بترا سرحال: لأنّ الرائحة لا يمكن احتلالها

بترا سرحال: لأنّ الرائحة لا يمكن احتلالها

15 مايو 2024
من العرض (ليفا سودرغيت)
+ الخط -
اظهر الملخص
- بترا سرحال تبدع في "هناك حيث رائحة الليمون" ببيروت، مستخدمة الأزهار والأعشاب لإعادة خلق روائح مدن وقرى فلسطينية من خلال مقابلات مع فلسطينيين، تحول قطع القماش إلى خرائط عطرية تروي قصص الوطن والشتات.
- المعرض في غاليري Takeover Beirut يقدم تجربة حسية تدعو الزوار لاستكشاف ذكريات فلسطين عبر حاسة الشم، مع إضافة بعد سياسي واجتماعي بإعادة خلق روائح تحمل معاني كرائحة الخوف والحاجز الإسرائيلي.
- سرحال تستخدم حاسة الشم كوسيلة للتعبير والاستكشاف، مؤكدة على قوة الروائح في تجاوز الحدود الجغرافية والسياسية، وذلك من خلال تجاربها الشخصية بما في ذلك فقدان حاسة الشم مؤقتاً بسبب فيروس كورونا.

في قاعة صغيرة بيضاء في مدينة بيروت، تجلس بترا سرحال إلى طاولة، يكسر صمتها طيف فوضوي من زهور ملوّنة وأوراق تين وبرتقالة. تشحذ الفنانة سكّينها الصغيرة لتقشّر الثمرة الوردية، وبين ثنايا قطعة قماش قطني بيضاء تسكن الأزهار قبل أن تسحقها بترا بحجر أملس، فيصطبغ البياض بألوان الزهور القانية، وينتشر عطرها في فضاء المكان. "هناك حيث رائحة الليمون"، هو عنوان المشروع التفاعلي الجديد للفنانة متعددة الاختصاصات، بترا سرحال الذي عرضته على مدى يومين في قاعة غاليري Takeover Beirut في الثاني والثالث من الشهر الحالي، أمام حضور زارها على دفعات؛ أوّلاً لضيق المساحة، وثانياً والأهم لما يتطلّبه العرض من حميمية. العرض هذا هو بداية لمشروع قيد التطوير لسرحال، بدأته بمقابلات أجرتها مع فلسطينيين من داخل الأرض المحتلّة، وآخرين من مخيّمات لبنان، ممن عرفوا بلادهم قبل النكبة أو عرفوها من خلال ذويهم الأكبر جيلاً.
سعت المقابلات إلى رسم خرائط لمدن وقرى فلسطينية عبر الرائحة. تسألهم بترا عن المكان وعناصره، وتحاول أن تتخيّل شكل الرائحة الموجودة فيه، ثم تجمع أعشاباً وزهوراً لتستخرج منها الرائحة واللون على القماش، مجسّدة خرائط لفلسطين تتبعها العين والأنف. الروائح في "هناك حيث رائحة الليمون" لا تحمل فقط عبير الزهور، بل تحاول الفنانة أيضاً تركيب روائح لمدلولات كرائحة الخوف، ورائحة الحاجز الإسرائيلي، ورائحة البحيرات والبيت. يرافق هذا العرض الحسّي تسجيلٌ صوتيٌ لبرنامج "صوت فلسطين" الذي كان يبثّ على إذاعة صوت الشعب من بيروت، وكان يضمّ دوماً فقرة تتحدّث عن مناطق في فلسطين من منطلق تاريخي وجغرافي وآني. "كنت أستمع إلى البرنامج وأشعر بحاجة لأن أحفظ أسماء المناطق في فلسطين، أنا الممنوعة من دخول أراضيها"، تقول بترا المولودة في بيروت لعائلة من جبل لبنان زرعت فيها علاقة وطيدة بفلسطين وقضيّة شعبها.
يتوافد الحضور لخرائط شفا عمرو، والقدس، وغزّة وغيرها، يستمعون إلى حكايا بترا بكثير من الاهتمام والأسئلة. تشاركهم مضيفتهم قصصاً ممن قابلتهم، فتحكي مثلاً قصة امرأة من سكّان مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين في جنوب لبنان، حكت لها عن ذكرى رائحة والدتها. "أغمضوا أعينكم"، تطلب بترا من الحضور، ثم تمرّ عليهم فرداً فرداً حاملة قماشة تحمل فتاتاً من كعك العيد. تقرّبها من أنوفهم ليتنشّق زوّارها رائحة الأم الراحلة. هي ليست فقط رائحة شوارع فلسطين المحتلّة، بل رائحة الذاكرة ما بين الوطن والشّتات، تلك الذاكرات الفردية التي بمجموعها تشكّل خريطة كبيرة محطّاتها أنفاس الفلسطينيين؛ اللاجئين منهم ومن بقي داخل البلاد، وامتدادها على مدى انتشار الرائحة وحكاياتها.
ليست تلك المرّة الأولى التي تعمل بها بترا سرحال على مشروع عماده حاسّة الشمّ، أو ما يعرف بالفنون الشمّية (Olfactory Arts)؛ فقد سبق أن قدّمت في مركز بيروت للفنّ، في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، تجهيزاً فنّياً أدائياً بعنوان "أو حين غفوت لثمانية عشر نهاراً وليلاً"، أخذت فيه بترا سرحال الحضور في رحلة عبر متاهة ما بين الروائح والصوت والرقص؛ إذ تناولت فيه الفنّانة أثر الانهيار الاقتصادي والسياسي في بيروت على وظائف الجسد.
حاسّة الشمّ لدى بترا سرحال تشكّل هاجساً منذ طفولتها، وهي بمثابة بوصلتها الحركيّة، وقد أدركت ذلك بعد إصابتها بفيروس كورونا وفقدانها حاسّة الشمّ لمدة أسبوع، ما شكّل عائقاً أمامها. إثر ذلك، أولت الفنانة اهتماماً أكبر بصناعة الروائح وكيفية توظيفها في إطار الفن، قاصدة فرنسا لتعلّم صناعة العطور، سعياً منها إلى الوصول إلى محاولات خلق رائحة الأماكن والمدن. لتلك المسألة دلالات اجتماعية سياسية تاريخية أيضاً. ففي المقابلات التي أجرتها بترا مع أشخاص من غزّة، أخبروها بأن الرائحة المنتشرة في شوارع غزّة هي رائحة السّيرج؛ الزّيت المستخدم لقلي الفلافل.

قد يظنّ المرء للوهلة الأولى أن تلك رائحة طيّبة، إلى أن يدرك أن المقصود هو رائحة انبعاث الزيت المحترق في محرّكات السيّارات، إذ اعتمده سكّان القطاع بدل البنزين في ظل الحصار القائم وسط الإبادة.
في خرائطها المعلّقة على جدران قاعة العرض، توأمت بترا ما بين القصص التي سمعتها وخيالها، لتعيد رسم خطى فلسطينية في تنقّلها ما بين الشوارع، والحواجز، والبيت والشاطئ وزوايا أخرى في الذاكرة تنتظر مراحل جديدة من مشروعها لتكبر وتتّسع. أمّا لماذا اختارت الرائحة لتحكي قصة فلسطين؛ فتقول بترا سرحال "لأن الرائحة لا تختفي ولا يمكن لأحد احتلالها.

المساهمون