عادل إمام... بطلٌ بألف وجهٍ ووجه

عادل إمام... بطلٌ بألف وجهٍ ووجه

27 مارس 2024
عادل إمام: تحية لشهداء "قانا" اللبنانية صيف 2006 (خالد الدسوقي/فرانس برس)
+ الخط -
اظهر الملخص
- عادل إمام، الأسطورة الفنية، أعلن اعتزاله مخلفًا إرثًا ثقافيًا وفنيًا ضخمًا، مما يعد نهاية لحقبة بارزة في السينما والمسرح المصري والعربي.
- تجاوز تأثيره الحدود الجغرافية، حيث قدم مجموعة متنوعة من الأدوار التي تراوحت بين الكوميديا والدراما، محققًا إعجاب الجمهور والنقاد، وتكريمه في مهرجان مراكش يؤكد مكانته الفنية.
- استطاع عادل إمام التأثير في الثقافة الشعبية والمجتمعية من خلال أعماله التي عكست جوانب الحياة الاجتماعية والسياسية بأسلوب ساخر، مما جعل شخصياته قريبة من قلوب الناس وأعماله خالدة في ذاكرة الفن.

يمثّل الإعلان عن اعتزال عادل إمام الفنّ حدثاً استثنائياً، ليس فقط للمكانة التي يحتلّها الممثل الكبير في تاريخ السينما والتلفزيون والمسرح في مصر، وعند الجمهور العربي من متابعي هذه الأعمال، بل لأنّه من طينة فنانين تتجاوز أسطورتهم حدود ما صنعوه، على عظمته، فيغدو خبر توقّفهم عن الاشتغال مُوازياً لانصرام حقبة بأكملها، ونهاية فكرة معينة عن السينما، خاصة أنّه عَمّر طويلاً، وأمضى معظم عمره في القمة، من دون أنْ يمرّ في أي فترة فراغ، وكان قادراً على تجديد نفسه، حتّى عندما يحاول بعضهم "دفنه" فنياً قبل الأوان، ليعود أقوى في كلّ مرة.

مغربيٌّ يقرأ عادل إمام

من أين يبدأ سينيفيليٌّ مغربيّ حكايته مع عادل إمام؟

من اللقاء الباكر معه على شاشة التلفزيون، عبر مقاطع من مسلسل "دموع في عيون وقحة" (1980) ليحيى العلمي، أو من أفلامٍ كوميدية، كـ"الهلفوت" (1984) لسمير سيف و"المُتسوّل" (1983) لأحمد السبعاوي؟ أو من "الإنس والجنّ" (1985) لمحمد راضي، مدخلنا إلى أفلام الرعب، يوم كان ممنوعاً علينا مُشاهدة "ذا إكزورسيست"؟ ليس لأنّ أداءه فيه غير مُفزع، بل لأنّنا كنّا نردّد، منكمشين في أنفسنا الصغيرة والنيران تشتعل بتأثير من نظراته الملتهبة: "ليس هناك ما يدعو إلى الخوف. إنّه الممثّل نفسه الذي شاهدتُه أمس في فيلمٍ كوميدي".

أم بالأحرى من الصدمة، الجمالية ـ النفسية، التي شكّلها اكتشاف "احنا بتوع الأتوبيس" (1979) لحسين كمال، الذي يبدأ كوميديا اجتماعية، قبل توغّله، شيئاً فشيئاً، في أقاصي الليل السياسي العربي البهيم، مُمثَّلاً في الحقبة الناصرية، مُقدّماً بفضل جمالية القسوة والميلودراما نقداً حاداً لفكرة تأليه الزعيم الأوحد، وتجسيداً للمثل القائل "إنّ السياسة تتولّى أمرك إذا لم تتولّ أمرها". أو ربما من مسرحيتي "مدرسة المشاغبين" (1971) لجلال الشرقاوي و"شاهد ما شافش حاجة" (1976) لهاني مطاوع، اللتين دخلتا، بجملهما ومواقفهما، المخيال الشعبي، واختلطت صُوَرهما في ذاكرتنا الجماعية بصُوَر ائتلاف العائلة الكبيرة في عيدي الفطر والأضحى؟

لِمَ لا نبدأ من عرض النسخة المُسجّلة من مسرحية "الزعيم" (1993) لشريف عرفة في صالات السينما، بداية الألفية الثالثة، مُنذرةً، رغم الإقبال الذي لاقته، بأزمة الفيلم السينمائي في الصالات؟ أو من تكريمه في "مهرجان مرّاكش" عام 2014؟ دموعه ورقصته الشهيرة قبل استلام الدرع من ثريا جبران، ثم التحامه مع جمهور "جامع الفنا" في احتفاءٍ حاشدٍ، لا ينال نظيره سوى نجوم السينما الهندية. حينها قال، بعد استطراد ساخر خارج النص كعادته، من دقة "بروفات" المهرجان مع المُكرّمين، جملاً لا تزال عالقة في الأذهان: "ما السينما؟ ما هذا الاختراع العظيم الذي رأينا فيه أنفسنا؟ أحببنا الخير وكرهنا الشر. أحياناً أقابل أطفالاً صغاراً يعربون عن حبّهم لي، فأتساءل متى تسنّت لهم مشاهدة أفلامي وشغلي، وهم في هذه السنّ؟ لا أعرف. لكنّي سعيد".

الأجدر أنْ نبدأ من القمّة، حين وجد مع كاتب السيناريو وحيد حامد والمخرج شريف عرفة، بمناسبة "اللعب مع الكبار" (1991)، المزيج الأروع بين شخصية الكهل العاطل عن العمل، بسترة الجينز الزرقاء، التي برع في أدائها، وحبكة غموض بوليسي، من جهة أولى؛ والتوازن الأمثل بين الكوميديا والقضايا الاجتماعية والسياسية، الاتجاهين اللذين ظلّ تقلّبه بينهما مصدر الطاقة التي تحرّكه وتضبط إيقاعه مثل "مترونوم"، من جهة ثانية.

قبل ذلك، كان "الحرّيف" (1983) لمحمد خان، سيناريو وحوار بشير الديك، وانفجار حساسية النظرات الصامتة ونَفَس الاغتراب الميلانكولي لأداء شخصية لاعب "الشراب" فارس، الذي يلقي نظرة مشيّعةً على مدينته، بأشخاصها وأشيائها، ولا يجد نفسه إلا في لحظات توحّدٍ مع الكرة، يعيشها بـ"العرض البطيء"، والأنفاس اللاهثة.

ملامح شكلٍ وأداء

قامة متوسّطة، وغير ممشوقة. ملامح غير وسيمة، بمقاييس النجومية. شَعرٌ بدأ في التساقط باكراً. رغم كلّ ذلك، هناك في نظراته وملامحه قدرة على التعبير، تتفوّق على جلّ نجوم الأدوار الأولى من مجايليه. بطلٌ بألف وجه ووجه، أدّى بلا شكّ فاتورة ثقافتنا التي تتعامل باستخفافٍ لا شعوري، أو بحذرٍ في أحسن الأحوال، مع كلّ ما يحقّق نجاحاً شعبياً ونجومية طاغية، أو يراهن على معادلة الجمهور في اختياراته. جميع الذين حاولوا تصنيفه في خانة محدّدة، أو مقارنته بممثلين آخرين، كنور الشريف وأحمد زكي، انطلاقاً من هذه الجزئية، مرّوا بجانب ما يصنع تفرّده وفنّه.

سينما ودراما
التحديثات الحية

كما لا يناسب الحكم على غاري كوبر انطلاقاً من نوعية أدائه فقط، أو طبيعة الأدوار التي أدّاها، ينتمي عادل إمام إلى فئة الممثلين الذين تتجاوز أسطورتهم نوعية الأفلام التي أدّوا بطولتها على الشاشة، أو اختياراتهم، أو الصورة المتكوّنة حولهم انطلاقاً من مواقفهم السياسية وتصريحاتهم. إنّه ظاهرة حقيقية، أولاً بطول مساره وتأثيره الممتدّ على 6 عقود، عاصر فيها نصف عمر السينما المصرية، و3 أجيال من الفنانين، من دون أنْ يفقد قدرته على مواكبة زمانه وتجديد نفسه، وتمثّل مراحل فاصلة من تاريخ بلده.

في "المنسي" (1993) لشريف عرفة، هناك مشهد "ميتا سينمائي"، مذهلٌ باستشرافيّته، يدور في قاعة سينمائية، يلتقي فيها "الزعيم" جيلَ الكوميديين الشباب، أحمد آدم ومحمد هنيدي وعلاء ولي الدين، الذين سيتربّعون على عرش الكوميديا في العقد الموالي، قبل أنْ ينبعث متوهّجاً كالعنقاء من جديد، بمناسبة أفلامٍ كـ"مرجان أحمد مرجان" (2007) لعلي إدريس، الذي التقط، بمنظورٍ هزلي، معضلة ما بعد الربيع العربي، وكيف تعلق مجتمعاتنا اليوم بين مطرقة الوصولية الدينية وفساد الطبقة البلوتوقراطية، بفضل لازمات مثل: "تشرب شاي بالياسمين؟".

كيف ننسى الرهافة التي أدّى بها شخصية زكي رستم، ذات الأبعاد الفيسكونتية، مُعبّراً عن المشاعر المعقّدة التي تعتري آخر ممثّلي الأرستقراطية، وسط تحلّل مجتمعي شبه كامل، تحيل إليه أحوال قاطني "عمارة يعقوبيان" (2007) لمروان حامد، المقتبس من رواية علاء الأسواني بالعنوان نفسه (2002)، التي تمثّل صورة إشعاعية عن المجتمع العربي قبل الثورة.

في "الإرهاب والكباب" (1992)، للثنائي شريف عرفة مخرجاً ووحيد حامد كاتباً، نجد تمثّلاً لفكرة "لا أخلاقية الإرهاب بمثابة جوابٍ على لا أخلاقية السلطة"، التي عبّر عنها المفكر الفرنسي جان بودريار في رسالته الشهيرة، غداة تفجيرات "11 سبتمبر" (2001)، التي أثارت ضجّة كبيرة. فيلمٌ يحثّ على رؤية "ما وراء الخير والشرّ"، لفهم تعقيد ظاهرة الإرهاب، وكيف يترتّب أحياناً عن صعود "عدو هلامي" (بتعبير بودريار دائماً)، يمثّله هنا المواطن البسيط، الذي قصد مجمّع التحرير بحثاً عن نقل طفليه من مدرسةٍ إلى أخرى، ليلقى تعقيدات بيروقراطية، قبل أن تُتاح له، صدفة، فرصة "تفجير" ما يمور في داخله من ترسّبات قهرية، برع إمام في حملها على الشاشة بلغة العيون قبل الكلمات.

"سنحلم..."

"العبقرية أنْ تخلق شيئاً مبتذلاً، Un poncif"، كتب مرّةً شارل بودلير. كم من جُمل، مثل "الكباب الكباب ولا نخلي عيشتكو هباب" أو "الفيلم ده قصة ولا مناظر؟"، التي خلقها الكاتب العبقري وحيد حامد، لم تكن لتدخل الثقافة الشعبية إلى حدّ الابتذال، لولا أنّ عادل إمام أدّاها بشكل لا يقلّ عبقرية.

هناك مشهدان يختزلان، في تباينهما، عبقرية الأداء، وشساعة طيف المشاعر التي تختلج في عادل إمام: مشهد الخروج عن النصّ، في تسجيل مسرحية "الواد سيّد الشّغال" للتلفزيون، حيث أبان عن شجاعة مواجهة الجماهير في موقفٍ حيّ وصعب، اضطربت له حركات الممثلين الآخرين ونظراتهم، وعن قدرة استثنائية على ارتجال الكوميديا انطلاقاً من تفصيل صغير؛ ومشهد حسن بهلول في "اللعب مع الكبار"، حين يشير ضابط الشرطة (حسين فهمي) إلى جثة صديقه علي الزهار (محمود الجندي) ويسأله: "هو ده؟". في تعبير محيّاه، وعينيه الدامعتين، وصوته المتهدّج، والإيقاع الذي ألقى به جوابه: "هو ده الحلم اللّي ما حلمتهوش"، هناك هشاشةٌ وأسى لا متناهِيَين، يعكسان قلّة حيلة الشخصية، وفي الآن نفسه عزيمتها، التي ستنفجر في اللقطة الموالية. يقف حسن بهلول حافي القدمين، غير آبهٍ بطلقات النار حوله، وهو يصرخ: "أنا ح احلم... ح احلم... ح احلم...".

مشهدٌ ـ وصيةٌ أخيرةٌ، سابقةٌ لأوانها، من الزعيم، عن قيمة الحلم والسينما في مواجهة اضطراب الأوضاع وشدائد الحياة، لعلّه يغرينا بأن نستمرّ في الحياة وسط "كابوس" عالمٍ من دون فكرة أي جديد لعادل إمام، مُردّدين بدورنا: "سنحلم... سنحلم... سنحلم...".

المساهمون