العرب في تركيا تحت وطأة التضخم: أحلام الهجرة العكسية

العرب في تركيا تحت وطأة التضخم: أحلام الهجرة العكسية

14 يونيو 2022
مؤشر التضخم قفز إلى 73.5% (Getty)
+ الخط -

احتضنت تركيا ملايين العرب الفارين من بلادهم بسبب الحروب والقهر والاضطهاد والفقر، خلال السنوات الماضية، إذ اندمج سريعاً الكثير منهم في المجتمع التركي وأثروا العديد من القطاعات التجارية والعقارية والسياحية وغيرها، ولكن في الفترة الأخيرة، باتوا في مرمى أزمات معيشية خانقة جنباً إلى جنب الأتراك، في ظل الارتفاع القياسي للتضخم، ما دفع بعضهم إلى التفكير في الهجرة العكسية خارج البلاد. قصص كثيرة في هذا الإطار يرويها مواطنون عرب من جنسيات مختلفة، لـ"العربي الجديد".

هل حان وقت الهجرة العكسية من تركيا بعد أن كانت ملاذاً لهم خلال السنوات الماضية؟ هذا السؤال بدأ يتردد كثيراً في أوساط مئات الآلاف من العرب الذين باتوا في مرمى أزمات معيشية خانقة وخاصة مع قفزات أسعار السلع والخدمات وقلة فرص العمل، ما وضعهم في موقف لا يحسدون عليه وخاصة أن الاتجاه إلى خيار مغادرة البلاد طواعية إلى دول أخرى ليس سهلا.

وتأتي المعاناة المعيشية نتيجة ارتفاع معدلات التضخم في تركيا بشكل كبير في السلع والخدمات وغيرها من المتطلبات الحياتية، حيث وصل مؤشر أسعار المستهلك مع نهاية مايو/آيار الماضي إلى 73.5% على أساس سنوي.

ووعدت السلطات التركية أكثر من مرة باحتواء أزمة التضخم المرتفعة التي ارجعت جانبا منها إلى نتائج حرب أوكرانيا والتي رفعت أسعار الوقود والأغذية. وأصبحت الخيارات المتاحة أمام الأسر العربية ليست بالأمر السهل بالنسبة للكثير منهم حيث جاءوا إلى تركيا للهروب من واقع بلادهم المتدهور سواء بسبب الحروب والاضطرابات والقلاقل السياسية أو الاضطهاد والملاحقات الأمنية أو الفقر، ويأتي في مقدمة تلك الأسر تلك التي جاءت من سورية ومصر واليمن وليبيا والعراق.

المغادرة والمعيشة الصعبة

قصص كثيرة يرويها مواطنون عرب من جنسيات مختلفة حول ما يعانونه، خلال الفترة الأخيرة، وسط موجات غلاء متعاقبة لا تهدأ مع ثبات الدخول تقريباً وقلة فرص العمل المتاحة لهم، بالإضافة إلى القوانين التي فرضتها السلطات التركية وتقيد من تحركاتهم داخل البلاد.

يروي المواطن المصري المقيم في منطقة إسنيورت بمدينة إسطنبول، إسماعيل البحيري، أن ارتفاع أسعار السلع والإيجار بهذا الشكل يدفعه إلى البحث عن دولة أخرى للانتقال إليها هو وأسرته، مشيرا إلى أنه يعلم جيدا أن أزمة التضخم الحاصلة في الوقت الحالي أصابت جميع دول العالم، ولكنه يرى أن الرواتب في الدول الأخرى وتحديدا أوروبا قادرة على امتصاص ارتفاع الأسعار.

وأضاف البحيري، خلال حديثة لـ"العربي الجديد"، أنه في حال انتقاله إلى دولة أخرى فغنه يدرس الذهاب إلى هولندا أو كندا بهدف اللجوء، مشيرا إلى أن أصدقائه المقيمين هناك أخبروه أن رواتبهم تكفيهم للحصول على الحياة الكريمة. وأوضح البحيري، أن ما يعيشه الآن في ظل التضخم الحاصل أصبح يزيد من الأعباء المعيشية على أسرته، بالإضافة إلى حالة الغليان التي تبثها المعارضة التركية في نفوس المواطنين لنبذ الأجانب مستغلين الأزمة الاقتصادية الحالية ما يزيد المخاطر على المقيمين الأجانب، فضلا عن القوانين و"التضييقات" التي تفرضها السلطات على أصحاب الإقامات السياحية وغيرها في الوقت الحالي.

ومنذ مطلع العام الجاري بدأت وزارة الداخلية التركية من خلال إدارة الهجرة في فرض قوانين جديدة تقيد المساحة التي كانت تتيحها للأجانب المقيمين داخل البلاد خلال السنوات السابقة عبر إصدار إقامات سياحية لهم، فأصبحت أغلب الإقامات السياحية يتم رفضها، بل وهناك بعض إقامات الطلبة الأجانب الجدد تم رفضها.

كما عملت "الداخلية" على تفتيت تمركز الأجانب في مناطق معينة داخل المدن عبر إصدار قرار يمنع تسجيل الأجانب في النفوس (السجل المدني) بأكثر من 20%، وبالتالي تعكس تلك الإجراءات بداية رغبة حكومية في تقليص عدد الأجانب بالبلاد.

وهو الأمر الذي يثير مخاوف اليمني المقيم في منطقة يني بوسنة بمدينة إسطنبول، محمد ساسي، إذ قال إن القوانين الجديدة التي تضيق الخناق على الأجانب المقيمين، بالإضافة لارتفاع الأسعار اليومي في شتى السلع والخدمات، مقابل ثبات الأجور يدفعه إلى الانتقال إلى الولايات أخرى داخل تركيا البعيدة عن إسطنبول نظرا لرخص الأسعار بها مقارنة بالمدن الكبر مثل إسطنبول وأنقرة.

وأضاف ساسي، خلال حديثة لـ"العربي الجديد"، أن الانتقال إلى خارج تركيا صعب للغاية في ظل تنامي الوفود الأوكرانية على البلدان التي تسمح باللجوء إليها ما يجعل الانتقال إلى تلك الدول ليس باليسير، مضيفا أنه لا يفضل أيضا الانتقال إلى بلد غير مسلم. وتتوقع الأمم المتحدة أن يبلغ عدد اللاجئين الأوكرانيين الفارين من بلادهم جراء العمليات العسكرية الروسية في 24 فبراير/شباط الماضي، نحو 8.3 ملايين شخص، مشيرة إلى أن العدد الحالي من اللاجئين الأوكرانيين يقدر بحوالي 5.2 ملايين لاجئ.

حكايات أسر عربية

قصة أخرى يرويها السوري المقيم بمنطقة الفاتح بمدينة إسطنبول، فاضل حنيفه، قائلا إن حالة الغلاء التي تشهدها البلاد تزيد من الأعباء المعيشية، مضيفا بأنه يعيش هو وعائلته الكاملة في شقة، ويعمل هو أخيه ووالده، وعلى الرغم من ذلك فإن ارتفاع الأسعار يضغط على ميزانية العائلة المكونة من 8 أفراد.

وأشار حنيفه، لـ"العربي الجديد"، إلى أن استمرار ارتفاع الأسعار الحاصل يزيد من حالة الاحتقان الداخلي تجاه العرب عموما والسوريين تحديدا بسبب ادعاءات المعارضة التركية بأن الأجانب هم سبب الزيادة في الأسعار وارتفاع البطالة، لافتا إلى أنه في حال استمر هذا الوضع سيسعى للخروج من تركيا إلى ألمانيا.

وتروي ربة منزل سورية، رامة الفدا، أن الغلاء يدفعها هي وزوجها وولديها إلى تجنب استخدام المواصلات قدر الإمكان، واستغلال العروض التي تقدمها سلاسل المتاجر الكبرى. وأشارت الفدا، خلال حديثها لـ"العربي الجديد"، إلى أن كل متجر يتميز بأنه يبيع سلعة معينة بسعر رخيص ما يجعلها تتبع تلك المتاجر لتوفير أكبر قدر ممكن من المال، إلا أن هذا يرهقها نتيجة أنها تتنقل بين 4 أو متاجر لشراء عدد 3 أو 4 سلع فقط.

ورغم تلك المحاولات لتقليل الأعباء على أسرتها، تقول رامة، إن ارتفاع الأسعار بشكل يومي لا يمكن زوجها الذي يتقاضى راتب 5700 آلاف ليرة من القدرة على الإيفاء بجميع مستلزمات البيت، مشيرة إلى أن ارتفاع السلع الغذائية بجانب فواتير الكهرباء والماء والوقود يجعل من الصعوبة بمكان مجاراة كل تلك الزيادات في آن واحد.

وارتفع سعر البنزين منذ مطلع العام الجاري من متوسط 12.37 ليرة للتر الواحد إلى 28.42 ليرة للتر أي بزيادة بلغت 129.7%، بينما ارتفعت أسعار الديزل من متوسط 11.51 ليرة للتر الواحد إلى 25.99 ليرة للتر أي ارتفع بنحو 125.8%، (الدولار = نحو 17.2 ليرة).

تخفيف الاستهلاك

من جانبه، قال تونسي يعمل في قسم المبيعات بأحد الشركات العقارية العربية بإسطنبول، عفيف موسى، إن ارتفاع الأسعار يدفعه إلى تخفيف استهلاكه قدر الإمكان والاحتفاظ بأمواله بالدولار، بسبب تراجع الليرة بشكل يومي. وأضاف موسى، خلال حديثه لـ"العربي الجديد"، أنه على الرغم من محاولاته لضبط مشترياته بهدف تخفيف الأعباء، إلا أن زيادة الأسعار بشكل يومي دون وجود أي انخفاض يدفعه في بعض الأحيان إلى شراء بعض الأجهزة وغيرها من الحاجات التي يرغب بها في الوقت الحالي، وأرجع ذلك للأداء الاقتصادي الذي غرس في داخله أن سعر اليوم أفضل من الغد.

بينما يروي اليمني الذي يقيم بمدينة أفجيلر ويعمل في مجال تصدير الملابس للدول الخليجية، سالم بوالعبد، أن جزءا كبيرا من دخله يذهب في شراء السلع الغذائية التي تزيد بنسب كبيرة، مشيرا إلى أن في مطلع شهر مايو/آيار الماضي كانت أسعار الفاكهة تتراوح بين 10 إلى 15 ليرة للكيلو بينما في منتصف الشهر ذاته تجاوزت الـ 30 ليرة للكيلو، أما الخضروات فيقول إنها مرتفعة منذ مطلع العام.

وتابع بوالعبد، خلال حديثه لـ"العربي الجديد": "حتى نهاية عام 2020 كنت أقوم بشراء العديد من السلع وأجد أن إجمالي ما اشتريته لا يتجاوز 200 ليرة تركية، بينما الآن أقوم بشراء بعض السلع الضرورية أجد أن فاتورة مشترياتي تتجاوز 500 ليرة".

وتختلف وجهات النظر بين الأسر العربية المقيمة بتركيا في التعاطي مع تلك الأزمة التضخمية التي ضربت العالم أجمع، إلا أن تركيا تعد أحد أكثر الدول المتضررة نتيجة اعتمادها على استيراد أغلب حاجاتها من الطاقة ما يجعلها تتأثر بشكل مباشر بالتغيرات الكبيرة في أسعار النفط الذي بلغ سعر البرميل الآن نحو 122 دولار مقابل متوسط 80 دولار للبرميل مع بداية العام الجاري.

ارتفاعات قياسية للأسعار

ترى بعض الأسر العربية أن معدل التضخم المعلن عنه لا يعكس حقيقة أسعار السلع الغذائية وبخاصة الخضروات والفاكهة والوقود، وهو ما أشارت إليه الصحف التركية التي تحدثت عن أن الزياد الحاصلة في الأطعمة والمشروبات غير الكحولية بلغت نحو 92 في المائة.

ويرى عامل مصري في إحدى شركات زراعة الشعر بمنطقة مارتر بمدينة إسطنبول، محمد صبري، أن ارتفاع الأسعار أصبح يزيد من الخناق على راتبه الأساسي الذي لا يتعدى الـ 6350 ليرة (371.34 دولار) شهريا، مشيرا إلى أن الراتب يتآكل أكثر من نصفه مع بداية كل شهر.

وأضاف صبري، خلال حديثة لـ"العربي الجديد"، أن إيجار البيت ومصروفات الأسرة التي يعولها، المكونة من زوجة وابنة، تلتهم نحو ما يزيد عن 85% من راتبه، وأن ما يتبقى له خلال باقي الشهر ما بين 600 إلى 700 ليرة يذهبوا في تكاليف المواصلات المحدودة التي يستخدمها. وتسهم ارتفاعات أسعار الإيجار التي شهدت منذ بداية العام الجاري زيادات تراوحت بين 100-150% في زيادة تكلفة المعيشة بشكل كبير حيث بلغ متوسط سعر الإيجار بإسطنبول 4 آلاف ليرة (233 دولار)، ليضاف إليها أعباء زيادة أسعار الأغذية، فضلا عن زيادة أسعار الوقود ما أدى إلى ارتفاع أسعار المواصلات أيضا.

وأوضح صبري، أنه كان يتقاضى منذ عام ونصف 4500 ليرة، ولكن هذا الراتب حينها كان كافيا بشكل كبير حيث كان يقدر في حدود الـ590 دولار، مشيرا إلى أن العمولات التي يحصل عليها بجانب الراتب الأساسي نظير العملاء الذي يستجلب للشركة هي التي تمكنه من التغلب بشكل ما على ارتفاع الأسعار اليومي.

جهود حكومية واختيارات محدودة

من جانبه يعلق الخبير الاقتصادي التركي، إمرا آربا، على هذا الأمر قائلا إن التضخم يلتهم دخول الأتراك والأجانب والعرب وكل من يعيش تحت سقف الاقتصاد المحلي، مشيرا إلى أن تداعيات ارتفاع الأسعار وتقهقر سعر صرف العملة المحلية تتفاقم في ظل ثبوت الأجور عند الحد الأني الذي تم تثبيته في مطلع العام الجاري.

وأضاف آربا، لـ"العربي الجديد"، أنه في الوقت الحالي تسعى الحكومة إلى تمرير قانون يسمح لها برفع الحد الأدنى مرة أخرى خلال العام الجاري في محاولة لامتصاص ردات الفعل الناتجة عن التضخم، فضلا عن إعلان وزير العدل التركي عن تثبيت نسبة الزيادة السنوية للإيجار عند 25%، ما قد يسهم في تقليل حدة ارتفاع الأسعار خلال الفترة القادمة. وأوضح الباحث التركي، أن الأسر العربية التي تعيش في تركيا نتيجة الاضطرابات التي تشهدها بلدانهم لن تكون الخيارات أمامها كثيرة، مشيرا إلى أن دول العالم تشهد معدلات تضخم مرتفعة وأن ما يؤول في تركيا يؤول على الدول الأخرى، مضيفا بأن تركيا رغم معدلات التضخم التي تشهدها إلا أنه لا تزال أسعارها مناسبة مقارنة بباقي الدول الأوربية.

وقبل نحو أسبوع أكد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن بلاده ستواصل خفض أسعار الفائدة وليس زيادتها في مواجهة ارتفاع تكاليف المعيشة. وهون من شأن تضخم يزيد على 70%، معتبرا أنه أحد عدة مشاكل يعاني منها الاقتصاد. وقال أردوغان إن جزءا من مشكلة التضخم هو أن بعض المواطنين يصرون على الاحتفاظ بمدخراتهم بالعملات الأجنبية، والجزء الآخر هو المدخلات المستوردة بسبب تزايد الإنتاج".

وأشار إلى تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا، وقال "إذا لم يكن هناك أي صدام في المنطقة، فإن الناس سيمكنهم الشعور بفوائد ملموسة لبرنامجنا الاقتصادي.. يحدونا الأمل بأننا سنكون في هذه المرحلة في الأشهر القليلة الأولى من العام القادم".

علق الخبير الاقتصادي التركي، إمرا آربا، على هذا الأمر قائلا إن التضخم يلتهم دخول الأتراك والأجانب والعرب وكل من يعيش تحت سقف الاقتصاد المحلي

وكان قد أعلن وزير العدل التركي بكر بوزداغ، في 9 يونيو/حزيران، أن "الحكومة ستضع حداً أعلى يتعلق بالزيادة المسموحة في إيجارات المنازل عند 25 %، على أن تطبق على عقود الإيجار الموقعة حتى 1 يوليو/ تموز 2023".

بدوره، قال الخبير الاقتصادي، عبد الله أداك، إن تأثير التضخم على الأسر الأجنبية بشكل عام والعربية تحديدا التي تعيش في تركيا يختلف وفق طبيعة عملها، مشيرا إلى أن رب الأسرة الذي يعمل في القطاعات المرتبطة بالسياحة فتأثير التضخم ليس كبير نظرا لأن مدخوله بالدولار. وأضاف أداك، لـ"العربي الجديد"، أن الضرر الأكبر يقع على رب الأسرة الذي يعمل في الشركات والمصانع المحلية التي يرتبط مدخولها بالعملة المحلية، مشيرا إلى وجود أعداد كبير من الأفراد العرب تحديدا يعملون بشكل غير رسمي وفي ظروف وصفها بغير العادلة فلا يوجد تأمين يكفلهم أو غيره من الحقوق العمالية اللازمة.

وأوضح الخبير الاقتصادي التركي، أن تلك الفئة التي تعمل بشكل غير رسمي من العرب يمكن وصفهم بأصحاب الدخل المحدود، "بل أنه يمكن وضعهم ضمن شريحة الفقراء"، وأرجع ذلك إلى أن أصحاب الأعمال يستغلوا حاجتهم إلى العمل ويقومون بتقدم رواتب إليهم أقل من الحد الأدنى المعلن عنه.