بطاقتا هُويّة
حين يقع العميل السريّ في مأزق يهدّد حياته، يضطرّ لإخراج بطاقة هُويّته، التي تثبت انتماءه إلى هذا الجهاز الاستخباراتي أو ذاك. في الحالة الطبيعية، يتعيّن عليه أن تبقى هويته سرّية، لكنه في حالة الخطر الشديد يلجأ إلى إماطة اللثام عن وجهه، ولعل هذا ما فعله أنتوني بلينكن، حينما جاء إلى الكيان الصهيوني بُعيْد هجوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول (2023)، وأعلن بالفم الملآن لليهود الإسرائيليين، في مقرّ وزارة الحرب الصهيونية في تل أبيب، قائلاً: "لقد جئتُ إليكم ليس فقط وزيراً لخارجية الولايات المتحدة، ولكن أيضاً يهوديّاً"، مُنحّياً جانباً منصبَه الرسمي.
ربما شكّل إعلان بلينكن صدمة لبعضهم، ولكنه، عند بعضنا الآخر، أكّد حقيقة اجتهد كثيرون، وباستماتة غريبة، في تأكيدها، هي أنّ صراعنا مع المشروع الاستعماري الصهيوني عقائدي ديني وحضاري. نقول المشروع، هنا، لأنّ الكيان محض استثمار غربي مُموَّل بالكامل من ميزانيات الغرب لأداء هدف مُعيّن، لم يَعدْ خافياً على أصغر تلميذ في العالم، غرباً وشرقاً، من حقّ بلينكن أن يشهر في وجه الجميع بطاقة هُويّته الحقيقية، أو هكذا يعتقد النظام العربي الرسمي، ومن وراءه، لكن الأمر حين يتعلّق بإشهار أمّة تعدادها نحو ملياري إنسان هُويّتها، يصبح الإعلان دعوةً إلى الطائفية، ومدعاة لإشهار سيل من الاتهامات، التي تبدأ بالتعصّب الديني وتنتهي بممارسة الإرهاب، مروراً بطيف واسع من صفات الشيطنة والذم والتجريح. أكثر من هذا، ثمّة في الكيان نفسه هَوَسٌ ديني، غير موجود، ربّما، في أيّ كيان على وجه الأرض، هَوَسٌ يبدأ من حشد سلسلة من النصوص التوراتية والتلمودية، التي تؤكّد "حقّ" اليهود في الاستيلاء على فلسطين، وقتل أهلها، وسلب ممتلكاتهم، وحرمانهم من أبسط حقوق البشر، ناهيك عن تغلغل المفاهيم الدينية في كلّ مناحي حياة الكيان، بما في ذلك "حصونهم" التي ترفع شعار العلمانية. ومن أجمل ما يختصر هذه المفارقة، بين الدين واللادين، ما يقوله المُؤرّخ اليهودي إيلان بابيه: "أغلب اليهود لا يؤمنون بوجود إله لكنّهم يؤمنون أنّه وعدهم بأرض فلسطين". وبمعنى أو بآخر، لا يؤمن العلماني اليهودي بإله، لكنه يؤمن بأنّ هذا الإله (الذي لا يؤمن بوجوده) منحه الحقّ في امتلاك أرض ليست له (!)
حين تُشْهِر هويّتك يهوديّاً، فأنت بالضرورة أعطيت خصمك حقّ إشهار هويته مسلماً، وهي هوية ليست موجّهة لعداء الدين الآخر
أما رئيس وزراء العدوّ بنيامين نتنياهو، المعروف بعلمانيّته وعدم إيمانه، لا بالدين اليهودي ولا بأيّ دين، فقد بدا أخيراً كأنّه أحد غلاة المُتديّنين، فلا يُضيّع فرصةً من دون أن يحشو خطاباته بالنصوص المُستلّة من التوراة والتلمود، وكتب الشريعة اليهودية، بل إنّه نشر أخيراً صورةً له وهو يرتدي تميمة تسمّى "تيفلين"، اعتاد اليهود المتديّنون وضعها على جباههم. وهذه كلمة تعني العصابة بالعبرية. وهي تميمة تتكوّن من حالتيْن جلديتيْن يهوديتيْن، إحداهما مشدودة تحت الإبط الأيمن ومثبّتة بحزام في مستوى القلب، والثانية تثبّت على الجبهة وتلبس عند الصلاة. وتحوي الحالتان نصوصاً من التوراة؛ أولاهما، العشرة أعداد الأولى من الفصل الثالث عشر من سفر التثنية، وثانيتهما، أرقاماً من الفصلين السادس والحادي عشر من سفر الخروج، مكتوبة بالعبرية أو السريانية بالحبر الأسود النظيف (!)، وهي مخصّصة للذكور من عمر 13 عاماً فما فوق. كلّ ما يفعله قادة الكيان، ومن يناصره، مفهوم وعادي، وربّما يعتبره بعضُهم من حقوقهم، لكن حينما يتعلّق الأمر بهوية المسلم فالأمر ينقلب إلى موجة أخرى مليئة بالاتهامات والشيطنة، علماً أنّ إعلان بلينكن، وشعوذات نتنياهو، وباقي جوقة حاخامات السياسة والتديّن المُختَلَق، سواء في الكيان أو في عالم التديّن الإنجيلي المُتصهين، هي بالنسبة للمسلم المؤمن معلوماتٌ تندرج تحت بند "المعلوم من الدين بالضرورة"، فهي بداهاتٌ ومسلّماتٌ لا نقاش فيها، ولا يعني هذا أنّ المسلم مُنفصلٌ عن واقعه، ولا يُفرّق بين "آخر" متديّن يناصبه العداء، ويحشد كلّ معتقداته لتبرير جرائمه في حقّ الإسلام والمسلمين، و"آخر" يعتنق ديناً مغايراً، مسيحياً أو يهودياً، أو غير ذلك من أديان ومعتقدات، لا يناصبه العداء، بل يعتبر نفسه شريكاً مسالماً في الوطن، أيّ وطن، فالمسلم الذي يعرف أصول دينه يُفرّق بين "الآخَريْن". ولا أَبْلَغَ، هنا، مما فعله الزعيم الوطني السوري فارس بيك الخوري، وهو من مسيحيي سورية، كي يردّ على رسالة الجنرال غورو، التي خاطب فيها مسيحيي سورية محاولاً استمالتهم إلى جانب فرنسا، والادعاء بأنّ القوات الفرنسية جاءت إلى البلاد كي تدافع عن مسيحيي الشرق. فما كان من الزعيم الوطني إلا أن دخل الجامع الأموي واعتلى المنبر، وخطب في المصلّين المسلمين قائلاً: "إذا كانت فرنسا تدّعي أنّها احتلت سورية لحمايتنا نحن المسيحيين من المسلمين، فأنا كمسيحي أطلب الحماية من شعبي السوري، وأنا كمسيحي من هذا المنبر أشهد أنّ لا إله إلا الله". وكذا فعل الأديب اللبناني الأشهر جبران خليل جبران، حين كتب: "أنا مسيحي ولي الفخر بذلك، ولكنني أهوى النبيّ العربي وأكبّر اسمه وأُحبّ مجد الإسلام وأخشى زواله، ومهما أقصتني الأيام عن بلادي أظلّ شرقيّ الأخلاق، سوري الأميال، لبناني العواطف". هكذا كتب جبران قبل ما يزيد عن مائة عام في مهجره في أميركا.
الكيان الصهيوني محض استثمار غربي مُموَّل بالكامل من ميزانيات الغرب لأداء هدف مُعيّن، لم يَعدْ خافياً على أصغر تلميذ في العالم
بالعربي الفصيح، حين تُشْهِر هويّتك يهوديّاً، فأنت بالضرورة أعطيت خصمك حقّ إشهار هويته مسلماً، وهي هوية ليست موجّهة لعداء الدين الآخر، يهودياً كان أو مسيحياً، بل لمن يتّخذ من هذيْن الدينيْن عباءةً لمحاربة الإسلام والمسلمين، فقد عاش اليهود والمسيحيون في كنف الإسلام مُعزّزين مُكرّمين وما زالوا، وهنا يمكن فهم سرّ العداء المتوحّش لحركتي حماس والجهاد الإسلامي، تحديداً، باعتبارهما فصيليْن أعادا إحياء مفردة إسلامية أصيلة، حاولوا تشويه صورتها بشتّى السبل، وهي فريضة الجهاد. يعني: أيّها المسلم، كن ما شئت، لكن لا تكن مسلماً مؤمناً، أما نحن اليهود فمن حقّنا أن نكون يهوداً ونحاربك بديننا. أمّا دينك، فالمفروض أن يكون طقسياً للتعبّد الفردي، مُجرّداً من كلّ معاني الفخر والعزّة والكبرياء والكرامة، وهذا يُفسّر الهيجان الجنوني الذي أصاب العدوّ اليهودي، والغربي، بعد "طوفان الأقصى" بكل مفرداته وروحيّته الإسلامية الثائرة.