}

سرديات حمارية من فلسطين

نبيل سليمان 1 مايو 2024
استعادات سرديات حمارية من فلسطين
(Getty, Gaza)


عشية طوفان الأقصى كتب مراسل "واشنطن بوست" ستيف هندريكس في تقريره أن الحصار الإسرائيلي على غزة جعل الحمير من أهم وسائل النقل. ولكن الحمير باتت هدفًا للقيود الإسرائيلية (أنظر جريدة "القدس العربي"، السادس من تشرين الأول/ أكتوبر 2023). وفي يوم طوفان الأقصى كررت جريدة "الشروق" نشر التقرير، وفيه، نقلًا عن هاني النادي، تاجر الحمير، أنه لم يبق عنده سوى حمارة واحدة بيضاء، بعدما كان يستورد كل سنة 700 حمار لمواكبة الطلب المستمر عليها. ويردف الرجل أن التقييد الإسرائيلي على حمير غزة بدأ منذ كانون الأول/ ديسمبر 2021، حين حاول تخليص ثلاثين حمارًا استوردها من إسرائيل، ففاجأه قرار منع استيراد الحمير إلى غزة استجابةً لطلب جمعيات الرفق بالحيوان بعد انتشار تقارير عن سوء معاملة الحمير في غزة. وقد أكد المنع التاجر الإسرائيلي تيزمي كيملمان الذي يتعامل معه هاني النادي. وتنبأ النادي أنه ذات يوم لن يبقى حمار في غزة. أما تاجر الحمير عمر عقل فقد كان يشتري الحمار المريض، فيعالجه ثم يبيعه، حيث بلغ سعر الحمار ثلاثة آلاف دولار بعدما كان ألفًا. وقد غدا هذا التاجر أكبر مربٍّ للحمير، إذ بلغ عددها عنده 15.

قبل طوفان الأقصى كانت العربات التي تجرّها الحمير في غزة تنقل التمور والموز والتين، ومنها ما هو لنقل الرمل والإسمنت، ومنها ما هو لنقل الأطفال إلى المدارس والعائلات إلى الشاطئ. وكانت تزود بمظلات وأرسنة مطرزة.

وفي العملية الإسرائيلية (الرصاص المصبوب) التي استهدفت غزة من 27/12/2008 حتى 18/1/2009، وسمتها المقاومة (معركة الفرقان)، فقدت حديقة مرح لاند اثنين من حُمُر الوحش، فأتى أصحابها بحمارين عاديين، أبيضين، ورسموا عليهما خطوطًا سوداء، آملين ألا تمطر السماء وتنكشف الحيلة التي لجأوا إليها لأن الحصار الإسرائيلي ضاعف تكاليف إحضار حمار الوحش عبر أنفاق التهريب، حتى بلغت كلفة زوجٍ من حمر الوحش 50000 دولار.

في رواية أخرى نشر موقع مسارات في 8/5/2016 ما كتب الشاعر والكاتب الفلسطيني الراحل زكريا محمد تحت عنوان (حمار الوحش في حديقة غزة) عن تلوين مدير حديقة حيوان غزة لحمار بلدي، ليبدو كحمار وحش، بعدما نفق حمار الوحش الحقيقي، ونقرأ: "فالأطفال يريدون أن يروا الحمار البري المخطط الذي لا يحتاج إلا إلى لونين: الأبيض والأسود، كي يفتن الكون كله. وهكذا أحضر صبغة شعر نسوية ولوّن حمارًا بلديًا، فصار حمارًا وحشيًا. صار (فرا)، وكل الصيد في جوف الفرا، كما يقول المثل العربي (...) لقد قام بعمل محدد كي ينجو وتنجو حديقته في زمن الحصار". ويمضي زكريا محمد بكتابة جارحة وموجعة، وبسخرية كاوية ومريرة، فنقرأ: "لكنه وهو يفعل ذلك، وضع بين أيدينا رمزًا خطيرًا. لقد كشف لعبتنا. فهكذا نحن كفلسطينيين. حين نفتقر إلى شيء، ونحن نفتقر إلى كل شيء تقريبًا، نصنع نسخة كاذبة تشبهه، ونصدق بذلك أننا حصلنا على هذا الشيء. نحن مثل أطفال غزة نقتنع بالنسخة الكاذبة. وهذا يعني أننا أطفال بشكل ما. مثلًا، نحن بلا دولة. نفتقر إلى دولة. لكن هذا لا يعيقنا. فهناك سلطة، ويمكن دهنها بالصبغة كما دهنّا حمار الوحش في حديقة غزة، وتحويلها إلى دولة. وهكذا يصير لنا رئيس وحكومة ووزراء وأجهزة أمن، كما لو أن لدينا دولة حقًا. السلطة، سلطة الحكم الذاتي المحدود، هي في الواقع حمار بلدي، حمار بلدي ضعيف، حولناه، بعمل فهلوي، إلى حمار وحشي، إلى فرا. وبما أن: (كل الصيد في جوف الفرا)! فقد أقنعنا أننا حصلنا على الصيد كله.

وضعنا في هذا كله مثل وضع حديقة حيوان غزة. فلسطين الآن، في الواقع، حديقة حيوان غزة. ومنطق حديقة الحيوان هذه: إذا افتقرت إلى شيء، فاعمل نسخة مزورة، نسخة (فولسو) منه، سوف تكون الأمور على ما يرام.

وعليه، فحديقة حيوان استعارة لوضعنا عمومًا. وبهذا يمكن مقارنتها بـ (مزرعة الحيوانات)، (...) الشهيرة لجورج أورويل، وإن مع الفارق. فهذه المزرعة كانت أيضًا استعارة اجتماعية سياسية.

(Getty, Gaza)


كان يمكن لحمار الوحش المزور أن يظل لفتة فهلوية من فرد يريد أن يواصل حياته في ظل الحصار، لو لم يكن قد اخترع في غزة. وإذ اخترع هناك، فقد صار رمزًا عبقريًا لنا ولحياتنا السياسية.

حياتنا السياسية حمار بلدي تحوّل بالدهان إلى حمار وحش.

حياتنا السياسية حمار فرا مزور. ويقول المثل العربي: (أنكحنا الفرا وسنرى). أي زوجنا ابنتنا لحمار الفرا، وسوف نرى ماذا ستكون النتيجة بعد. أما نحن فلم نكن بحاجة إلى الانتظار. ذلك أن الفرا الذي زوجناه مجرد حمار بلدي مسكين، لا غير.

حمار غزة المخطط حيلة نجاة على الصعيد الواقعي. لكنه على الصعيد الرمزي خديعة للذات".

في 13/10/2022 كتب أمجد ياغي في "العربي الجديد"، نقلًا عن صاحب مزرعة في بيت لاهيا من قطاع غزة، أن منع إسرائيل لدخول الحمير إلى القطاع، قد يكون بسبب انتشار صور علم إسرائيل على حمار، أو صورة حمار يدوس على علم إسرائيل خلال مظاهرات في القطاع.

وبعدما وقعت الواقعة في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 نشرت صحف كثيرة، منها "الأندبندنت العربية" في 15/12/2023 و"الدستور" الأردنية في 23/1/2024 أن المجاعة فرضت ذبح الحمار وأكل لحمه. كما كتب حمزة البشتاوي في "الأخبار" اللبنانية في 23/2/2024 أن المستوطن يحزقيل أوشوير قطع رأس حمار وعلّقه على سور المقبرة الإسلامية في القدس. لماذا؟ لأن الحمير تؤازر الناس.

بالنسبة لي، كان للحمار في فلسطين نصيبه في روايتي "تحولات الإنسان الذهبي". ومن ذلك ما جاء عن جمعية التيوس الفلسطينية في القدس، حين كانت دولة إسرائيل قد قامت للتو. كانوا أطباء وصيادلة ووزراء، وقد ترأس الجمعية رئيس الوزراء، وطاولته تتوسط كيسين من الشعير والكرسنّة. وعلى العضو الجديد أن يلهف حفنة من الكيسين، ثم يبدأ بالمأمأة، فالنحنحة، فالحبو على القدمين واليدين إلى أن يتم قبوله.

وقد كتبت أيضًا أنني رأيت، فيما يرى النائم، عربة يجرها حمار في موقع عسكري إسرائيلي جنوبي قطاع غزة. انفجرت العربة تمامًا مثلما انفجرت قنبلة ملصقة بحمار على الطريق بين جنوبي القدس والكتلة الاستيطانية غوش عتصيون.

وتلا ذلك عن سوق جبع جنوب جنين حيث كان الحمّرجي، أي مهندس الحمير، يهيئ للحمار البردعة والحوافر والرسن قبل أن يبدأ المزاد. وبينما كان الحمار الصغير يباع بمئة دينار أردني، قبل أربعين سنة، كان الحمار المسن الأسود يباع بعشرين، بينما يتراوح سعر الحمار الأبيض القوي بين مئتين وثلاثماية دينار.

من جبع وجنين انتقلت الرسالة إلى نابلس التي يتراوح سعر الحمار فيها بين 300 ـ 400 دينار، أي 450 ـ 600 دولار، أي 1800 ـ 2400 شيكل. وشرحت الرسالة أن نابلس تقع على السفح بين جبلي عيبال وجرزيم، وأن الحمار وحده من ينقل مواد البناء في الأزقة الجبلية الوعرة.

أثناء الحصار الإسرائيلي لنابلس، وحده جحفل الحمير الذي أربى على ألفي حمار، كسر الحصار، ونقل المسافرين العجائز والبضائع، وضاعف الحمّرجي الأسعار عشر مرات، وأحيانًا عشرين مرة، وهو من لا يتوقف موبايله عن الرنين: حجز مسبق.

تستيقظ نابلس مبكرًا على أصوات الباعة القادمين من سوار المدينة، يسوقون حميرهم المحملة، ومن الحمير من لقبه: الذكي، ومنها: الشنتويل، ومنها: أبو سمرة.

أخيرًا كتبت عن مستشفى الحمير الذي أسّسته البريطانية لوسي فيتسوم بعدما صادفتْ في رحلة داخل الخط الأخضر حمارًا لا يقوى على السير، فنقلته إلى لندن بجواز سفر، وعالجته، ثم شرعت بتأسيس الجمعية البريطانية لحماية الحمير الفلسطينية والعناية بها. واستقبل الحمير مشفاهم مع فجر القرن الحادي والعشرين. وذكرت أيضًا أن عيادة حميرية قامت في البتراء الأردنية، وما أدراك ما البتراء. حيث، بسبب الحمولة الثقيلة، يصاب الحمار بجراح في الحافر. أحيانًا يصاب بالعرج لسببٍ ما في الحافر. أحيانًا يصيبه المغص بسبب ما يتناول من البلاستيك في الزبالة. أحيانًا تكون البلوى بالذباب على جرح مفتوح، أو تكون بفقر الدم بسبب التغذية الفاخرة. ثم تابعت: في المستشفى الفلسطيني البريطاني لكل مريض خانة من الخانات السبع، غرفة العناية المشددة، العمليات الجراحية، وهذه الآن الحمارة المسنة التي كُسِر مفصلها فتخلى عنها صاحبها، فآواها المشفى وعالجها وسماها ميليسا. ولما اكتُشف أنها حامل في الشهر التاسع اكتملت الفرحة، وتبناها المشفى مدى الحياة شأن الحمير التي تخلى عنها أصحابها.

لقد استفدت في كل ما تقدّم من رواية "قلب حمار" لعبد الرحيم الشيخ، ومن كتاب حسين المناصرة "فلسطين ذاكرة ووطن" وفيه، بخاصة، مقالة عنوانها "حمارنا والفساد" يحضر فيها الحمار جلسة للمجلس التشريعي الفلسطيني، فيرفس المفسد، والرفسة تتناسب طردًا مع حجم الفساد، بينما يقف الحمار باحترام أمام الشرفاء.

مقالات اخرى للكاتب

استعادات
1 مايو 2024
استعادات
15 أبريل 2024
يوميات
31 مارس 2024

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.