بَكَرة من "عائد إلى حيفا" وإلى دمشق

20 أكتوبر 2023
من فيلم "عائد إلى حيفا" (يوتيوب)
+ الخط -

في كلّ مستويات العلاقة مع السينما الفلسطينية، أو الأفلام التي تتناول القضية الفلسطينية ومواجهة الاحتلال الإسرائيلي، يظلّ الشخصيّ فيها قوياً وفاعلاً. هذا التوصيف متأتٍ من التجربة الحياتية/الشخصية، التي على بساطتها تميل إلى التوافق معه.

أتذكّر تجربة صغيرة لي مع المخرج العراقي قاسم حَول، وفيلمه "عائد إلى حيفا" (1982)، المُقتَبَسة حكايته من قصّة طويلة بالعنوان نفسه للروائي الفلسطيني غسان كنفاني، تُعزّز ذلك الانطباع.

في بداية ثمانينيات القرن المنصرم، وقبل وقتٍ قليل على مغادرتي بيروت إلى دمشق، يتّصل بي قاسم، ويطلب منّي إيصال "بَكرةٍ" إلى شخصٍ في الشام، مَعنيّ بإكمال جوانب فنية من محتواها. يوصيني بالحرص الشديد عليها. أسلّم الأمانة إلى صاحبها. لكنّ الإحساس بأنْ لي دوراً في هذا الفيلم الفلسطيني لم يفارقني. في مشاهدة لاحقة له، سؤال وحيد ألحّ عليّ: تُرى، أيّ من تلك المَشاهد كان في البكرة التي حملتها؟

بعد عقود من الغربة، وبعد مُشاهدة أفلام كثيرة مُنجزة لسينمائيين فلسطينيين، وأخرى لغيرهم تناولوا فيها قضيتهم العادلة، يصدف أنْ أشاهد في السويد فيلمين، تزامن عرضهما في الوقت نفسه تقريباً، تَركا أثراً قوياً فيّ: "الزمن الباقي.. سيرة الحاضر الغائب" (2009) لإيليا سليمان، و"غزّتي" (2009) للسويدي بير أوكه (يختصر الاسمين بـ"بيو") هولمكفيست.

الانجذاب والتأثّر بمُنجز الفلسطيني سليمان له صلة مباشرة بالسؤال الملتاع، الذي يلازم تفكير العائد إلى وطنه بعد طول غياب: بأيْ عين ينبغي عليه النظر إلى مكانه القديم وناسه، اللذين لم يبقيا كما كانا؟ وجدت في معالجته السؤال الوجودي توافقاً مع ما أشعر به، واندهاشاً منّي بتفرّده في أسلوب تجسيده سينمائياً، بلغةٍ ساخرة مُنفتحةٍ على قراءة نقدية شجاعة لتاريخه الشخصي، وتاريخ بلده، منذ أنْ استوطنه الأغراب، وصولاً إلى اللحظة التي يركب فيها الفلسطيني إيلي، العائد للتوّ من الخارج، سيارة الأجرة التي تقلّه من المطار إلى بيت أهله، ومنها يشرع سليمان السينمائي بكتابة جزء من سيرته الشخصية المُتشابكة مع سيرة وطنه ومدينته الناصرة، بلغة واشتغال سينمائيين، يختلط فيهما الفانتازي بالواقعي، وبتمسّك مُحْكَم، في الوقت نفسه، بشروط الصنعة السينمائية الخلاّقة.

أسلوبه السينمائي الخاص يسم ثلاثيّته، "سجل اختفاء" (1996) و"يد إلهية" (2002) و"الزمن الباقي". لكنّ مقدار تأثير كلّ واحدٍ منها على المتلقّي يظلّ متفاوتاً، لكثرة العوامل الشخصية المؤثّرة فيه، والمُحدِّدة لذائقته الجمالية، ولزاويا نظره وتقييمه لأيّ مُنجز إبداعي. حتى على المستوى النقدي، لا يُمكن إسقاط الشخصيّ وإبعاده، بحجّة الموضوعية. فالتفضيل النقدي يبقى فيه من الشخصيّ شيء كثير. هذا ما أجده في البُعد السياسي لـ"الزمن الباقي"، المهموم بفكرة تقديم الفلسطيني الآخر، الباقي في وطنه، المتشبّث بأرضه، والحاضر في كلّ أفلام إيليا سليمان، والحريص على تقديمه كما هو، من دون استجداء عطف المتلقّي العربي معه، أو الدعوة إلى قبوله والاعتراف بفلسطينيّته.

في "الزمن الباقي"، تُلامس فكرة البحث في وجود فلسطيني الداخل، أو الـ48، خطاباً سياسياً طالما نادت به قوى وأحزاب يسارية، عاندت مواقفها مدّاً شعبوياً يعترف بالفلسطينيين الخارجين من بلدهم عنوة، من دون غيرهم. رؤية هذا الفلسطيني على الشاشة، مُجسّداً بدقة مذهلة، في شخصية الأب، في خاتمة الثلاثية، تؤثّر في قرار اختياري له كأحد أكثر الأفلام الفلسطينية تأثيراً فيّ، لأنّ مُشاهدته تمنحني إحساساً عميقاً بصدق ما كنّا ندعو إليه، ونتمنّى على الآخرين النظر إليهم كجزء من شعب واحد، توزّع بين وطنه ومنافيه، وربما السبب نفسه الذي دفعني إلى مجاورة فيلم السويدي هولمكفيست، "غزّتي"، معه.

وحدها ياء التملّك والنسب (في الأصل أيضاً، Mitt Gaza) تكفي لتمدّ المتلقي العربي خاصة بشحنةٍ عاطفية، تدفعه إلى الترحيب بمخرج سويدي يُعلن انتماءه إلى مدينة فلسطينية، طالما عاملها كوطن ثانٍ له. لكنّه، في وثائقيّه هذا، يُكرّس بحثاً شخصياً في الصداقة التي جمعته بعائلة غزاوية، صارت جزءاً من وجوده، وهذا جعل غزّة مدينةً له.
منذ تعرّضها للحصار والدمار، واصل السويدي الذهاب إلى غزّة ليصور ويوثّق حقيقة ما تتعرّض له المدينة وأهلها. في زيارته الأولى، لم يكن يعرف أحداً فيها. التقى امرأة منها، سألته: هل تريد أنْ أدلّك على من يعرف المدينة وشعابها، ويُعينك على عملك فيها؟ هكذا يصل إلى مصطفى الحمداني. يستقبله الرجل في بيته، ويعرّفه على عائلته.

مع الوقت، يضحي السويدي جزءاً منها ومن المدينة التي أحبّها. هذا ما يخبرنا به مفتتح وثائقيّه، وبصوته يُعلّق على لقطة التقطها لصديقه عام 2008، يظهر فيها وهو ينشر الغسيل على سطح منزله مُبتسماً وسعيداً بوجوده. عودته، بعد عامٍ على تصويره تلك اللقطة، دافعها سماع خبر إصابته بسرطان البروستات. جاء ليودّعه، ويحكي للعالم عن علاقة تمتدّ إلى عقودٍ، وتتفرّع صداقات وصلات مع مدينة تُصرّ على الحياة. يذكر مدى إعجابه بمصطفى، لأنّه رغم كلّ الويلات التي عاشها، يحرص على تربية أولاده وتعليمهم.

"غزّتي" بسيط إنتاجياً، حاله حال أكثر أفلام مخرجه، لكنّ فيه من العمق ما يكفي ليترك أثراً عميقاً في متلقّيه، وفي أعماقي. لحظة وداعه الحزينة لصديقه تُجسّد وفاءً لصداقة حقيقية، تُكذّب أوهام الاختلاف العرقي، وتعزّز قيماً إنسانية نبيلة، يبحث عنها الغريب المُقيم في بلد هولمكفيست. يغدو فيلمه صوتهم وصوت الفلسطينيين في غزّة وغيرها من المدن الفلسطينية.

هذا وحده يكفي لترك أثر فينا، ويبقى صداه مسموعاً في أعماقنا. كلّما تذكّرت لحظة نقله تفاصيل حالة صديقه الصحية لولده، الذي يدرس في النرويج علم الطب النفسي، أتذكّر ما معنى أنْ تصنع فيلماً إنسانياً مؤثّراً عن فلسطين من دون ادّعاء.

المساهمون