"المخدوعون" و"عرس الجليل"... كحلمٍ تعاودنا صُوره

"المخدوعون" و"عرس الجليل"... كحلمٍ تعاودنا صُوره

20 أكتوبر 2023
من فيلم "عرس الجليل" (IMDb)
+ الخط -

"ولكن... لماذا؟". سؤالٌ عَبّر عن صدمة عميقة ووجع غامر. مشهدٌ عَلّم الطفولة، وسَكَن ذاكرتها، ورافقها حتى الصّبا، بل إلى اليوم. لماذا لم يدقّوا على الجدران؟ لماذا قَضوا بهذه الطريقة؟ لماذا، ولماذا...؟ كانت أسئلة مُحرّكة لتأملٍ، يتلاءم وهذه السنّ الصغيرة نسبياً، في ظلمِ أبرياء، وغياب عدالة. مُعلّمة مادة "القوميّة" أو "المجتمع"، فالتسميات كانت تتغيّر بحسب الحالة والعقائد السائدة حينها في سورية، كانت تحاول شرح أسباب الظلم "السياسي" لنا في الإعدادية، بناءً على إلحاحنا. تسعى إلى إقناعنا بما لا تقتنع به براءتنا. تحكي عن مصالح دولية لا تُدركها عقولنا. الأمر بالنسبة إلينا كان مُتعلّقاً بالمشاعر: حبّ وكره. لماذا تحبّ أميركا إسرائيل، وتكره الفلسطينيين؟ لماذا لا يميل هؤلاء الكبار إلى العدالة؟

بقي المشهد الأخير من "المخدوعون" (1972)، الفيلم السوري للمخرج المصري توفيق صالح، أحد أكثر المشاهد السينمائية التي فُرضت على الذاكرة. هؤلاء الرجال الفلسطينيون الثلاثة ماتوا اختناقاً من لهيب الحرّ، في مستودع شاحنة، وهم في طريقهم تهريباً إلى الكويت. كانوا يبحثون عن رزقٍ، بعد تركهم أرضهم. مشهدٌ تتجسّد معه صورة الممثل السوري الجبّار (في عرفي ذلك الحين) عبد الرحمن آل رشي، ودمعته التي حين مسّت الأرض تبخّرت من شِدّة حرارتها في صحراء الكويت.

مشهد ترك حرقة في القلب، وثورة في النفس. ربما لأنّه صَدَم رقّة مشاعر، وجسّد، للمرّة الأولى، فنياً، مأساة جيران فلسطينيين في حارتنا. لم أكن أدرك تماماً وضعهم. كانوا هنا، وكنّا أطفالاً نلعب معاً على أرضنا نحن. كانوا مثلنا، تقريباً، فهم فلسطينيون، وهناك ما فرّقهم عنّا بعض الشيء. انتماءٌ يلاحقهم في لهجةٍ وإصرارٍ على ذكرها. بينما نحن لم نكن نبدي اهتماماً واعياً بسوريّتنا.

حينها، كانت قضية فلسطين لا تزال قضية العرب الأولى، لا سيما في دمشق، قلب العروبة النابض، كما كان يحلو لهم أنْ يُسمّوها. تحمّست "المؤسسة العامة للسينما" فيها لإنتاج هذا الفيلم، بعد رفض تصويره في مصر، كما فعلتْ مع أفلامٍ أخرى، فلسطينية الهمّ، كـ"كفر قاسم" (1974)، للّبناني الراحل برهان علوية.

"المخدوعون" مأخوذٌ من رواية "رجال في الشمس" (1963)، للكاتب الفلسطيني غسان كنفاني. خمسون سنة مرّت، ولا يزال هذا المشهد الأخير، يا للدهشة، يُثير اليوم المشاعر نفسها.

حين بدأتُ كتابة هذه المقالة، عَنّ على البال استرجاعه، ومُشاهدة هذه اللقطات الأخيرة. حين كانت الدقائق تمرّ، وسائق الصهريج يُنجز أوراقه في مكاتب أمن الحدود بين العراق والكويت، والرجال الثلاثة، وهم من أجيال مختلفة، مُختبئون يلتهبون في الخزّان الحديدي، بدرجة حرارة لا بُدّ أنّها تجاوزت الخمسين أو الستين، كان شعورٌ بغضبٍ يتصاعد من موظّف الحدود، وهو يثرثر مع السائق مازحاً، ويؤخّره في مهمّته العاجلة، إذْ عليه اللحاق بالرجال القابعين في اللهيب، الذين وعدهم بالعودة، وإخراجهم بعد سبع دقائق فقط. سيطر قلقٌ شديد عليّ من جديد، كأنّي أشاهد الفيلم للمرة الأولى. كأنّي لا أعرف النتيجة. كأنّي أتمنّى إنقاذهم فعلاً. وحين انطلق "أبو الخيزران" بشاحنته، استعدتُ مشاعر طفولية، في إحساسٍ بكارثة مقبلة، ومحاولة منعها ونحن أمام الشاشة، من نوع ضغط على دوّاسة البنزين مع السائق، للانطلاق بأسرع ما يُمكن بعيداً عن حرس الحدود، والتمكّن من فتح الخزّان.

كان المشهد، مرة أخرى، غير مُحتَمَل، بما يثيره من توتّر، وما يبثّه من حزن.

أخْلَص توفيق صالح لرواية غسان كنفاني، وقدّمها فيلماً فنّياً مؤثّراً ومتكاملاً في اشتغالاته، مُستعيناً بموسيقى صلحي الوادي الشجيّة، وممثلين سوريين رائعين، أمثال محمد خير حلواني وبسام لطفي، بأداءٍ يصعب الوصول إليه اليوم مع مفهوم النجومية المُسيطر في الأعمال السورية.

لكنّ إعادة مُشاهدته، بعد كلّ هذه السنوات، لا تُعيد فقط مشاعر القهر والتأثّر، بل تتيح انتباهاً إلى ما لم يُشغل قبلاً، وتتوضح رسالته في إلقاء المسؤولية على الجميع، ليس على الأنظمة العربية فحسب، بل على الفلسطيني نفسه. تشي بهذا بداية الفيلم، والعبارة المكتوبة في مقدّمته: "أبي قال مرّة. الذي ما له وطن، ما له في الثرى ضريح. ونهاني عن السفر".

لكنّ فلسطين، التي ملأت القلب والذاكرة والتاريخ، والتي كبرنا مع قضيتها في سورية، كانت قريبة بعيدة، كحلمٍ تعاودنا صُوره، وحين تسنح فرصة لرؤيتها من الداخل، لم نكن نُفوّتها. أيّ فيلم فلسطيني، كان هناك تشوّق كبير لمشاهدته. لكنْ، لم تُتَح لي مشاهدة سينماها الخاصة إلاّ في فرنسا.

كان الفيلم الثاني الذي ترك أثره في النفس فلسطينيّاً، موضوعاً وإخراجاً، هذه المرة. أهميته لم تكمن في رسالته فحسب، بل في شكله الفني، ولغته السينمائية التي تهتمّ بالتفاصيل العميقة في المجتمع الفلسطيني، تبدّت في تصوير قرية فلسطينية وأجوائها، في إعادة إحياء فلسطين وتقاليدها، المنبوذ منها (الذكورية) والمُحبّب (قدرة نسائها على الاحتفاظ بالعادات الشعبية، وتنظيم هذا العرس الفلسطيني في هويته).

فيلمٌ يُعبّر عن حبّ صانعه لفلسطين، كما عبّرت أفلام إيليا سليمان في ما بعد. حُبّ هذا العالم القديم الذي لم يعد هنا، أو المُهدَّد في وجوده. العالم الذي يختفي، ليس بمعنى الانتهاء بل الاختفاء، كقمر يختفي خلف غيمة، لكنّه هنا موجود، وقابل للظهور في أيّ لحظة.

كان الفضول على أشدّه لمشاهدة "عرس الجليل" (1987)، للفلسطيني ميشيل خليفي، في "مهرجان القارات الثلاث في نانت". فيلم مُقبلٌ من قلب فلسطين، مع مختار قرية يأتي إلى الحاكم الإسرائيلي، طالباً منه رفع حظر التجوّل لليلة واحدة، للاحتفال بعرس ابنه. يقبل الحاكم بعد مفاوضات طويلة، واضعاً شرطاً عويصاً: أنْ يكونوا، هو وجنوده، ضيوف الشرف في الحفل.

كلّ ما يدور من نقاشٍ حول هذا الحضور مع أهل القرية، يُبدي الفرد الفلسطيني كفردٍ أو كجزءٍ من جماعة في تفكيره، بحسناته ومساوئه وتناقضاته. لا خطاب سياسياً مباشراً.

فرض الجنود الإسرائيليون حضورهم، فلنَرَ ما يُمكن أنْ نفعله بقربهم. ما يبديه الفيلم هذه التقاليد العربية من حرارة وحسن ضيافة، هذا الاقتراب "الممكن" من اليهود، إنْ احتفظوا بشرقيّتهم، ولم يلعبوا دور المحتل، الأميركي أو أي مُحتل غربي عنجهي. إنْ تمثّلوا جذورهم الشرقية، التي يمكن معها التعايش سوياً كجيران ندّيين. الجندية الإسرائيلية، التي جُذبت لمشاركة النساء في الحِنّة والزينة، خير تعبير عن ذلك، في استسلامها، بل وفرحتها.

لكنّ المحتلّ يريد أنْ يكون مُحتلاً، ولا تروقه هذه النظرة. والعربي ربما اعتبر الفيلم تطبيعاً، لا سيما وهو يلمس أنّ هذا آخر ما يريده "المُحتلّ": الاعتراف بشرقيّته، والمُشاركة.

المساهمون