الحكمة من "رأس الحكمة"

الحكمة من "رأس الحكمة"

04 مارس 2024

(Getty)

+ الخط -

تراجع سعر صرف الدولار في السوق الموازية في مصر، ليصبح متقدّماً على السعر الرسمي بحوالى 25% فقط. ويرجع هذا الانخفاض السريع في سعر صرف العملة الأجنبية إلى عاملين أساسيين: الصفقة التي أبرمتها الدولة بمنح منطقة رأس الحكمة إلى الإمارات، وفق اتفاق لم تتّضح بعد أبعاده المالية والقانونية. وردّة الفعل النفسية في سوق الصرف الموازي، والتي دفعت كثيرين من حائزي الدولار إلى التخلّي عنه خشية انخفاض السعر، ما زاد بالفعل من معدّل الانخفاض وعجّل بتراجعه من مستوى 65 جنيهاً لكل دولار إلى 45 جنيها فقط.
حتى هنا، يبدو الوضع في الظاهر مُبشّراً بتراجع أسعار السلع وانحسار ظاهرة التضخّم التي تضرب المصريين بقسوة. وشهدت بعض السلع بالفعل انخفاضاً طفيفاً في الأسعار. لكن بقليل من التدقيق، يمكن إدراك أن حجم التراجع انحصر في جزء من الزيادة التحوطية التي أضافها التجار إلى الأسعار المستحقة حسب سعر الدولار الفعلي. فحين كان الدولار يساوي 50 جنيهاً مصرياً، كان كثيراً من التّجار يسعّرون بضائعهم كما لو كان الدولار يساوي 55 جنيهاً، وعندما وصل السعر إلى 60 زاد معه التسعير التحوّطي إلى 65، وهكذا تباعاً. ومع تراجع السعر الأصلي، تراجعت معه تلك الزيادة الإضافية غير المبرّرة. بالإضافة إلى أن التخفيضات تركّزت في السلع سريعة الدوران، وخصوصاً بعض السلع الغذائية المصنّعة.
في هذه الحدود، تكمن الحكمة من صفقة رأس الحكمة بخفض سعر الدولار لكبح التضخّم الذي توحّش، وكاد يخرُج عن السيطرة. لكن المشكلة أن تلك الأموال التي جرى توفيرها بموجب صفقة "رأس الحكمة" وهبطت بسعر الدولار، لا تكفي لتثبيت ذلك الانخفاض ولو لأشهر، لوجود ديون مستحقّة على مصر تتجاوز 40 مليار دولار، مطلوبٌ سدادها في العام الجاري. فضلاً عن حوالى 15 مليار دولار مطلوبة لإدخال السلع المعلقة في الموانئ بانتظار الاعتمادات الدولارية، ومثل هذا المبلغ تقريباً لتأمين الواردات السلعية بقية العام. ربما يتوفر بضعة مليارات أخرى بعد التفاهم مع صندوق النقد الدولي على استئناف القرض المتفق عليه، وربما رفع قيمته. وفي هذه الحال، سيقلّ العجز المالي بنسبة عن المتوقّع.
من شأن هذه التطورات الإيجابية أن توفر بيئة مواتية لتحسين أداء الاقتصاد المصري، إذا أحسنت الحكومة المصرية توظيف تلك "التهدئة النقدية" التي لن تستمرّ طويلاً. لكن في تصوير صفقة "رأس الحكمة"، وحدها وبذاتها، حلاً شاملاً لمشكلات الاقتصاد المصري من المبالغة والتضخيم ما يصل إلى التدليس على المصريين. كما لو كانت أزمة الاقتصاد في مصر تنحصر فقط في ارتفاع الأسعار وشحّ الدولار. بينما يدرك أي طالب جامعي يدرس الاقتصاد أن التضخّم ومشكلة سعر الصرف ليسا سوى عرَض ظاهري لمرض عضال، هو غياب الإنتاج وافتقاد موارد حقيقية للدّخل القومي. والاعتماد على استجلاب الأموال، سواء بالاقتراض أو بالبيع أو بأي صيغةٍ تكون، ليس إلا حلولاً مرحلية تؤجّل الأزمة ولا تحلّها.
بالتالي، ما لم يجر توجيه الشقّ الأكبر من المداخيل المالية المستجدّة خلال هذا العام إلى تنشيط التصنيع، فستتجدّد دورة أزمات الاقتصاد المصري، وتتكرّر سلسلة الركود التضخّمي. لكن تردّي حال الاقتصاد المصري لا يسمح بالتركيز على الصناعات الثقيلة أو حتى الوسيطة، فهناك حاجة عاجلة إلى استنهاض الاقتصاد الإنتاجي في القطاعات عالية الاستهلاك للدولار، وتحديداً الصناعات الغذائية. بهدف تلبية ولو جزءا من احتياجات السوق المحلي وتوفير مبالغ طائلة يستهلكها هذا القطاع بالعملة الأجنبية. ومن دون خطواتٍ عمليةٍ ومدروسةٍ في ذلك الاتجاه، ستظلّ مصر أسيرة الاستدانة المستدامة.

58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.