفاسدين في أوكرانيا".

وذكرت صحيفة "نيويورك تايمز"، أمس في تقرير لها، أن مجموعة بحثية رصدت حراكاً لدى وجوه قيادية من اليمين المتطرف الأوروبي، لجمع التمويل وتجنيد مقاتلين والاستعداد للتوجه إلى جبهات القتال في أوكرانيا لدعم الجيش الأوكراني في صدّ الاجتياح الروسي.

ونقلت الصحيفة عن ريتا كاتز، مديرة موقع "سايت" الذي يرصد تحركات المجموعات المتطرفة، قولها، إن عدداً من المجموعات النازية الجديدة، ومن اليمين المتطرف المؤمنة بتفوق العرق الأبيض، في أوروبا، وفي أميركا الشمالية، قد أعربت بحسب رصد الموقع (وخصوصاً على شبكات التواصل الاجتماعي)، عن رغبة لدعم أوكرانيا، بما في ذلك الالتحاق بالوحدات غير النظامية التي تقاتل الروس في هذا البلد.

لكنها لفتت إلى أن من أسباب ذلك، رغبتها أيضاً في الحصول على خبرة قتالية كبيرة، بالإضافة إلى محرك "أيديولوجي"، وهو قتال الشيوعية. ولكن الصحيفة أيضاً اعتبرت أن ذلك قد "يشكل إشكالية للحكومة الأوكرانية".

هكذا، تبدو الحرب الأوكرانية، وكأنها في طور إعادة صياغة العلاقة بين اليمين المتطرف العالمي، وموسكو، وخصوصاً تلك التي يعتمد الكرملين عليها للتأثير في أوروبا، التي ترى فيها روسيا امتداداً لأمنها القومي المباشر.

كما تبدو أيضاً في طور تعزيز دور "المليشيات الأوروبية القتالية"، التي "تتحضر لقتال روسيا"، ما من شأنه أن يرسم وجهاً آخر من الصراع، قد لا يكون وضعه بوتين في حساباته.

(العربي الجديد)

المساهمون