سياساتُ "التّيْئيس" تدفع التونسيين نحو الهجرات الخطرة
عائلات تونسيّة بأكملها تركبُ البحرَ. تَنشرُ صورها في قوارب الموت بين أزرقيْن وقدريْن. وكثيراً ما نُشرت صورها في تعداد الغرقى والمفقودين. انحدرَ منسوبُ الأملِ إلى أدنى نِسبِهِ، واستوى الحال كأنّنَا في بلادِ حربٍ، ولا طلقة، لكنّ القلوبَ أُصيبت بالخوفِ من المُستقبل مدفوعةً بفوضى الحاضر، وحُكمِ الهواةِ يدفعونَها إلى المجهول.
قبل سنوات كانت مُغامرةُ "الحرقة" وهي الهجرة السرية انطلاقاً من الشواطئ التونسية نحو السواحل الإيطالية، حكراً على شبابٍ من العاطلين من العمل ومن المنقطعين عن الدراسة والفارّين من المتابعات القضائية، وأغلبهم من الأحياء المُفقرة والمناطق المحرومة، تستوي عندهم الخيارات فينطلقون إلى المُغامرة الأخطر، رغمَ علمهم بمصير آلافٍ سبقُوهم ولم يصلوا إلى الساحل الشمالي فانتُشلوا جثثاً، وكثيرٌ منهم لم يصلوا إلى أيّ مكان وسُجلوا في قائمة المفقودين.
حدثني أستاذ عمل الاجتماع مهدي المبروك بأنّه لمّا اشتغل على هذا الملف، قبل عشرين عاما، كان شاهداً على شبابٍ رتبوا رحلة "حرقة" في أثناء جنازة أبناء حيّهم الذين انتشلهم الحرس البحري موتى. استغلّوا انشغال الأهل والسلطات بالدفن والاعتقاد أنّ الفاجعة ستثني آخرين عن المغامرة، ولو إلى حين. منذ عقدينِ وأكثر، لم يعُد الموتُ حدثاً يفجعُ أكثر من الحياة التي يَحياهَا كثيرون في تونس. أمّهات يبعنَ مجوهراتهن من أجل أملٍ أخيرٍ قدْ يكون النجاة لابنٍ (قد لا يعود أبداً)، وآباء يرضون بديونٍ قد لا يُسدّدونها، لينضاف إلى ديْنهم رقبةٌ رحلت يأساً معَ أملٍ في النجاة. كان هذا زمن دكتاتورية بن علي، حيث لفكرة "النجاة" مُسوّغات كثيرة موضوعيّة كما ذاتية. ولأنّ الأرقام الرسمية أكدت أنّ نِسَب الهجرة (نظامية وغير نظامية) تراجعت خلال السنوات الثلاث الأولى بعد الثورة، فإنّ ارتفاعها من جديد مردّهُ أنّ التونسيين لم يُطيلوا صبرا. لعلّهم استشعروا أنّ ثورتهم انقلب عليها مُنقلبون.
ليسَ شرطاً أن تُحقّق بعض النجاحات اليوم، قد يكون دافعُ "الهروب" توقع الفشلِ غداً
لمْ تعُد فئات من الشباب، ممّن يُوسمُون بـ"الفشل الاجتماعي"، وحدها المُرشّحة لـ"الحرقة" فقد انظمّ إليهم موظفون في الدولة وأبناء عائلات ميسورة وأطفالٌ غيرُ مُرافقين ترميهم أُسرهم في "الشّقفْ" عند الفجر أملا في بلادٍ غير هذه تحرص على تدريسهم ورعايتهم، وقد أعيتهم هذه الدولة. قد يكونون على خطأ، ولكن هذا ما ذهبوا إليه. وهذا ما أتوهُ بقلوبٍ لا نعلمُ كيف قبلت أنْ يُتركَ طفلٌ لقدره فوق الماء، ثمّ في أرض غريبة مُنقطعا عن وطنه!
قبل أيام، نشرَ حارس مرمى شباب النادي الرياضي الصفاقسي صورهُ في عرض البحر "حارقاً". وقالت مصادر صحافية رياضية إنّ الحارس علي شلبي انتمى أيضاً إلى المنتخبات الوطنية للشباب في كرة القدم، وقد تحصل على شهادة البكالوريا (شهادة ختم المرحلة الثانوية) هذا العام. أرفق الرياضي الشاب صورة لهُ، على متن مركبٍ مع عدد كبير من الشباب مُرتدياً سُترة نجاة، بعبارة "الحمد لله". لعلّه في مُنتهى الرضى على ما فعل، وقد كان في أقصى درجات اليأس قبل أن يركب البحر. هذا لأنّ الدوافع الذاتيّة مُرتبطة بحالٍ عامّة من الإحباط تُسرّع في جعل قرار الرحيل بديلاً عن كلّ مُقاومة. ليسَ شرطاً أن تُحقّق بعض النجاحات اليوم، قد يكون دافعُ "الهروب" توقع الفشلِ غداً.
رياضيون عديدون، خصوصاً من الرياضات الفردية، يستغلّون وجودهم خارج البلاد في مسابقاتٍ دولية لـ"الحرقة"، فلا يعودون أبداً. وقد خسرت تونس أبطالاً كان من الممكن أن يكون لهم مُستقبل هام. ويبدو أنّهم لا يثقون بأن يكون لهم مُستقبل مع تونس، وليس فقط في تونس. الأمرُ لا يتعلّق فقط بمسألة الظروف التي يمرّ بها الأفرادُ أو المجموعات، بل تتجاوز ذلك إلى الشعور بالانتماء. انظر مثلاً خطاب كثيرين اليوم، حينما يُسألون عن استعدادهم للهجرة، يقولون إنّ تونس لم تقدّم لهم شيئاً، ويتساءلون أحياناً ماذا قدّمت لنا الثورة؟! ولقد تخطى الأمر مواقف أفرادٍ إلى حالة جماعيّة تغلُب على مناطق أو أحياء بأكملها. وأخيراً "حرق" مُستشار بلديّ من أحد المجالس البلدية لضواحي العاصمة، فهذا لم يكن ممن يُوعدون بل إنه، قبل ثلاث سنوات فقط خلال حملة الانتخابات البلدية، كان ممن يَعِدُ بمُستقبلٍ أفضل وبتحسين أحوال الناس لمّا ترشح وانتخبوه، فهذه القصص هي التمظهرات الأقصى لحالة اليأس التي تأكل الناس في هذا البلد من "حرقَ" منهم ومن يحترق غمّاً أو ينتظرُ ما قد تأتي به الأيام.
لم يعُد اليأسُ فرديّاً، إنّه حالة جماعيّة، ففي حالاتٍ كثيرة تتواطأ عائلة بأسرها على "حرقة" أحد الأبناء
"شَيْ مَا بَاشْ يتْبدّلْ" (لا شيء سيتغيّر)، أكثر عبارةٍ تتردّد في الأوساط الاجتماعيّة. عُمقها أخطرُ مما نحن بصدده، وذكرُها يتعدّد مع الحديث عن التغيير الحُكومي والانتخابات المقبلة، وبعد خطابات الرئيس والإعلان عن مشاريع كُبرى وأخبار التعيينات في المراكز السامية. يقول أحد شخصيات الفيلم الوثائقي "دبارتاتو" (المُرحّل) للحمادي الأسود: "حتى إنسان ما يكذب عليّ، نعرف تونس كيفاش تعيش والتونسي كيفاش يعيشْ… الشباب فايق". ويَنتقدُ الشباب الذين جرى استجوابهم تناقض الخطاب الرسمي الذي يتحدّث عن الأزمة ويدعو الشباب إلى العمل والمُبادرة. شبابٌ رُحّلوا من إيطاليا، ويستعدّون لرحلة جديدة. لقدْ حُوصروا في القرار الوحيدْ.
لم يعُد اليأسُ فرديّاً، إنّه حالة جماعيّة، ففي حالاتٍ كثيرة تتواطأ عائلة بأسرها على "حرقة" أحد الأبناء. كما أنّهُ جماعيّ، حيث أصبحت عائلات بأكملها "تحرق" بما في ذلك الأطفال القُصّر، بل والرضّع. وقد تمّ تأنيث "الحرقة" ليس باعتبار من تُرافقن أزواجهنّ فقط، بل إنّ فتياتٍ تونسياتٍ كثيرات يُغامرن كأقرانهنّ من الفتيان. ومثلهم ينشرن صورا على صفحات التواصل الاجتماعي فوق ماء آخر، وتحت سماوات أخرى، قد يرحلن إليها أيضاً، إذا ما غضبَ موجٌ أو تاه زورقْ.
ارتفعت عمليات "إحباط" محاولات الهجرة البحرية بمعدل الثلث لهذا العام، مقارنة بالعام الفائت
أخيراً، أصبحنا نُشاهد صور التونسيين نساء ورجالاً وعائلاتٍ يعبرون الحدود الصربية نحو أوروبا، وهي طريقٌ ليست جديدة، لكنّها أصبحت أكثر نشاطاً لأنّها أقل خطورة من اجتياز المتوسط الأوسط. لكنّ المُشكل في ما بعدَ الحدود، حيث لا نعلمُ على وجه الدقّة مصير آلاف العابرين. عابرون أنفقوا كلّ ما يملكون في جيوب "مافيا عابرة للحدود"، أملاً في دُنيا جديدة.
هذا العبور من واقع صعب، حيث لا مُستقبل واضحا، إلى مُستقبلٍ جيّد مأمول لا ضمانات فيه للنجاة، يؤكّد مدى "تيئيس" التونسيين من إمكانات أن تذهب بلادُهم في الطريق السليم، فلم تعُد المؤشّرات الاقتصادية والاجتماعية وحدها الدافع نحو الهجرة غير النظامية، بل الاستقرار السياسي أيضا والثقة في الدولة ومؤسّساتها والسلطة التي تحكُمها، والتي تدّعي اليوم أنّها تُدافع عن الشباب، في حين أن أكثر من 60% من الفئة بين 19 عاماً و26 عاماً يفكرون في الهجرة، حسب المعطيات في المسح الوطني للهجرة الذي أصدره المعهد (التونسي) الوطني للإحصاء.
يتحدّث الخطاب الرسمي عن فُرصٍ للشباب، لكنّهُ يُجيبهم فقط بالتعاطي الأمني لمنعهم من اجتياز الحدود البحرية، إذ ارتفعت عمليات "إحباط" محاولات الهجرة البحرية بمعدل الثلث لهذا العام، مقارنة بالعام الفائت. في المُقابل، لا تصورات للتنمية ولا مشاريعَ تنموية ولا أمل في التغيير في ظل أزمة سياسية حادّة تعصف بالبلاد. ينضاف إلى هذا كله مزيد من التضييق على الحريات والتخبط في اتخاذ القرارات، وتهافت "أصدقاء الرئيس" بخطابهم الشعبوي المُتشنج وسلوكاتهم المسيئة للدولة.