أن تكون لاجئاً ليس أوكرانياً

24 مارس 2022
+ الخط -

لم أستطع وأنا أرقب مأساة اللجوء الأوكراني إلا أن أستعيد رحلة اللجوء التي مررت بها وأبناء جيلي، رغم مرور عقود طويلة ممتدة على تلك التجربة المريرة، فمع كل لقطة إنسانية أو معاناة مؤلمة تبثّها شاشات التغطية المتواصلة لمأساة أوكرانيا الإنسانية، كانت الصور تنداح في مخيلتي، وكأنني أعيش التجربة بشكل حقيقي مرّات ومرّات، من دون نظر لأي موقفٍ سياسيٍّ يصنّف الحرب باعتبارها عدوانا أو دفاعا عن النفس، ومن دون اصطفاف مع هذا الفريق أو ذاك، فتلك مسألة أخرى، لا مجال للانشغال بها هنا. كل ما هنالك أن ثمّة شعبا وبشرا يدفعون ثمن مواقف ساستهم ومغامرات هؤلاء في كلا الطرفين، فشعوب روسيا الاتحادية تعاني هي أيضا جرّاء العقوبات المتوحشة التي لا تقل إيلاما عن قصف المدنيين في أوكرانيا وتهجير نحو ربع سكان أوكرانيا أو نصفهم من بيوتهم، ولجوئهم الداخلي أو الخارجي.

اللجوء الأوكراني لجوءٌ خمس نجوم، مقايسة مع اللجوء الفلسطيني الذي أصبح "جرما" يجب أن يُعاقب عليه حيثما حلّ، منذ 74 عاما!

هناك فرق بالطبع بين صنفي اللجوء، الفلسطيني والأوكراني، فالأخير لجوء خمس نجوم (اللهم لا حسد!) مقارنة بالأول، على الرغم من أن كلا منهما حدثا في ساحة أبناء أمة كلّ منهما، فالأوكراني اليوم يلجأ إلى دول أوروبية من جنسه، وكذا اللجوء الفلسطيني لجأ إلى أراضي أمته العربية، ولكن الفرق كان شاسعا بين احتضان كل أرض اللاجئ التي حل بها، والحديث هنا مفخّخ بكثير من الألم، ولا مجال للتفصيل فيه كثيرا، كي لا تُنكأ جروحٌ لم تندمل بعد، ويكفي هنا أن نستدعي معاناة اللاجئ الفلسطيني في بلاد العرب اليوم، خصوصا الذي لا يحمل جواز سفر برقم وطني، فهذا لاجئ مغضوب عليه حيثما حل، ولا يسمح له بدخول أي بلد عربي حتى ولو كان يحمل "وثيقة سفر" أصدرها هذا البلد، فهي وثيقة سفر (هكذا اسمها) لكنها بالفعل وثيقة عدم سفر، ليس هذا فقط، فهي "وصفة" لعقوبة كل من يحملها، وتشتد العقوبة شراسة إن فكّر حاملها أن "يتضامن" مع بلده أو يفكّر، مجرّد تفكير، في أن يرسل مساعدة إلى أهله في الوطن المحتل الذي غادره عنوة، فهو معرّض هنا لتهمة الانتماء لكيان إرهابي (!)، أو ممارسة سلوك يهدّد الأمن "الوطني" للبلد الذي وجد نفسه لاجئا فيه. وبمعنى آخر، هو ممنوع من ممارسة أي مشاعر إيجابية تجاه قضية فلسطين، قد تتطوّر إلى فعلٍ من أي نوع، ناهيك عن منعه أصلا من ممارسة أي عمل مقتصر على أبناء البلد اللاجئ فيه (لبنان مثلا!) فما بالك بحقّ التملّك أو بناء بيت أو شرائه أو إصلاحه أو إنشاء عملٍ خاصّ به؟

هذا مجرّد مقطع عرضي سريع جدا لمعاناة اللاجئ الفلسطيني، حتى ولو كان ينتمي للجيل الثالث أو الرابع من اللاجئين، فهو لم يزل يُعاقب بسبب كونه فقط لاجئا، قد يكون ورث اللجوء عن أبيه، هو وأبناؤه وكل من له صلة به. ولعل هذا المقطع يفسّر توصيف اللجوء الأوكراني هنا بأنه لجوءٌ خمس نجوم، مقايسة مع اللجوء الفلسطيني الذي أصبح "جرما" يجب أن يُعاقب عليه حيثما حلّ، منذ 74 عاما!

عوقب اللاجئ في بعض المناطق فقط لأنه لاجئ، ولم يجد ترحيبا يليق بانتماء اللاجئ وابن البلد غير اللاجئ لشعبٍ واحد

ما سأقوله الآن مؤلم وجارح أكثر من أي اعتراف، فأول ما عوقب به اللاجئ الفلسطيني كان في فلسطين، حيث لجأ كثيرون ممن هُجّروا جرّاء عدوان الصهاينة، قد لا يعجب بعضهم هنا التطرق لمثل هذا الواقع المؤلم، لكنه حصل وإنْ على نطاق ضيق جدا، ومارسته فئة شاذّة ومحدودة وتجاوزته المرحلة، فقد عوقب اللاجئ في بعض المناطق فقط لأنه لاجئ، ولم يجد ترحيبا يليق بانتماء اللاجئ وابن البلد غير اللاجئ لشعبٍ واحد، ولئن كان ذلك كذلك، فما بالك باللاجئ الفلسطيني الذي تعدّه بعض أجهزة الأمن العربية عنصرا غير مرغوب فيه. وأذكر إبّان عملي في وكالة الأنباء الأردنية أن بلدا عربيا رفض ترشيح أحد الموظفين لشغل منصب مراسل الوكالة في ذلك البلد، فقط لأنه أردني من أصل فلسطيني، وجرى التعامل معه بوصفه لاجئا في البلد لا مواطنا فيه، مع أنه يحمل جواز سفر لا وثيقة سفر، وعوقب على هذه الصفة تحديدا!

يُستقبل اللاجئ الأوكراني اليوم في أوروبا بوصفه ضحية تستحقّ أن يُمسح على جراحها، وتُوفّر لها كل سبل الحياة الكريمة. وكم كان لافتا أن نرى حجم الاحتفاء بهذا اللاجئ، خصوصا إن كان طفلا في بعض نقاط الاستقبال الأوروبية، حيث استُقبل بالحلوى الفاخرة والألعاب التي لا يحلم برؤيتها 99% من أطفال العرب، لاجئين كانوا أو مواطنين، على العكس مما لقيه اللاجئ الفلسطيني الذي طالما اتّهم بأنه باع أرضه لليهود، وترك وطنه عامدا وبمحض إرادته، وعومل معاملة المتخلّي عن بلده وبيته، لا المجبور على الفرار بحياته هربا من المذابح الصهيونية التي اعتمدت أسلوبا لتهجير الفلسطيني، ولكم حفل تاريخ اللجوء بهذه المذابح التي كشف عن تفاصيلها الصهاينة أنفسهم، خصوصا من يسمّونهم المؤرّخين الجدد.

لا وطن للفلسطيني إلا فلسطين، حتى ولو حمل كل جوازات سفر البلاد

ومع قتامة هذه الصورة، ثمّة صورة أخرى نقيضة، ليس من الإنصاف وقول الحق إغفالها، فقد استقبل اللاجئ الفلسطيني في بعض أصقاع العرب (كالجزائر مثلا) باحتضان ودفء عزّ نظيرهما، وعومل بما هو أهلٌ له، بل تم "التبرّك" به باعتباره ابن الأرض المقدّسة، وكذا هو حاله كان في بعض بلاد الغرب غير المنحازة للصهيوني، حيث استقبل بوصفه ضحية، وأنزل المنزلة التي يستحقها.

تلك بعض خواطر عاش بعضاً منها كاتب هذه السطور، أو كان شاهدا عليها ولم يزل. ولئن كان لهذه المعاناة جانبها الأسود، إلا أن لها جانبا مضيئا مفيدا، فقد بقيت ناقوسا يدقّ في مخيال الفلسطيني الذي قد ينسى، في لحظة غفلةٍ واقعه المرير، لتأتي تلك المعاملة السيئة لتذكّره أن له وطنا ينتظر عودته منتصرا يوما ما وإن طال، فالفلسطيني لا وطن له إلا فلسطين، حتى ولو حمل كل جوازات سفر البلاد.

A99D1147-B045-41D9-BF62-AB547E776D3E
حلمي الأسمر

كاتب وصحافي من الأردن