}

حي الرِّمال الغزّي ينتظر النهوض من جديد

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 11 مايو 2024
أمكنة حي الرِّمال الغزّي ينتظر النهوض من جديد
الجامعة الإسلامية في حي الرمال قبل أن تدمرها إسرائيل
خلال دقائق معدودة، وفي وضحِ نهار الاثنين التاسع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 (أي بعد انفجار الطوفان بِيومين)، نفذت نفّاثات العدو الصهيوني 30 غارة جوية، ألقت خلالها الطائرات المُحْتمية بالتّواري خلف مسافاتِ بُعْدِ سماء القصف عن الأرض المقصوفة، حِممَ الكراهية الجبانةِ فوق بشرِ وحجرِ وشجرِ حيّ الرمال الغزّي.
حيٌّ مدنيٌّ مدينيٌّ مكتظٌّ بكلِّ أشكال اللاحرب؛ مشعٌّ بِالمدارس والجامعات والأسواق والأشواق والترفيه والعمارة والنّضارة، مليءٌ بِمؤسسات الحياة المدنية، منثورٌ بأبراجِ الزّهو المحتشدة بسكّانها، لا يحتوي على أدنى سببٍ للقصف، ليس فيه ما يَشي أنّه خطرٌ متوقّعٌ وشيك، أو لغمٌ متربّص، فما الذي، يا ترى، جعله هدفًا متكررًا، لا بل أول أهداف العدوان الصهيونيّ الفاشيّ المسْعور المذْعور، الممتدّ على مساحة 218 يومًا ماضيَة؟
الإجابة هي الحيّ نفسه؛ لأنه حيٌّ جميل من جهة، وفلسطينيٌّ من جهةٍ ثانية، لأن أكبر جامعتيْن في غزّة داخل تفاصيل زهوه، لأن فيه مدينة كاملة للترفيه اسمها المدينة المائية. لأنه يستوعب داخل مربّعاته السكنية، وأبْراجه الشامخة، وأحيائهِ الراقية، بعمارتِها وروعةِ هندستها، معظم أبناء الطبقتيْن الفلسطينتيْن الغزّاويتيْن الغنيّة والمتوسّطة.
والحال كذلك، فإن كل هذا القتل الموغلِ في جسد الحي (ومنه مذبحة يوم التاسع عشر من كانون الأول/ ديسمبر 2023، التي راح ضحيتها 100 شهيد داخل برج واحد)، هو قتلُ كراهية، حقدٌ مسموم، معاقبةُ كل غنيٍّ، أو متعلّمٍ، أو مهنيٍّ، قرّر البقاء في غزّة، وإنْفاق تحْويشة العمر قرب بحرها بعد شراء شقة الهَناءة بين ظهْرانيها وحولَه أهلُهُ وأهلُها.
لا سبب استراتيجيّ، أو تكتيكيّ، يتعلّق بمنطق الحرب، وخطط الهجوم، وحسابات غرف العمليات، يمكن أن يبرّر كل هذا القتل الذي خصّ حيّ الرمال بهذه الحصّة الدامية.
حيٌّ لا يتجاوز عدد سكانه 70 ألفًا من أبناء القطاع، عشرة في المئة منهم على الأقل توزّع منذ السابع من أكتوبر الطوفان، بين شهيدٍ وجريحٍ ومفقود!
قتلٌ أعمى، لم يلتقط أن حيّ الرمال، على وجه التحديد، ليس هو المكان الذي فرّخ كل هؤلاء المقاتلين الأشدّاء الذين أذاقوا المحتلّ ما لم يذقه منذ قرن مضى. قتلٌ عشوائيٌّ حوّل معظم قاطني الحيّ، خصوصًا جيل الشباب منهم، إلى مقاومين، أو مشاريع مقاومين.
ولعلّ ما صرّح به الباحث الفلسطيني أحمد الطناني (أحد أبناء حي الرمال)، حول أسباب استهداف الحي، مما يمكن أن يوضح الدافع المبطّن لِما تعرّض له (الرمال)، إذ يرى الطناني أنّ الاحتلال تَعمّد قصف الحي لِـ"ضرب العصب الاقتصادي والإداري للقطاع، وضغط المجتمع في قطاع غزة، وضرب رمزية الحي بوصفهِ يشكّل ما يشبه العاصمة الإدارية للقطاع، وعنوانًا مركزيًا رئيسيًا".




إضافة إلى أنّ الاحتلال يهدف، كما يلفت الطناني، إلى إدخال القطاع في "أزمة إعمار تحتاج إلى عشرات السنوات لإتمامها، وحرمانه من الجامعات المركزية والمدارس والبنوك، إضافةً لتدمير البنية التحتية، ناهيكُم عن دافعية العقوبات الجماعية".

حاضنُ القطاع

ربما كان كلُّ هذا القتل يهدف إلى إرباك الحاضنة الشعبية للمقاومة، وتشتيت رؤاها، لجعلها تفقد بوصلتها حوْل من هو عدوّها، ومن حامي حِماها، جهلًا من العدو أن الحيّ هو في الأساس حاضنُ القطاع، تجميع سكّان من غزّة المدينة، ومدن شمال القطاع: بيت لاهيا، وبيت حانون، وجباليا، وفيه من دير البلح، ومن رفح.

حديقة الجندي المجهول 

العدو لم يجتهد لأنه يعتمد، فقط، على آلة القتل، لا مصداقية البحث، فليست عائلة شعشاعة، على سبيل المثال، أصيلة فيه، ولها هناك جذور تمتد مثلًا لقرون عدة ماضية. وهو ما ينطبق على عائلة (الكولك)، التي قدّمت في عدوان رمضان 2021 زهاء عشرة شهداء. ولا حتى عائلة سالم، التي قضى منها في مجزرة 19 كانون الأول/ ديسمبر 2023 مئة شهيد. حتى أن عائلة سالم، على وجه التحديد، كانت لجأت إلى الحي بعد اندلاع الطوفان تنشد الأمن والأمان. وهلمّ جرًّا؛ عائلات: أبو كلوب، زعرب، شاهين، حلّس، عطايا، السقّا، البس، أبو العوف، الفرنجي، العالول، القُمع، عودة، الحجّار، النجّار، العشّي، الحسنات، رشوان، جندية، سكيك، مرتجى، اليازجي، أبو شرخ، سقا الله، أبو شعبان، أبو رمضان، الحسيني، خيال، وقائمة تطول، جميعهم وفدوا إلى الحي الذي لا يزيد عمر إنشائه على 100 عام ماضية، فالحيّ ليس مدينة تاريخية في غزّة، وليس له جذوره الضاربة في القِدم، كما هي حال رفح، على سبيل المثال، أو جباليا، أو بيت لاهيا. احتضنهم ومنحهم من رقّة رمله الذي كان كثبانًا، ثم صار مداسًا ومنبت شجر وحنوّ مسيرٍ من شرق غزّة المدينة حتى بحرها، حيث يمتدّ الحيّ على امتداد شارع عمر المختار، الذي يصل شرق المدينة بغربها، وتمتد حدوده بشكل عام من منطقة الشيخ رضوان شمالًا إلى منطقة الشيخ عجلين جنوبًا، ومن منطقة سامر شرقًا حتى بحر غزّة غربًا، وهو ينقسم إلى "الرمال الشمالي"، و"الرمال الجنوبي"، وتحيطهُ أحياء: الدرج، والتفاح، والزيتون، والشجاعية، والصبرة، وتل الهوا، وغيرها.

معالم ناصعة

في حي الرمال معالم ناصعة، وفيه عمارة زاهية. ولعل حديقة الجندي المجهول (شيّد النصب عام 1956)، وَدواره وَبرجه، ومختلف المنطقة المحيطة به، من أهم معالم الحي. ثم إن الجامعة الإسلامية (يشاع تسميتها هناك بجامعة الأزهر، كونها نبتت من معهد الأزهر في الحي)، وجامعة الأقصى (شرقها الجامعة الإسلامية، وغربها شارع مصطفى حافظ)، ومقر المجلس التشريعي، والبنك الوطني الإسلامي، ومعالم أخرى كثيرة، هي من أركان الحي.




كما أن برج فلسطين الذي دمّر بالكامل شكّل حتى تعرضه للعدوان الحاقد مَعْلمًا مهمًا من معالم الحي بطوابقهِ الأربعة عشر، وعمارتِه، ورقيّ تفاصيله. وفي الحي، إلى ذلك، مولات ضخمة (كابيتال مول، وباندا مول، وسوبر ماركت عطا الله، على سبيل المثال)، وفيه مركز رشاد الشوّا الثقافي، وكنافة أبو السعود، والمدينة المائية، ومخبز الشرق، ومقرّ النّيابة العامة، وفيه مبنى السرايا القديم، الذي يعود إلى الفترة العثمانية، وعشرات المدارس (منها مدارس: المعتصم بالله الثانوية للبنين، الجليل الثانوية للبنات، رابعة العدوية الثانوية للبنات، والمنفلوطي الثانوية للبنين، وغيرها).
ومع تدفق الراغبين بالإقامة في حي الرمال (شانزليزيه غزّة، أو عاصمتها التجارية، في تسمية أخرى)، بات حتى لِلبسطات مكان فوق أرصفته، واستُعيض عن البيوت المستقلة، وأشباه الفيلات، بالمُجمّعات السكنية التي قد يصل عدد شقق بعضها إلى 50 شقّة، وهو التدفّق الذي قد يكون رفع عدد سكان الحي إلى ما يقْترب من 90 ألف نسمة.

روح مصريّة

يمتاز حي الرمال بروحٍ مصرية تظهر حتى في طريقة كتابة بعض قدماء سكّانه (وهي الطريقة التي تجعل الياء ألفًا مكسورة، والألِف المكسورة ياء). كما تشفّ، أحيانًا، من تسريباتٍ في اللهجة، ومن أسماء بعض مدارسهِ (أحمد شوقي)، وشوارعِه (مصطفى حافظ). ويعود السبب في ذلك إلى أن المصريين جعلوا من الحي في خمسينيات القرن الماضي مقرًا لموظفيهِم، ولإدارةِ إشرافهِم على القطاع.

الجامعة الإسلامية

يصعب أن لا يحتوي تقريرٌ عن حيّ الرمال على إطلالةٍ تُنصف الجامعة الإسلامية فيه، وقد تحوّلت، بسبب القصف الانتقاميّ، إلى ركام، أو تكاد. فَهناك، على بعد أقل من كيلومتر فقط عن شاطئ بحر غزّة، تنهض الجامعة التي تخرّج منها قادة المقاومة الفلسطينية في غزّة: محمد الضيف، يحيى السنوار، إسماعيل هنية، وإبراهيم مقادمة، وقائمة تطول من أصحاب الخطوِ الحثيث نحو تغيير وجه التاريخ.
تتربّع الجامعة الإسلامية على مساحةً وافيةً من الرمال الجنوبيّ، وتفرض نفسها بوصفها مؤسسة أكاديمية انتزعت اعتراف العدوّ قبل الصديق. جامعة بدأت من خيمة لتحرق يومًا ما عبر أجيالها المتعلّمة من خِريجيها كلَّ خِيام الشّتات.

حي الرمال قبل العدوان الصهيوني وبعده 

فقد استهلت الجامعة الإسلامية مسيرتها بـ25 طالبًا، وهيئة تدريسية مكوّنة من خمسة محاضرين، واحد منهم، فقط، كان يحمل درجة الدكتوراه، وأربعةٌ يحملون درجات الماجستير. وكانت قاعاتها الدراسية من الخيام، ولكنها تحوّلت لاحقًا إلى قاعات دراسية مؤقتة، وضم مجلس أمنائها عددًا من قادة المقاومة البارزين، منهم الشيخ أحمد ياسين، والمهندس إسماعيل أبو شنب، وغيرهما.
أما أساتذة الجامعة الذين قضوا شهداء بعد الطوفان، فهم كُثْر، ولعلّ في المقدمة منهم رئيس الجامعة د. سفيان تايه، أستاذ الفيزياء النظرية والرياضيات التطبيقية، الذي يحمل كرسي اليونسكو لعلوم الفيزياء الفلكية وعلوم الفضاء. ومنهم، إلى ذلك، د. أسامة المزيني، بروفيسور الإرشاد والصحة والنفسية، ورئيس مجلس شورى حماس. كما استهدف العدوان رئيسًا سابقًا للجامعة الإسلامية في حي الرمال هو د. محمد عيد شبير، أستاذ علم الأحياء الدقيقة. والعميد السابق لكلية الطب البشري في الجامعة الشهيد د. عمر صالح فروانة، والشهيد مصطفى الصواف، أحد أشهر الصحافيين والكتّاب السياسيين الفلسطينيين، الذي عمل محاضرًا للإعلام في الجامعة. ولن ننسى، طبعًا، الشاعر والأكاديمي والأديب الشهيد رفعت العرعير، الذي كان يدرّس مواد الكتابة الإبداعية والأدب العالمي، وغيرها من المساقات في الجامعة، وصاحب مبادرة "نحن لسنا أرقامًا".

حكايات الناس

حي الرمال هو حكايات الناس، فضاء أحلامهم؛ هو حكاية وفاء البس، أم الطفليْن الشهيديْن حسن وبراء، التي نجت بأعجوبة عندما كانت تنوي تنفيذ عملية استشهادية في 20 حزيران/ يونيو 2005، وتحرّرت في صفقة "وفاء الأحرار" في 18 تشرين الأول/ أكتوبر 2011، لِتفجع، بعد أن تزوجت وأنجبت، باستشهاد طفليْها ضمن قائمة شهداء حي الرمال الطويلة الدامية، وهو حكاية أسمى رشوان، المُعيدة في قسم كيمياء كلية العلوم في جامعة الأقصى، التي أنجبت ابنتها إيليا بعد شهرين من استشهاد زوجها إيهاب جندية في أوّل عدوان على الحي، وهو حكاية يوسف السقا، الذي استشهدت زوجته ناريمان حسن علي السقا ولم يمض على زواجهما سوى ستة أشهر فقط، وهو حكاية زياد شعبان، الذي عندما عاد إلى الحي بعد ليلةِ قصفٍ مسعورَة لم يتعرّف على الحي الذي ولد فيه عام 1958، وظنّ أنه تاه، لولا مشاهدته، أخيرًا، بعض جيرانه المفجوعينَ مثله، فبدا له أن زلزالًا قلب الحي رأسًا على عقب.
الحي هو حكاية الفنان الفلسطيني بلال حاليت، الذي قرر أن يرسم على صاروخ ألقاهُ الاحتلال على الرمال: فما مات الحي، بل انْدثر الغُزاة.
سينهض حي الرمال من جديد، ولكن هذه المرّة محمّلًا بإيمان سكانه أكثر من ذي قبل بجدوى المقاومة، ومفصليّة الانحياز النهائيّ إلى خيارها، على طريق تحرير الأرض وَالإنسان والذّاكرة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.