حاز فيلم "الشرّ غير موجود/ Evil Does Not Exist" على جائزة الأسد الفضي الكبرى في مهرجان فينيسيا في دورته الثمانين (2023). الفيلم من إخراج الياباني ريوسوكي هاماغوتشي/ Hamaguchi Ryusuke، الذي سبق له أن نال جائزة الأوسكار لعام 2022عن فيلمه "قُد سيارتي/ Drive My Car".

تدور أحداث الفيلم في بيئةٍ احترافية لمخرجي المسرح والسينما والممثلين الذين تربّوا على "العمّ فانيا"، بينما تُغرق أحداث الفيلم الجديد المشاهد في حياة القرية الهادئة التي تتناغم عضويًّا مع الطبيعة. تقع القرية غير بعيدٍ من العاصمة طوكيو، ولكنّها معزولة بشكلٍ يثير الاستغراب. في بداية الفيلم، ترصد الكاميرا لدقائق عدة قمم أشجار الصنوبر وأغصانها المتمايلة بفعل نسمات الهواء، وتطوف على الجداول التي تنساب مياهها الصافية بهدوء، وترصد عدساتها أشعة الشمس المتسللة من بين الأغصان لتسقط على الثلج، كما تمرّ بطيئةً على صخور الجبال المكسوّة بالثلج. لا تتكشّف أحداث الفيلم بسهولة، ربما ليس بسبب البطء الشديد والإيقاع البارد، بل لأنّ البيئة كلّها غارقة في هدوءٍ لانهائيّ، فيظهر للناظر من الخارج عالم نقي براق ظاهريًا، ولكنّه عند التعمّق في دواخله يبدو أكثر قتامةً، وأقلّ تفاؤلًا. كلّ هذا يتناقض كليًّا مع عنوان الفيلم، فالحبكة مختلفة تمامًا، وتفسّر كنه هذا التناقض عند مقارنة الفيلم بأفلامٍ مشابهة تفضح جميعها سُعار الرأسمالية، وتقف في مواجهته، تحثّ الناس على ضرورة تصدّيهم لهذا الوحش، وتحذّر من الوحش الذي يسعى بكلّ جبروته ليسلب الضعفاء والفقراء أعزّ ما يملكون. لهذا السبب، يبدو الفيلم بسيطًا واضحًا، ولا جديد فيه. غير أنّ هذا الانطباع يتغيّر بقوة، وخاصّةً في دقائق الفيلم الأخيرة، حيث تتخذ الأحداث منعطفًا مفاجئًا ومذهلًا، يذكّر فيها هاماغوتشي المشاهد ببراعةٍ ودقّةٍ أنّ الطبيعة، سواءً أكانت بريّةً، أم بشرية، لا تبقى على الدوام ساحرة ومسالمة، خصوصًا عندما تحتدم الصراعات، فيكون الصدام مزلزلًا بين الواقع والتصورات.

الفيلم دعوةٌ صريحة للتفكير في الأسباب التي تدفع البشر إلى ارتكاب أفعال شريرة. في كلّ أفلامه، لا يصدر المخرج إداناتٍ، أو أحكامًا مسبقة على شخصياته، بل يكتفي فقط بالكشف عن أنّ أيّ شخصٍ، حتى أبسط الناس وأكثرهم مسالمةً، يمكنه في ظروفٍ معينة أن يرتكب الشرور، وينطبق الأمر نفسه على أرق الحيوانات وأكثرها ألفة.

يكاد تاكومي (الممثل هيتوسي أوميغا)، إحدى شخصيات السلطة المحلية، والأب الوحيد لابنة في الثامنة من العمر، أن يتقمّص روح هذا المكان المقدّس. إنّه على تواصلٍ روحيّ بالنباتات والحيوانات والطيور، ويكسب رزقه من خلال عملٍ فلاحيّ شاقّ: يقطع الحطب لجيرانه، ويملأ الزجاجات بمياه نقيّة، ومن ثمّ ينقلها إلى مطعم المعكرونة. يرى تاكومي أن المياه عنصر أساسي، فترصده الكاميرا من مسافةٍ قصيرة مرارًا وتكرارًا وهو يمارس طقوسه شبه اليومية. أمّا ابنته هانا فقد اندمجت مع الطبيعة، وأصبحت تشكّل جزءًا منها: ولأنّ والدها ينسى في كثير من الأحيان الذهاب لاصطحابها من المدرسة، فقد اعتادت العودة إلى البيت بمفردها، فأصبحت تعرف كلّ غصنٍ في الغابة، وتعرف كلّ أثرٍ من آثار الغزلان.

لقطة من فيلم "الشرّ غير موجود" وملصق الفيلم

في أحد الأيام، يعلم تاكومي، وغيره من القرويين، أنّ شركةً كبرى من شركات طوكيو ستقوم ببناء معسكرٍ تخييم سياحي بالقرب من الجبال، لتغري سكان العاصمة اليابانية بملاذٍ مريح في أحضان الطبيعة الساحرة. في الجزء الأوّل من الفيلم، يدور نقاشٌ هادئ بين سكان القرية وممثلي شركة الإنشاء، الذين يكشفون سريعًا عن عدم كفاءتهم. خلال محادثةٍ كانت مهذّبة في البداية، ولكنّها ازدادت توترًا بمرور الوقت، يتضح أنّ المشروع سيسبّب تلوث المياه الجوفية، وبالتالي ستتلوث مياه الينابيع، وكذلك تتكشف عواقب مؤسفة أخرى، من بينها تخريب مسارات الغزلان. يحتج السكان بكلّ ما أوتوا من قوة على المشروع، ولكنّ القوى غير متكافئة، وأرباح الشركة على المحكّ. يبيّن الفيلم بوضوحٍ أنّ الحياة الأبوية التي كانت سائدة في القرية محكومٌ عليها بالفشل، وأنّها تقترب من نهايتها. بعد ذلك، يبدو أنّ الطبيعة نفسها في طريقها هي أيضًا إلى قدرها المحتوم، وأنّها ستكون في قلب المأساة.

في أفلام هاماغوتشي، يجد المشاهد نفسه يخمّن ويتوقّع كيف ستجري الأمور. ومع اقتراب الفيلم من نهايته، يتكون لدى كلّ مشاهدٍ تفسيره الخاص لما يحدث. وهنا، في فيلم "الشرّ غير موجود"، لم يكن من قبيل الصدفة سماع صوت طلقٍ ناري في البعيد. بعد صوت الرصاص، تظهر مباشرةً لقطةٌ سريعة تظهر فيها غزلانٌ رائعة الجمال تكاد تكون روحانية.

ومع تواصل مشاهد الفيلم، يتضح للمشاهد أنّ أكثر شخصيات الفيلم إشكالية هو تاكاهاشي (الممثل ريوجي كوساكا)، الفتى الوسيم الذي يرتدي سترةً حمراء، والذي كان يعمل سابقًا في إحدى وكالات التمثيل، ولكنّه يعمل الآن مندوبًا لصالح شركة الإنشاءات، ويحاول إقناع القرويين بجدوى المشروع الذي تنوي الشركة التي يمثّلها إقامته: فهو بذلك يجسّد الحضارة المدنية المنفصلة عن جذورها.

بالمناسبة، هاماغوتشي ليس بالمخرج الذي يشيطن الأعمال، ويندّد بالتصرفات والسلوك. هاماغوتشي مشبعٌ بـ"الحياة الطبيعية" لدرجةٍ أنّه مستعدٌ تمامًا لتقطيع الخشب بنفسه، متّتبعًا خطوات بطل فيلمه القروي تاكومي، ولكنه سيقوم بذلك بالطبع على طريقته الكوميدية الحمقاء. يحتدم الصراع بين مجتمع القرية البسيط، وبين الرأسماليين الذين أعماهم الطمع، فيتحوّل من صراعٍ اجتماعيّ إلى صراعٍ وجوديّ. في الوقت نفسه، ومع تطور الصراع، يتطور الفيلم أيضًا ليصبح وكأنّه حكايةً بيئية. ليس للشرّ وجهٌ في الفيلم، فهو غافٍ، ولكنّه يستيقظ عندما يدمّر التوازن صيادًا بطلقةٍ يطلقها، أو رأسمالي بمشاريعه المدمّرة. عندها، ستراق الدماء، فالشرّ بكلّ بساطة يحتاج إلى ضحايا.

عندما تطوف الكاميرا فوق الأشجار البائسة على وقع أنغام موسيقى إيكو إيشيباشي Eiko Ishibashi، التي تخدّر الأعصاب، يصبح حينها اسم مؤلف الموسيقى مفصليًا، لأن الفيلم من دون تلك الموسيقى لن يكون موجودًا أبدًا. بدأ كلّ شيءٍ، عندما وافق المخرج هاماغوتشي على تصوير فيديو صامت لصالح Eiko، وهي التي تقطن المنطقة ذاتها، حيث يجري التصوير، واستحقت بجدارة لقب "عبقرية المكان"، كان الدافع الرئيس هو الجمع بشكلٍ عضوي بين ديناميكيات الطبيعة والموسيقى، وعندها فقط تظهر الحوارات والمؤامرات والشخصيات.

إحدى سمات هاماغوتشي المميزة جدًا، أنّه يستخدم لارتجالاته السينمائية، وبكلّ طيب خاطر، رموزًا ثقافية جاهزة، ودائمًا ما تكون هذه الرموز ساحرةً وجذابة، وإن كانت سطحيةً بعض الشيء. يدور الحديث هنا ليس فقط عن تنوع أساليب تشيخوف المحبوب، الذي يذكّر بنفسه من خلال طلقٍ ناريّ في نهاية الفيلم، ولكن الحديث يدور أيضًا عن أسلاف المخرج الياباني السينمائيين، أمثال مواطنيه: أكيرا كوروساوا، ياسوجيرو أوزو، كانينو شيندو. في فيلم "المصادفة والتخمين"، يلاحظ صدى واضح لـ"الكوميديا والأمثال" للمخرج الفرنسي إريك رومر Eric Rohmer (أهمّ ممثلي تيار الموجة الجديدة ما بعد الحرب العالمية)، كما أنّ طريقة تصوير الغابات، المياه، والنار، والبحث عن التناغم الموسيقي من خلال الصور المرئية، تذكّر بالمخرج الروسي أندريه تاركوفسكي.