الشهداء المحتجزة جثامينهم لدى الاحتلال... حين يُقتل الفلسطيني مرتين

الشهداء المحتجزة جثامينهم لدى الاحتلال... حين يُقتل الفلسطيني مرتين

14 يوليو 2023
عائلة الشهيد الغرابلي في غزة (عبد الحكيم أبو رياش)
+ الخط -

لم تذق أسرة الشهيد الفلسطيني سعدي الغرابلي من حي الشجاعية، شرقي مدينة غزة، طعم النوم الهانئ منذ ثلاثة عقود، قضاها رب أُسرتهم في الاعتقال، ثم احتجاز جثمانه في مقابر الأرقام، في رحلة معاناة بدأت في تسعينيات القرن الماضي، ولم تنتهِ بعد.

وبدأت فصول قضية احتجاز جثامين الشهداء الفلسطينيين والعرب منذ تاريخ النكسة، عام 1967، والذي شهد احتجاز قوات الاحتلال الإسرائيلي جثامين 256 شهيداً من الفدائيين في مقابر سرية يحمل فيها كل شهيد رقماً بدلاً عن اسمه.

ووصل عدد الجثامين المحتجزة على مرّ العقود إلى قرابة 370 جثماناً في مقابر الأرقام أو ثلاجات الموتى، من بينهم 55 شهيداً من قطاع غزة، وأسرى استشهدوا داخل سجون الاحتلال بفعل الإهمال الطبي المتعمد.

الاحتلال واحتجاز جثامين الشهداء

ويهدف الاحتلال الإسرائيلي من خلال عمليات احتجاز جثامين الشهداء إلى الانتقام من أصحابها وذويهم، وخلق حالة من الردع لكل أبناء الشعب الفلسطيني، علاوة على مجموعة من الأسباب الأخرى، وأبرزها إخفاء ملامح التعذيب التي طاولت الأسرى بفعل العنف الجسدي المتواصل داخل السجون، وعمليات سرقة أعضاء الشهداء.

وتتشارك عائلة الشهيد الفلسطيني سعدي الغرابلي مع باقي أهالي الشهداء المحتجزة جثامينهم في أمنية خروج جثامين أبنائهم من مقابر الأرقام، ودفنهم وفق العادات المُتبعة في مقابر قطاع غزة على الطريقة الإسلامية، وقد حرمهم الاحتلال الإسرائيلي من تحقيق تلك الأمنية البسيطة.

ويوضح محمود الغرابلي، وهو نجل الشهيد سعدي، لـ "العربي الجديد"، أن والده الذي كان يعاني من جملة أمراض حُكم بالسجن مدى الحياة، واستشهد داخل السجن بعد قضاء 27 عاماً، وقد حُرموا من زيارته لأكثر من عقدين، إلى أن استشهد في 8 يوليو/ تموز 2020.


أمضى سعدي الغرابلي 27 عاماً في المعتقلات قبل استشهاده

ويقول الغرابلي وقد سيطرت ملامح الشوق والتأثر على وجهه وجميع أفراد أسرته: "تمرّ في هذه الأيام الذكرى الثالثة لاستشهاد الوالد، ونحلم كعائلة بتسلّم جثمانه، وإلقاء نظرة الوداع عليه، والصلاة عليه، وتشييعه بمشاركة باقي أفراد عائلته وجيرانه وأحبابه"، ويضيف "هذا من أبسط حقوقنا التي كفلتها القوانين والمواثيق الدولية والحقوقية والسماوية".

ولم تُغادر المعاناة المصحوبة بالحزن منزل الشهيد فارس بارود، من مخيم الشاطئ للاجئين الفلسطينيين، غربي مدينة غزة، والذي اعتقله الاحتلال في بداية التسعينيات، إذ ارتقى شهيداً داخل معتقل "ريمون" بفعل الإهمال الطبي، في مطلع فبراير/ شباط 2019.

وتقول تحرير بارود، ابنة شقيقة الشهيد بارود، لـ"العربي الجديد"، إن عائلتها تعاني من ظروف نفسية سيئة منذ اعتقال خالها، وقد زادت تلك الظروف سوءاً بعد استشهاده، فيما لم يتسنّ للعائلة استلام جثمانه ودفنه وفق العادات والتقاليد المتعارف عليها دينياً ومجتمعياً.

ويوضح رئيس وحدة الدراسات والتوثيق في هيئة الأسرى والمحررين عبد الناصر فروانة أن قضية احتجاز الاحتلال جثامين الشهداء تعتبر قديمة - جديدة، وتندرج في إطار السياسة الإسرائيلية الممنهجة، التي مورست منذ السنوات الأولى لوجود الاحتلال، وهي ليست حادثة عابرة، أو جريمة نادرة تقترفها دولة الاحتلال.

ويبين فروانة لـ"العربي الجديد" أن إسرائيل ما زالت تحتجز أكثر من 370 جثماناً لشهداء فلسطينيين وعرب، استشهدوا في ظروف مختلفة، وسنوات متباعدة.

وتضم لائحة الجثامين شهداء استشهدوا في السبعينيات، مثل الشهيدة دلال المغربي، و11 جثماناً لأسرى سقطوا شهداء داخل سجون الاحتلال، أقدمهم الأسير أنيس دولة، والذي ما زالت قوات الاحتلال تحتجز جثمانه منذ ثمانينيات القرن الماضي بعد استشهاده في سجن عسقلان، إلى جانب الشهيد خضر عدنان الذي ارتقى في مايو/ أيار الماضي.

ويلفت فراونة إلى وجود العديد من القرارات والتصريحات من قيادات الأمنية والسياسية الإسرائيلية، والتي طالبت وتطالب باحتجاز جثامين الشهداء، كورقة للضغط والمساومة، مشيراً إلى أن دولة الاحتلال تلاحق الأموات حتى بعد موتهم، وهي: "الوحيدة التي جعلت من المقابر، وثلاجات الموتى سجوناً للشهداء".

ويوضح فروانة وجود العديد من الأهداف الإسرائيلية من وراء هذه الجريمة، أولها الانتقام من الشهيد لما فعله، وما كان يمثله قبل استشهاده، إلى جانب محاولة خلق حالة من الردع للباقين، علاوة على تحقيق سياسة العقاب الجماعي لأهله ومحبيه وشعبه، فيُحرمون من إجراء الدفن وفق التقاليد الإسلامية، ومن دفنه في المقابر المؤهلة أو زيارته.


عبد الناصر فروانة: يهدف الاحتلال للانتقام من الشهداء عبر احتجاز جثامينهم

ويعتبر فروانة أن من بين الأسباب كذلك محاولة الاحتلال إخفاء تفاصيل الجريمة، فهناك من تم اغتياله، ومن تم التمثيل في جسده، لذلك تحاول إسرائيل إخفاء المعالم والآثار بعد تحلل الجثة، فضلاً عن الاعتقاد السائد بأن هناك سرقة لأعضاء الشهداء وتركهم في مقابر الشهداء لإخفاء ملامح الجريمة، إلى جانب استخدامهم كورقة للضغط والمساومة على الفصائل التي ينتمي إليها الشهداء، وفصائل المقاومة الفلسطينية.

احتجاز الجثامين جريمة قانونية وإنسانية

ويشير فراونة إلى أن احتجاز جثامين الشهداء يُعتبر وفق القانون الدولي وكافة القوانين الدولية من أبشع الجرائم القانونية والانسانية والأخلاقية: "التي تنفرد فيها إسرائيل على مرأى ومسمع العالم أجمع في ظل تبجح قياداتها بإقرار تلك السياسة والبوح بها، ما يجعلها جريمة مُركبة، ما زالت آثارها النفسية والاجتماعية تُلاحق ذوي الشهداء".

في الإطار ذاته، يقول مدير "جمعية واعد للأسرى والمحرّرين" عبد الله قنديل، في حديث مع "العربي الجديد"، إن الاحتلال يحتجز ما يزيد عن 370 جثماناً لشهداء فلسطينيين، من بينهم 11 أسيراً استشهدوا داخل السجون، ومن بين هؤلاء الأسرى ثلاثة أسرى من قطاع غزة، وهم فارس بارود، وسعدي الغرابلي، وسامي العمور، وقد ارتقوا جميعاً داخل السجون.

ويلفت قنديل إلى أن سياسة احتجاز جثامين الشهداء الذين استشهدوا في مناسبات مختلفة، أو جثامين الأسرى الذين استشهدوا داخل سجون الاحتلال تعتبر ضمن السياسة الإسرائيلية الهمجية لمحاولة مقايضة المقاومة الفلسطينية في انجاز أية صفقة تبادل.

ويُنبه إلى ضرورة وجود تحركات قانونية قوية، إلى جانب الحراك الإعلامي، والتواصل مع المؤسسات الدولية الإنسانية والحقوقية لإجبار الاحتلال الإسرائيلي على الإفراج عن الجثامين المحتجزة، حتى توارى في الثرى، وتُدفن حسب الشريعة الإسلامية، والأعراف والتقاليد الفلسطينية.