الدين والسياسة والسيسي

الدين والسياسة والسيسي

12 يناير 2015

السيسي يلقي كلمته في عيد الميلاد بالكنيسة (6 يناير/2015/الأناضول)

+ الخط -
أيام قليلة فصلت بين احتفالي مسلمي، ثم مسيحيي مصر، بذكرى ميلاد الرسولين محمد وعيسى، عليهما الصلاة والسلام. وأدى موقف السلطة الحاكمة في مصر من المناسبتين، خصوصاً مشاركة الرئيس عبد الفتاح السيسي وما قاله خلالهما، إلى إعادة طرح إشكالية العلاقة بين السلطتين الدينية والسياسية، وتجديد الحديث عن خلط السياسة بالدين، في ظل تصاعد الدور السياسي الذي تلعبه المؤسسة الدينية في مصر بجناحيها (الأزهر والكنيسة). ربما لم يكن الأمر يستحق ما أثاره من لغط استدعى توضيحاً واستدراكاً من السيسي، لو أنه كان أكثر حرصاً وحذراً في اختيار كلماته ورسائله التي وجهها في المناسبتين.
في الاحتفال بالمولد النبوي، شن السيسي هجوماً حاداً لم يصدر قبلاً من مسؤول رسمي في أي دولة مسلمة. وفضلاً عن الأسلوب الذي جاء وصائياً تحكمياً يتناقض مع رفض الفاشية الدينية واحتكار الحديث باسم الدين، فإن المضمون الملتبس أثار ردود أفعال ناقدة، استوجبت التصحيح والاستدراك. فاتهام مليار ونصف مليار مسلم بالإرهاب والرغبة في قتل بقية العالم، تعميم وسطحية لم يقع فيها أعتى المعادين للإسلام من اليمين المتطرف في أوروبا.. هم يتهمون الإسلام، وهو اتهم كل المسلمين. والمحاججة بأن مقصده كان الفكر، وليس الدين، مردود عليه بأن المليار ونصف مسلم لا يتبنون هذا الفكر، لكنهم يعتنقون الدين. وبعيداً عن المضمون، الخطير أن السيسي وجه لرجال الأزهر انتقادات مباشرة، وتعليمات بلهجة آمرة، تعطي توجيهات ولا تناقش أو تطالب. فجسّدت كلمة السيسي، مضموناً وأسلوباً، طبيعة العلاقة بين الأزهر والسلطة الحاكمة، وهي علاقة تبعية إدارية، وليس فقط سياسية، فشيخ الأزهر يعين بقرار رئاسي. وميزانيته تخصص من الدولة، شأن بقية المؤسسات الرسمية.
في الكنيسة، حملت كلمة السيسي مضامين مُبالغاً فيها، ورسائل مغازلة بعضها يخالف الواقع والثابت من التاريخ، فالتعميم أن المسيحيين علموا العالم الحضارة، يتعارض مع الثابت من تسلط الكنيسة الكاثوليكية في أوروبا على مختلف مناحي الحياة قبل عصر النهضة. ووقوفها ضد الإبداع والعلم والتحكم باسم الدين في السلطة السياسية، بما في ذلك اختيار الحكام. وكرد فعل على تغول الدور الكنسي في السياسة، وغيرها من الأمور الدنيوية، تنامت الأفكار العلمانية، وتبلورت البروتستنتية لتحجيم وضعية الكنيسة، وترشيد مواقفها الحدية في علاقة الدين بالدنيا. ولم تكن الكنيسة الأرثوذكسية طرفاً في تلك التحولات، ومن ثم هي ليست معنية بطرح ذلك الأمر برمته.
لم يكن هذا التزيد في المجاملة مطلوباً من السيسي. فالزيارة غير المسبوقة للكاتدرائية كانت تكفي وحدها لتوصيل الرسالة وتحقيق الغرض. فالكلمة المرتجلة ولغة الجسد من تعبيرات الوجه وحركات الأيدي والنظرات، فرضت مقارنة بين المشاركة الإيجابية "الدافئة" هناك وأدائه الحاد المتجهم في الأزهر. فبدا الأمر كأنه يرفع لائحة اتهام للإسلام والمسلمين، ويحمل رسالة محبة وتودد للمسيحية والمسيحيين. وفي الحالتين، وقع السيسي في خطأ التعميم وإصدار أحكام مطلقة مخالفة للثابت من التاريخ، وتناقض الواقع المعاصر.
وبينما يعكس التعالي في التعامل مع الأزهر طمأنينة وثقة في انصياعه لتطويع الخطاب الديني، وفقاً للتعليمات. فإن مغازلة الكنيسة والتودد لرعاياها مفهوم في ظل استقلالية البابا، وعدم تبعية الكنيسة للسلطة السياسية.
من المتعارف عليه في النظم الاستبدادية، أن تستعين السلطة بالمؤسسة الدينية في تثبيت سيطرتها وتبرير قراراتها، بل وتغليفها بالشريعة. لكن التتابع الزمني لاحتفالي المولد النبوي وعيد الميلاد كشف تناقض علاقة السلطة في مصر بكل من الأزهر والكنيسة، لكن هذا التناقض بين التودد والتسلط أكد مجدداً زيف الموقف الرسمي وفساد الخطاب الإعلامي، في التحذير من المتاجرة السياسية بالدين.

58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.