انهيار لبناني محلي بأبعاد كونية

انهيار لبناني محلي بأبعاد كونية

18 ديسمبر 2021
+ الخط -

يمكن الجزم أن أحدهم لم يمسّ الجوهر النيوليبرالي الذي يضبط نظام الحكم في لبنان، فبعد مرور مئات الأيام على الانتفاضة، وعشرات الأوراق والمؤتمرات والندوات والمقالات والكتابات، وبعد نقاشاتٍ ونقاشات، وبعد استحقاقات طلابية ونقابية، لا بد من القول، وبكل أريحية، إن أحدهم لم يقارب الإطار الاقتصادي والإنتاجي القائم في لبنان، وإن أحدهم لم يضع أي تصور للبديل المتخيل عن النظام الاقتصادي الحر الحالي. فبعيدًا عن الشعار العام عن ضرورة تحويل لبنان من بلد استهلاك إلى بلد إنتاج، وبعيدا عن المؤتمرات الشكلية والنظرية عن الاقتصادات الديمقراطية والتعاونية، والتي لم تجد أي ترجمةٍ فعليةٍ لها حتى اللحظة، ليس هناك أي مقاربة جدية لمثل هذا النوع من المسائل.

لا تريد هذه المقالة أن توسع البيكار كثيرًا، ولا أن تكبّر الحجر أكثر من ذلك، لكثير من الأسباب، في مقدمتها أن أي مقاربة جدّية غير واضحة بالنسبة إلينا أيضًا. ولذلك ليس الهدف من الكتابة تحميل بعض مجموعات الانتفاضة وأفرادها وزر هذه المسألة الشائكة، ليس على مستوى محلي حصرًا، بل على مستوى عالمي أيضًا. إلا أن أي مقاربة جديدة لنظام اقتصادي بديل لم تجد طريقها إلى النشر. وهذا مأزق لن تكون تداعياته بسيطة، بل ستكون، وبالضرورة، في صالح النظام المترنّح القائم، وفي صالح محاولات قوى النظام إعادة تعويمه، وصولًا إلى إعادة إنتاجه، وإن بنقاط ارتكاز معدّلة.

مقاربة جديدة لنظام اقتصادي بديل لم تجد طريقها إلى النشر

كل الكلام الشعبوي في لبنان عن محاولات التوجه شرقًا، أو غربًا، أو شمالًا أو جنوبًا، لن تجدي نفعًا، ولن تؤدّي إلى أي تقدّم ملحوظ في هذه النقطة، بل ستكون العائق الفعلي أمام أي محاولة جدّية وفعلية للتغيير، ولا سيما أن قوى التغيير الجدّية، أو ما تبقى منها، التي تكرّر الكلام حول ضرورة التغيير وأهميته، لم تطرح أي مشروع بديل عن أي مشروع كان قائمًا، وها هو ينهار أمامها اليوم.

لقد اتهمنا قبل الانتفاضة، وخلالها وما بعدها، قوى النظام بأنها لا تملك أي تصور عن إصلاح فعلي، سوى أنها تريد استقدام المال من صندوق النقد الدولي، بهدف نهبه، ومن دون القيام بأي إصلاحات فعلية. هذا ما تؤكد عليه "إنجازات" حكومتي حسان دياب ونجيب ميقاتي المتتاليتين، إلا أننا لم نوجه أي كلام نقدي تجاه قوى التغيير، فهل تملك هذه أي مشروع بديل؟ ما هو المشروع المقترح؟ استقدام المال من صندوق النقد أم لا؟ لتوظيفه في ماذا؟ وبأي إطار؟ إلى أي دراسات يستندون؟ هل يملكون معطيات الحد الأدنى حول كلفة إنشاء مصنع وإدارته، لا بل مصانع ومعامل تكفي الحاجة المحلية؟ هل يملكون الحد الأدنى من مشاريع توفير المياه إلى المنازل؟ وهل يملكون تصوراتٍ فعلية عن الكلفة المالية لهذا النوع من المشاريع؟ هل يملكون أي خطةٍ بديلة، وإنْ أولية، لشرط شروط الإنتاج أي الكهرباء؟ وغيرها وغيرها من أسئلة جوهرية لم تضع قوى التغيير أي تصوّر أولي لمحاولة التصدّي لها، أو حتى تبرير عدم الحاجة إلى التفكير فيها الآن، لكي تقنع الناس بها أو بضرورة العدول عنها، ولكي تقول للناس إنها لا تريد التجريب بقدر ما تريد انتشالهم من المأزق الموضوعين فيه أو إنها لا تملك أي تصور، ولذلك هي لا تقدم على خطوات لا تدرك مدى خطورتها.

هل ستحافظ قوى التغيير على القطاع العام، وتحميه، بشكله الحالي؟ أم تريد القيام بتطهير إداري؟ هل ستذهب باتجاه الخصخصة، من المطار، إلى المرفأ، إلى الكهرباء، والهاتف، والخلوي… إلخ؟

على مستوى آخر، هل ستحافظ قوى التغيير على القطاع العام، وتحميه، بشكله الحالي؟ أم تريد القيام بتطهير إداري؟ هل ستذهب باتجاه الخصخصة، من المطار، إلى المرفأ، إلى الكهرباء، والهاتف، والخلوي… إلخ؟ ماذا ستفعل بالعدد المتضخم من الموظفين في الإدارات العامة؟ هل ستحافظ على القطاع الخاص، وتفتح أبواب الاستثمار أمامه؟ كيف ستعالج مشكلات الاحتكار؟ وهل ستحافظ على الودائع التي استباحت قوى النظام الجسم الإداري اللبناني بها، فوظفت آلاف الأشخاص من دون أي حاجة ومعظمهم بلا كفاءة؟ ماذا ستفعل في التعليم، وآلاف الأساتذة الذين ينتظرون دورهم في التثبيت؟

هذه وغيرها من الأسئلة التي نرفعها، لا لكي نثقل كاهل قوى التغيير بأحاج، بل لنضعها أمام نوع التحدّيات التي ستواجهها عند كل منعطف، في حال استطاعت تحقيق أي انتصار على أحزاب السلطة، وعلى أي مستوى، وفي أي منصب، ناهيك عن فتح أبواب البحث في طابع العلاقات التبادلية أو التجارية التي تريد أن تنشئها مع القوى الدولية الأخرى عمومًا، والقوى الإقليمية خصوصًا.

في جميع الأحوال، ولكي يكون الوضوح سيد الموقف، لا يمكن ﻷي قوى أن تحسم بشأن هذا النوع من الأسئلة مرحليًا، ولا يمكنها البتّ في أمر امتلاكها الأجوبة على مثل هذا النوع من التحدّيات. هذا بالتحديد ما يستدعي التريث قليلًا، والتفكير بشكل عقلاني، قبل أن تزعم قوى التغيير أنها قادرة على إدارة البلاد عمومًا، في ظل الانهيار خصوصًا.