القضاء العراقي وقدره
قالتْ غاضبةً "الله لا يقولها تصير قاضي وتكسر رقاب" حين أخبرتُها، وأنا في الثانية عشر، أني لم أعدْ أريد أنْ أكون مهندسا بل سأصبح قاضيا، فكيف لإنسان أنْ يُشفق من مهنة يُفترض أنها ميزان بناء الدولة الحديثة؟
قد لا يُشفق كثيرون على أنفسهم من إمساك السلطة، هي مغريّة للبشر منذ عهد بعيد. لكن هناك نوعاً منها ليس سلطة بقدر كونه ظلاً لسلطة. قد يصح القول إن القضاء في العراق، مثل جلّ جواره، سلطة مأمورة، يحمّلُها الزعيمُ أو الزعماء تبعاتِ قرارتهم، وتسوّق نفسَها أنها صاحبة القرار. لتحمِل أثقالَ وزرين، وزرِ التبعية وهي المفترض استقلالُها، ووزرِ تشويهِ صورتِها بما حكمتْ وهي ليست الحاكمة.
في العراق، تراكمتْ ذاكرةُ خروج القضاء عن وظيفته على مرّ تحولات أنظمته الحاكمة. في عهده الملكي، أُصدِرتْ أكثرُ من مرة قراراتٌ بذائقةٍ سياسية، وهي وإن قلّتْ قياسا بالعهد الجمهوري، تبقى علامةً على ما سار فيه سلك القضاء. مثلا بين عامي 1947 - 1949، تغيّرَ الحكمُ على مؤسس الحزب الشيوعي ورفاقِه من الإعدام إلى السجن المؤبد ثم الإعدام. التغيير كان فعلا سياسيا.
وفي عراق عبد الكريم قاسم، بداية الجمهورية، كانت محكمةُ المهداوي. أعدمتْ بشرا عديدين بتهم الرجعية والانتماء للعهد البائد والتخريبِ وغيرِها. وفي عراق صدّام، أصبح منذر الشاوي وفق تغيير قانوني عام 1977 رئيسا على القضاء بحكم كونه وزيرا للعدل، في سابقةِ أنْ تصير السلطةُ التنفيذية رسميا هي القضائية.
الرئيس الأسبق كان صريحا، اختصر الأمر، واضعا حدا لأي تشكيك في ما أراد بالضبط. القضاء عنده ليس أكثر من ملحق ورعية. لم يحتج إلى رتوش احتاجها لاحقوه، حين وجدوا أنفسَهم مصادفةً في حكم محدد الشروط سلفا، حكمٍ برلماني فرضتْه الإرادةُ الأميركية بقانون انتقالي ألزمهم كتابة دستور، وانتخاباتٍ عليهم إجراؤها، وفصلٍ بين السلطات طُلب منهم أن يراعوه.
لم يكن بمقدور أيِّهم إحداثُ تغيير بلا رتوش. لكن أمكنهم التلاعبُ بشروط اللعبة، وتجريدُها من قيمتها بالالتفاف. وكان القضاء أداةً مهمة، فما لم يستطع السلاحُ المسيسُ فِعْله فَعَله القضاءُ. هنا، حاسم كان زمنُ نوري المالكي. سمى رئيسُ الوزراء العراقي الأسبق قائمته الانتخابية باسم "دولة القانون"، وانقلب على الدولة والقانون، بمجموعة خطوات سعيا إلى أن يكون ديكتاتورا ذا خلفية شيعية بديلا عن سلفه ذي الخلفية السنية.
القيادات الرئيسة، بما فيها الزعامات المسوَّقة مدافعةً عن استقلال العراق، أو بناء الدولة، متورّطة في الاهتراء السياسي والاجتماعي والاقتصادي والإداري
وظل القضاء أداةً له في ديمومة بقاء حكمه مؤبدا. يومَ أخفق في كسب المركز الانتخابي الأول عام 2010، لم يمتلك سلطةً أفضل من المحكمة الاتحادية، برئاسة مدحت المحمود، لتحويل الخسارةِ فوزا عبر تفسير مصطلح "الكتلة الأكبر". ثمّ أرّقه وجودُ سلطةٍ موازية له، هي سلطة الهيئات المستقلة، لجأ مرة أخرى إلى المحمود، ليعطيَه ما أراد من خلال ربط الهيئات إداريا بحكومته، ما جرّدها من كونها سلطةً رسمية مستقلة رابعة استحدثها الأميركيون في الحالة العراقية. وكان بعض تلك الهيئات ذا طابع قضائي.
إلى عادته القديمة، عاد القضاء، عادةِ كونِه ظِلاً لرأس السلطة. بقي مدحت المحمود ذا نفوذ موجّهٍ سياسيا. وبعد سلسلة من التشويش والإرباك لاختيار بدائل، ذهب المحمود وخلَفه ظِلُه فائق زيدان. الأخيرُ لم يبرز فورا، فالصراع العراقي جانبَه زمناً. الساحةُ وقتَها تحت قيادة قاسم سليماني، ولم تكن حاجةٌ كبيرة للقضاء، إلا من قضايا احتاجتْ رتوشَ المحكمة الاتحادية. ثم قُتل جنرال فيلق القدس، وعادت الأمور تقريبا إلى ما قبل الانسحاب الأميركي في 2011، أي قبل تعاظم نفوذ طهران إلى درجة غير مسبوقة. ومع تراجع ذلك النفوذ نسبيا، احتاج حلفاء إيران لرتوش القاضي. فسلطة المليشيات "الولائية" تقهقرت بعد انتفاضة تشرين 2019، وهُزمت انتخابيا. ولإعادة نفسِها إلى الواجهة عبر قناة المالكي، لا بد من سلطة رسمية، وليس أفضلُ من سلطة زيدان لهذه المهمة.
عندها دخلت سلطة القضاء في سجالات المعركة السياسية منذ انتخابات 2021، ولا تزال. سجالات الفرقاء السياسيين ليست الوحيدة التي تُتخذ فيها جبهة، فالرجل كسلفه، يخشى النقد. ومثالا معبرا، دعتْ أوساط احتجاجية إلى تظاهرة في نهايات 2015 أمام مجلس القضاء للمطالبة بمحاسبة المسؤولين، ضغط المحمود عندها على بعض مراكز القوى المدنية بعدم المشاركة، وحصل على ما أراد، رغم أن التظاهرة، مهما اتسعت، لن تكون أكثر من تسجيل موقف.
الفرق كبير بين استقلال القضاء وأنْ يأخذ دورَ السياسي
تتكرّر تجربةُ الخوف من الاحتجاج والنقد. يفتح القاضي زيدان جبهة على صحافيين. أشهرَ غضبه على مقدّم البرامج الصحافي سعدون محسن ضمد، وعلى سرمد الطائي الكاتب السياسي المعروف بعدائه المشروع الإيراني، وذلك على خلفية انتقاد وجهه الأخير لرئاسة القضاء في برنامج يديره سعدون ضمد على قناة العراقية الرسمية. ومن ضمن أساليب الهجوم، بعث رسالة لا تليق بقاض، فضلا عن رئيس القضاة، إلى إدارة القناة، واصفا الصحافيينِ، المحاورَ والضيف، بأنهما سلبيان ومتطرّفان. متناسيا أن مهمته تحديد المخالفات القانونية عبر السياقات القضائية، وليست إصدارَ أحكام على القناعات والآراء.
يشار هنا إلى أن انتقاد شخص رئيس المجلس لم يكن الأولَ، غير أنها المرّة الأولى التي تحرّك فيها بشراسة. بالطبع من الصعب على "رموز" السلطة أن يروا أن تمتلك القناة الرسمية هامش حرية للمحاوِر والمحاوَر. ربما يمكن فهم خلفية الموضوع على هذا الأساس. لكن هناك نقطة أخرى يصعب إغفالُها؛ لم يكتف الضيف بانتقاد القاضي زيدان، إنما ربطَه بسليماني والمرشد الإيراني علي خامنئي. لذا قد يفهم تحرّكُ القاضي ضد الصحافيينِ أنه في هذه الواقعة مدجّجٌ بدعم أتباع الحرس الثوري، خصوصا أنهم سبق أن اعتمدوا عليه في تحقيق بعض ما أرادوا، قانونيا أو عرقلة أشياءَ مما لم يريدوا، بعد خسارتهم جزءا من سطوتهم في العامين الأخيرين.
الخلل في القضاء العراقي لم يكن يوما الرشوةَ أو الفساد المالي، لأنه، وإنْ وجد، لم يبدُ ظاهرةً واسعة في تاريخه. المشكلة المتأصلة أن عدم الاستقلال كان سياق القضاء على مر العقود ولا يزال. وهذا أحد أسباب عجز البلاد عن صناعةَ تقاليدِ دولة، بالعكس، سادت تقاليد اللادولة. بالطبع، ليس البديلَ أنْ يصبح القضاء سلطةً مستبدّة، بينما هو الفاصلُ في النزاعات وضامنٌ الدولةَ ومطبقٌ القانونَ.
حديثُ أنصارِ الزعماء عن استقلال القضاء ليس أكثر من مسعى جديد إلى إبقاء الحال كما هو مع تغيير في اتجاهات الولاء فقط
الفرق كبير بين استقلال القضاء وأنْ يأخذ دورَ السياسي. الأخيرُ لاعبٌ والقضاءُ حكَمٌ يتصرف تجاه اللاعبين أو تجاه الجمهور انطلاقا من وظيفته حصريا، فالقضاة ليسوا زعماء. وهذا يصعب أن يتضمّنه خطابُ الحراك الاجتماعي، إذا لم يصاحبْه تحديدٌ واضح للمفاهيم، وفهمٌ صريح للحدود، وإدراكٌ مفتوح على التجارب الأخرى، سيئها وجيدها، ووعيٌ ببناء دولة حديثة تحقق استقلالَها بما يجعل الجماعات المجتمعية العراقية تتعايش من أجل حمايتها، وخطابٌ لا يسوِّق استقلال القضاء عبر تسويق من سيخسر سلطانَه فيما لو استقل القضاء. أي أنّ تحوّل القضاء إلى مؤسسة تمارس دورَها من خلال السياقات القانونية المحدّدةِ بوضوح وبدون تأويل لن يحصل اعتمادا على زعماء يرون أنفسَهم فوق القضاء. علّوُ أيِّ صاحب قرار سياسي أو ديني أو اقتصادي فوقَ أيّ من المؤسسات الرسمية يتعارض مع بناء دولةٍ تؤسس تقاليدها عبر سلطاتها الدستورية، وليس تقاليد أحزاب وأئمة السياسة والدين. وحديثُ أنصارِ الزعماء عن استقلال القضاء ليس أكثر من مسعى جديد إلى إبقاء الحال كما هو مع تغيير في اتجاهات الولاء فقط.
وعندما يدافعُ أيٌّ من شركاء العملية السياسية في العراق، ومن خلفه جيش من النخب، عن استقلال القضاء، إنما يدافعُ عن وقوفه أمام محاكمه. إذ جميع القيادات الرئيسة، بما فيها الزعامات المسوَّقة مدافعةً عن استقلال العراق، أو بناء الدولة، متورّطة في الاهتراء السياسي والاجتماعي والاقتصادي والإداري. بل على بعض تلك الرؤوس مذكراتُ إلقاء قبض مركونة بعيدا خوفا، وأمامَ عديدٍ منها ملفاتٌ يمكن أن تُفتح إنْ استقلّ القانون. ملفاتُ انهيار البلاد وتفتيتها وتقويض فرص بقائها ليست قليلة. فليس من الإنصاف أنْ يرجى من تلك الرؤوس الدفاعُ عن قضاء مستقل. سيكون هناك رجاءٌ، عندما تبدأ مراجعةٌ صريحة وواسعة للأخطاء والكوارث في السلطة الثالثة على مر العقود الماضية، وأسبابِها، بعيدا عن خطابات التفاخر والهيجان العاطفي. يومئذ، ربما لن تخشى الأمهاتُ المسكونات بالخوف على الرقاب أنْ يصبح بنوهنّ قضاة.