أمين المسعدي (3/ 3): ينبغي أنْ تعيش السينما بكلّ جوارحك

أمين المسعدي (3/ 3): ينبغي أنْ تعيش السينما بكلّ جوارحك

14 اغسطس 2023
أمين المسعدي: التصوير يتعلّق بالبحث وبنوعية المرجعيات (العربي الجديد)
+ الخط -

 

(*) هذا يحيلنا إلى مسألة التعاون بين مدير التصوير ومهندس الديكور. إحدى أهم مشكلات المسلسلات العربية اليوم أنّك تكاد تُحسّ أنّ الديكور نفسه يتكرّر فيها، كأنّ كلّ شيء برّاق وغالٍ، لكنْ لا روح فيه. عقلية تعتمد على الجمال بالمعنى السطحي والبرّاق للكلمة. مسألة تجانس الرؤى الإبداعية بين مدير التصوير ومهندس الديكور أساسية.

بالضبط. المخرج ومدير التصوير ومهندس الديكور يشكّلون أهمّ ثلاثي في فريق الفيلم، وفق رؤية كوبولا. يحكي فيتوريو ستورارو (مدير تصوير إيطالي ـ المحرّر) أنّ كوبولا اتصل به وبدين تافولاريس، مهندس الديكور، حين كان يعدّ لفيلم جديد، ليقيموا معه شهراً في بيته وسط الجبال، ويحكي لهم عن مشروعه. يقول ستورارو إنّ كوبولا حدّثهما قليلاً عن السيناريو في اليوم الأول. لكنّهم أمضوا بقية الوقت في الاستماع إلى الموسيقى، والتأمّل في لوحات تشكيلية، وتناول الطعام والشراب. يضيف أنّهم خرجوا بعد شهر مع فكرة واضحة حول الفيلم. أي أنّهم كانوا يعرفون جيداً ما سيصوّرونه في كلّ لقطة منه. أعتقد أنّ العلاقة بين هذا الثلاثي أساسية لصنع النظرة والطرح الإبداعي في السينما. فللمخرج فكرة وتصوّر، والقادر على ترجمتهما فنياً مهندس الديكور، ومن يلتقطهما تقنياً وجمالياً مدير التصوير. لذلك، مثلاً، حين نُعِدّ مشروع فيلم مع علاء الدين سليم، نبدأ الاشتغال مع التشكيلي ومهندس الديكور مالك كناوي لسنتين، قبل بدء التصوير. هذا يجعل الأفكار تختمر، والرؤى تتقارب، ويسعفنا للخروج عن أنماط اشتغالٍ لا تمتّ للسينما بصلة، تدفع البعض إلى دعوة مدير التصوير بضع أيام قبل بدء التصوير.

هذه ليست سينما. السينما ينبغي أنْ تعيشها بكل جوارحك. أنْ تحلم بها وتختبرها وتقتسمها. التحوّلات التي تجري في الطريق تصنع الفيلم.

 

(*) هناك أيضاً كليشيهات تحصر ما يناقشه مدير التصوير مع المخرج في طيف الألوان المستعملة، وأشياء من هذا القبيل. لكنْ، أعتقد أنّ هناك أشياء كثيرة أخرى يُمكن أنْ يناقشها المخرج مع مدير التصوير، كحركة الكاميرا والتبئير والمسافة.

طيف الألوان مهمّ، ونناقشه كثيراً، خاصة حين تجد أن علاء مثلاً استوحى فكرة "طلامس" من لوحة تشكيلية رآها في سفرٍ، فكتب سيناريو انطلاقاً منها. أي أنّ طرح المخرج أصلاً يستدعي العمق. لذلك، طبيعيٌّ حين تكون مدير تصوير أو مهندس ديكور أو مونتيراً، ويأتيك مخرجٌ من هذه الطينة، لا يسعك سوى أنْ تقتسم معه عمق رؤيته للأشياء.

بمناسبة "طلامس"، أجرينا بحثاً عن التشكيل والألوان وحركات الكاميرا. مشهد الـ"درون" مثلاً (مشهد طويل ملتقط بالـ"درون" ليلاً، يتبع عبور البطل من مقبرة متّجهاً إلى الغابة، وهو مُتجرّد من ملابسه ـ المحرّر)، ظللنا نفكر فيه ونجرّبه مدّة أسبوعين، متسائلين عن نوع الكاميرا وباقي التقنيات. امتدّ تصويره 4 أيام، لصعوبته. في هذا البحث، وجدنا توازناً بين مقاربة يعدّها المخرج ناجحة 90 بالمائة، ربما، وأنا بنسبة 50 بالمائة. لكن المتفرّج يُحسّ بها مائة بالمائة. ما يحس به المشاهد في هذا المشهد يجد تفسيره في روح البحث الثاوية خلف تصوّره وإنجازه.

 

 

(*) يُتعامَل اليوم، غالباً، مع حركات الكاميرا على أنّها زخرفة، كالحال مع استعمال الـ"درون" بطريقة "كليشيه"، لتأطير المدينة من الأعلى، أو انطلاقاً من مَعلَمة شهيرة. حركة الكاميرا يمكن أنْ تلعب دوراً عكسياً حين لا تجرى مقاربتها في إطار تصوّر فني متجانس. كيف تُحدّد حركات الكاميرا مع المخرج؟ هل تستجيبان إلى تصوّر قبلي، أم أنّ الفضاء والإحساس به يفتيان عليكما حركة الكاميرا؟

كلاهما. هناك نوع من التوازي بين هذين الجانبين في البحث. أحبّذ الرأي الذي يقول إنّ حركة الكاميرا ينبغي ألاّ تكون مجانية. في أفلامي مع حكيم بلعباس وعلاء الدين سليم، تتحرّك الكاميرا قليلاً. تكون مثبّتة على أرجل، وأحياناً محمولة على الكتف. هذا يحيلنا مرة أخرى إلى فلسفة التعامل مع التقنية.

هل سنشتغل بـ"الدرون"، فقط لأنّه متوفّر؟ الأمر يتعلّق بالبحث وبنوعية المرجعيات. المؤسف أنّ كثيرين ممّن يشتغلون في هذا الميدان اليوم لا ثقافة سينمائية لديهم. عندما ترغب في النقاش والتواصل معهم، لا تجد أرضية مشتركة بينك وبينهم، لأنّهم لم يروا ما أنجزه بيلاّ تار بالكاميرا، مثلاً. تجد أنّ أغلبية مرجعياتهم تنتمي إلى التلفزيون، أو تقنيات مجرّدة من الروح. اشتغلت فترةً على الإعلانات. لكنْ، حان وقتٌ قرّرت فيه الانقطاع عن هذا، لأنّه يلوّث نوعاً ما نظرتي إلى الأشياء، وطريقة تفكيري. لا بأس في أنْ أعاني مادياً. المهمّ أنْ أحتفظ بأصالة نظرتي. الأمر نفسه مع الـ"فيديو كليب"، لكنْ بدرجة أقل من الإعلانات، لأنّه يظلّ مرتبطاً بالمغنّي، ويسمح ببعض التجريب، لكنّ النمطية هيمنت عليه، كما حدث مع التلفزيون. مهمٌّ أنْ يحافظ مدير التصوير على نظرته، ويرعاها باختيار ما يشتغل عليه، وما يشاهده.

 

(*) أحياناً، أثير في حواراتي مع المخرجين مسألة عدد مرات تصوير اللقطة. هل تُفضّل عدد محاولات أكبر، لأنّه يسمح لك بالتطوّر، أو تحبّذ أخذ الأشياء في شكلها الخام، انطلاقاً من المحاولة الأولى؟

ليس لديّ تفضيل لطريقة على أخرى في هذا الشأن. كلّ شيء يترتّب على اختيار المخرج. مثلاً، طريقة اشتغال نبيل عيوش مع الممثلين تتطلّب وقتاً وبحثاً، فنصوّر محاولات عدّة، غالباً. أما حكيم بلعباس، فيُفضّل الإحساس الخام وجمالية الوثائقي، لذلك نجهّز جيّداً الأشياء مُسبقاً، وأحياناً نعتمد المحاولة الأولى في التصوير.

أتقبّل الطريقتين، لأنهما تناسبان فلسفة كلّ مشروع على حدة، وتصوّره. أحياناً، تدخل مسائل تقنية معقّدة في الاعتبار، بخاصة عندما تتحرّك الكاميرا، فيتطلّب الأمر بحثاً، وبالتالي محاولات كثيرة، قبل العثور على الطريقة والإيقاع المناسِبين.

 

(*) خضت تجربة تصوير فيلم "آخر زيارة" لعبد المحسن الضبعان، الذي شارك في مهرجانات مهمّة ومُنح جوائز. أتصوّر أنّها استثنائية، نظراً إلى الأحكام المسبقة المتكوّنة عندنا عن علاقة السعودية بالصورة؟

كانت تجربة خاصة بالفعل، لأنّك في البداية، حين تسمع عن فيلم في السعودية، تطرح تساؤلات عدّة، وتُطلق أحكاماً جاهزة. اكتشفتُ أن في هذا البلد تجارب مثيرة للاهتمام. عبد المحسن الضبعان وأصدقاؤه أنشأوا نادياً اسمه "تلاشي"، قبل 10 أعوام، يصوّرون فيه أفلاماً مستقلّة قصيرة، بعضها ينتقد "هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". تجارب تتّسم بجرأة، بتناولها مواضيع كالتديّن والصلاة والصوم، ينجزها مخرجون شباب، لديهم ثقافة سينمائية عالية.

أول ما فاجأني أنّي عندما كنت أتواصل مع المخرج، تحدّث لي عن هشام جعيط. سألته: كيف عرفت عنه؟ أجاب أنّه يقرأ لألفة يوسف، ولكتّاب تونسيين ومغاربة آخرين. أدركتُ أنّ في السعودية شباباً يحبّون السينما، ويقتسمون معنا مرجعيات غودار وتروفو وفيلّيني، ويتشاركون روابط الأفلام بنهمٍ على "تليغرام"، لأنّه لم تكن لديهم صالات سينمائية، فكانوا يعتمدون كثيراً على المُشاهدات المنزلية، وتبادل "ذاكرات تخزين" الأفلام.

لدى عبد المحسن تراكم كبير في التجربة، رغم أنّه يعمل إدارياً في وزارة الصحة. إنّه شغوف بالسينما. قرأتُ مشروع الفيلم المدعوم من شركة النفط الأساسية في السعودية، مع فيلمين طويلين آخرين، فأُعجبت به، لطرحه إشكالية توتّر العلاقة بين الأجيال. أحسستُ، كما في تونس قبلها، أنّ هناك شيئاً ما يجري في السعودية حينها، أي عام 2017، وهذا تأكّد اليوم، مع التفتّح ومؤشّرات ازدهار السينما. اطّلاع المخرج على السينما وراء جودة الفيلم ونجاحه في المشاركة في "مهرجان كارلوفي فاري"، ونيله جائزة لجنة التحكيم في مراكش، رغم صعوبة ظروف الاشتغال. نحن لسنا في المغرب أو تونس، وبالتالي العلاقة بالصورة مختلفة، لكنّها تظلّ تجربة مهمة، ومؤكّد أنْها تفتح على أشياء أخرى في المستقبل.

 

 

(*) هذه أشياء نقابلها غالباً في تجارب السينما، التي لا تزال في طور الإنشاء، بينما في المغرب مثلاً، وبحكم العلاقة غير السوية مع منظومة دعم الأفلام، سينمائيون كثيرون نسوا كمّ الحظ الذي يتوفّرون عليه حين يحظون بفرصة إنجاز فيلم طويل.

بحسب تجربتي، الإشكالية أنّ هناك استسهالاً في الإنتاج، من جُلّ الأطراف المتدخلة. هناك اعتقادٌ أنّ السينما يجب أنْ تكون مدعومةً من "المركز السينمائي". بالنسبة إليّ، هذا ينبغي ألاّ يُشكّل قاعدة أو ضرورة. إذا كان المرء شغوفاً، فمحتّم أنْ يجد طريقة لتصوير فيلمه بأيّ طريقة، ومهما كانت الظروف. هناك أيضا في المغرب تجارب مهمة في الجيل الجديد، كإسماعيل العراقي و"زنقة كونتاكت"، وقبله هشام العسري في فترة معيّنة. لكنْ، لم تكن هناك موجة بالمعنى المتعارف عليه. أكيد أنّها ستصل بحكم التراكم، وأحسسنا بمجيئها هذا العام، بمناسبة مسابقة الفيلم القصير، مع تجارب شابّة، كعماد بادي.

 

(*) أعتقد أنّ السينما المغربية كانت تقدّم دائماً ملامح انبثاق موجة جديدة، لكنها تُجهض سريعاً لتتحوّل إلى تجارب فردية، بحكم تشتّت الجهود، وضعف القدرة على العمل الجماعي. هذه أشياء منبثقة من تأثير منظومة التربية والتعليم.

فعلاً. بحسب تجربتي في "صحارى لاب" (مشروع تكوين لفائدة مخرجين شباب من الصحراء، من متخصّصين من المغرب وتونس والولايات المتحدة الأميركية، اضطلع أمين المسعدي فيه بالتكوين على الصورة ـ المحرّر)، مع حكيم بلعباس، لاحظت أنّ الشباب، في الدورتين الأولى والثانية، كانوا ملتحمين ومتآلفين، لكنّهم اليوم، ما إنْ وصلوا إلى مرحلة تقديم مشاريع أفلام وثائقية إلى "صندوق دعم إنتاج الأفلام حول الثقافة الحسانية والصحراوية"، تشتّتوا نوعاً ما، وأصبح كلّ فرد يشتغل في زاويته وعلى نفسه، ولم تعد هناك روح اللّحمة والتجربة الجماعية. أحياناً، تجد حتّى مشاكل وحزازات شخصية بينهم. هذه أشياء توجد في تونس أيضاً، لكنْ، مع ذلك، هناك من يشتغل في مجموعات.

متأكّدٌ أنّ مخرجاً كعماد بادي سيجد طريقه إلى إنجاز أفلام مهمة، لأنّك تحسّ في أفلامه القصيرة أنّ هناك شيئاً مُثيراً للاهتمام في طور التشكّل. لكنّي مُقتنعٌ أنّه لو كان يشتغل في إطار فريق، أو مجموعة تقتسم رؤيته وتطلّعاته للسينما، لكانت إنجازاته أكثر وقعاً. أنْ تشقّ طريقك في المغرب أصعب بكثير من تونس، لأنّ عدد المخرجين أكبر، وحجم المنظومة السينمائية والبلد أكثر شساعة. الإمكانات متوفّرة، وما يلزم للإقلاع قليلٌ من الجرأة والشجاعة وتوحيد الجهود، ونسيان سيرة "المركز السينمائي" والدعم ومشاكل اللجنة، وكلّ هذا القاموس.

هناك أيضاً إشكالية المنتج ـ المخرج، التي نواجهها في تونس كذلك، وأبدت عدم جدواها في جُلّ الحالات. نلاحظ أنّ المخرجين يبدأون مسارهم جيداً، حين يرافقهم منتجون حقيقيون، ثم يُنشئون شركاتهم الخاصة، فيتدنّى مستوى أفلامهم بعدها. الإنتاج يستهلك جهداً وطاقةً من الأحرى بذلهما في الإبداع والبحث. التوفيق بين كتابة السيناريو والإخراج والإنتاج صعبٌ جداً، ويجعل تركيز المخرجين مُنصبّاً على الموازنات والنقود، وهذا مفهومٌ بحكم الخوف على المستقبل، ومصير العائلة. لكنّ المشكلة أنّ هذه الأشياء تغدو أولوية، بدل الهمّ الإبداعي. هذه مشكلة عويصة، لم تكن مطروحة عندنا قبلاً في تونس، أيام نوري بوزيد وفريد بوغدير، اللذين صنعا أفلامهما مع منتجين، كأحمد بهاء الدين عطية، يتوفّرون على ثقافة سينمائية ومعرفة حقيقية. أتصوّر أنّ الأمر سيان في المغرب، مع منتجين حقيقيين، يؤمنون بالمشاريع ويرافقونها. هم من جعلوا السينما تتطوّر، وخلقوا إمكانية بروز مخرجين مثيرين للاهتمام.

 

(*) كيف تجد تطوّر السينما التونسية في الأعوام الأخيرة؟ ما رؤيتك إلى مآل الموجة التونسية الجديدة وإرثها؟

(تردّد) لا أعرف كيف أجيبك. أقول دائما إنّ الشيء الذي ربحته السينما التونسية، في الأعوام الأخيرة، أنّ هناك موجة جديدة دخلت على الخط، ليس بمنطق قوّة أو فرض وجود، بل بمنطق نظرة مغايرة إلى الأشياء. حين نرى نوع السينما التي ينجزها علاء الدين سليم، ونوع نجيب بلقاضي، وسينما كوثر بن هنية ويوسف الشابي ومحمد بن عطية، نجد أنّ لكلّ منهم عالمه الذي يشتغل عليه، وهذا يخلق ثراءً وتنوّعاً يبدوان لي مهمّين، لأنّ الأمور كانت مختلفة قبلاً، حيث كانت تسود نمطية في الخطاب والأشكال، لأنّ الدولة حين تنجز فيلمين أو ثلاثة في العام، تسعى إلى التحكّم وخلق خطاب موحّد. اليوم، الأمور تختلف، حين ترى فيلماً كـ"أشكال" ليوسف الشابي، المنطلق من إحراق البوعزيزي لذاته، ليخلق منها حبكة بوليسية؛ أو سينما علاء الدين سليم، التي تختلف عن كلّ ما يُنجز في المنطقة والعالم العربي؛ تعرف أهمية ما ربحناه في العقد الأخير.

لكلّ منا تقييمه الخاص للتجربة. لكنّ التنوّع مهمّ، لأنّه يمكّن المشاهد من اختبار أحاسيس مختلفة، ويسمح حتى للمخرجين القادمين بأنْ يعوا إمكانية خلق شيء مختلف، وبالتالي بأنْ يبحثوا بدورهم عن صوتهم الخاص.

المساهمون