الوحدة في ثلاثينيات القرن الحادي والعشرين

الوحدة في ثلاثينيات القرن الحادي والعشرين

27 ديسمبر 2015
هاني زعرب، من سلسلة "في الانتظار" (2008)
+ الخط -

ما يتحوّل إلى مطلقٍ مع تقدّم الزمان، هو شعور الإنسان بالوحدة.
مع قوّة الشعور بالوحدة، يخاف الإنسان من الوحدة أكثر، ويهرب أكثر.
هذا هو غول القرن الحادي والعشرين حقّاً: الوحدة.

ومثلما كان الوباء يخيف الناس ويرعبهم في العصور الوسطى، فإنهم يعيشون الآن الوحدة الشديدة/ الخوف الشديد من الوحدة. ومثلما كان الأطفال يخافون/ يُخوَّفون بغيلان خيالية، صاروا يخشون فقدان التلقّي، و"الظهور" بهذا المظهر لحظة بقائهم وحدهم، ويخافون.

الأفلام، والأغاني، ووسائل التواصل الاجتماعي، والصحف، والدعايات، والأدب الرخيص، صارت تضخُّ للناس الخوف من الوحدة بشكل دائم، وتسوّق "أساليب" التخلّص من هذا "الوباء".

إنهم مستعدّون لاتخاذ كل التدابير، وطرق كل الأبواب من أجل ألّا يبقوا وحيدين،
ألّا يبدوا وحيدين. فـ"الخوف من الوحدة" - بل، والأهم من ذلك، عقدة الوحدة والخجل منها -
ستدمغ المدن، أي حياة المدن، بطابعها في السنوات القادمة.
ما من أيديولوجيا سوّقت الخوف من الخجل بطريقة أفضل.

لم يبرز العرضُ والتعريفُ إلى الواجهة كما برز في السنين التي نعيشها
ستصغر غرف البيوت تدريجياً، وتتحوّل إلى زنزانات فندقية في السنين القادمة. ستكون ثمّة ضرورة لإخفاء "الوحدة"، حيث المعيشة فيها كإخفاء الذنب.

تفرش البيوت - أي الزنزانات - بذائقة عالية ورفيعة وغاية في البساطة!
المخابئ: التقاط النَفَس.
البيت: سيُنظر إلى البيوت باعتبارها ملاجئ للاختباء والراحة والتقاط النَفَس عندما لا يكون ثمّة مفرّ من الوحدة.
إنها سجون يجب الولوج إلى خلف جدرانها بأسرع ما يمكن.

عندما تتحسّن وترتاح، وتصحو، عليك أن تهرع لتُظْهِر/ لتعرض نفسك في الأمكنة العامة.
تضطر لاتخاذ مكانك في الشوارع، وساحات العرض، الواجهات، وأمام الكاميرات.
كثرة "تصوير الذات"، وكثرة المشاهد، والظهور، وحالة الحضور أمام الأعين!

يطول وقت عيش الناس "دون لفت انتباه" في الساحات ومراكز التسوّق، وساحات الحفلات الموسيقية، والصالات الرياضية، والمستشفيات.
إنها أزمنة، المهم فيها الكم، وليس النوع.
يتضاءل تبادل الحديث، ويتحوّل إلى عبث.

ينخفض مدى/ عمق الأفكار إلى مقاييس تويتر.
فقد أصبح الناس مستعدّين لعمل أي شيء من أجل ألّا يبقوا وحيدين.
والأهم: من أجل ألّا يبدوا وحيدين.
حيث لم يعد هناك فشل أكبر من الوحدة!
يبدأون العمل بقتل اللحظات التي يعيشون فيها.

صار الناس يعيشون ليلتقطوا صور "مشاهد" تُنزَّل على الإنستغرام والفيسبوك:
تصمّم الحياة من أجل إثبات العيش مع أحدهم، أو ما يستحق العرض على الآخرين.

التصميم والعرض: أصبحت الحياة تدور حول هذين المفهومين، والمدن أيضاً. مع تقدّم الزمن، ستكبر المدن أكثر، وتزداد حاجة الناس لإظهار أنفسهم وعرضها في الزحام الكبير.

مع ازدياد الزحام، يقل الظهور، ويصعب.
ومع قلّة الظهور، تتضاعف رغبة الناس في لفت النظر، وكدحهم في سبيلها.
وتدريجياً، تصبح إمكانية إتاحة المكان للوحدة والشيخوخة والاستقلالية مستحيلة.

لا تغدو المدن شابة فقط، بل طفولية أيضاً.
تتحوّل كل الأماكن إلى مراكز تسوّق، وواجهات، ومدن ملاهٍ.
وساحات "recreation" (استجمام) أيضاً.

ستكون ثمّة ضرورة ليعيد الناس "تصميم" أنفسهم باستمرار في الألوان والطرز الأثيرة لذلك الموسم.
لم يصبح المشهد والظهور مهمّاً إلى هذه الدرجة في أي وقت آخر.

كل شخص تقريباً "نجم" في عالمه الصغير جدّاً، هو نفسه شهرته ومثير فضوله!
اليوغا، الريكي (العلاج بالطاقة)، البيلاتس (اللياقة البدنية)، التأمّل، الجراحة التجميلية، شفط الدهون، شد البشرة، الركض، التنفس، ديتوكس (طرح الفضلات الضارة من الجسم):
تسحق الإنسان كرة ثلجِ الانسجام الروحي - المزوّر، والرعاية والإصلاح، والعلاج.

ليس ثمّة داخل، ولا روح، ولا موضوع: هناك "خروج".
يخرج الناس كل صباح من بيوتهم مثل الصور والمجلات ذات الكتابات أسفل الصورة فقط.

الجميع كرّسوا حياتهم من أجل زيادة عدد الاشتراكات.
الجميع مشغولون جدّاً جدّاً.
يبدو أن الانشغال الدائم والتخلّص من الوحدة سيكونان من أهم طرق الثبات في مدينة المستقبل.
تُسوَّق الأمور التافهة جدّاً بحملات إعلانية كبيرة جدّاً.

تُشجَّع النساء على تلوين شفاههن بـ40 دقيقة مثلاً، والرجال على إظهار تقاطيع عضلات البطن.
يُسوَّق هراء يُدعى "اكتشاف الذات".
مع أن الناس لم يفقدوا أنفسهم إلى هذه الدرجة من الضياع في المألوف والسطحي.

الطراز الأهم هو "العامية"، والضحالة أيضاً.
الثقافة والعمق الفلسفي نقص كبير، سيحكم عليكم بالوحدة، التي ستغدو حالة من "العيب".
ازدياد أهمية وسائل التواصل الاجتماعي يعني في الوقت نفسه تقديس البسيط.
الزمن غير المتناهي المستهلَك على وسائل التواصل الاجتماعي مع الزمن المستهلَك في الشوارع ووسط الزحام، هو بشارة "الأزمنة النرجسية" القادمة.
الذنوب الكبرى الثلاثة: الشيخوخة، الوحدة، البشاعة.

الجميع مضطرّون للإعجاب بأنفسهم وفرض الإعجاب بهم على الجموع.
الحياة في المدن عام 2030 ستواجَه بكفاح الناس ضد هذه الذنوب الثلاثة بالدم ـ العرق.
مع ارتفاع معدّل الأعمار، تزداد الشراهة للشباب.

في الخامسة والستّين من أعمارهم، يُجري الناس عمليات تغيير جنس.
لأنهم يريدون العيش 120 - 130 عاماً، فهم ما زالوا في أواسط العمر، ويجب "أن يكتشفوا أنفسهم".

فَقَدَ الناس أنفسهم تماماً ضمن حاجة الإنسان للإعجاب بنفسه/ ليحظى بإعجاب الآخرين.
سيحدّد حياتنا - وبالتالي مدننا - في السنين القادمة الجمال والشباب والشهية الجارفة للحيوية، والرغبة في عرض الذات التي تتّجه إلى حالة منفلتة.

المفارقة الكاملة هي الحالة الطبيعية جدّاً!
كلّما خاف الناس من الوحدة، شعروا بالوحدة أكثر.
مع تضاعف رغبتهم في عرض أنفسهم، لا تبقى لديهم أية خصوصية للعرض.
مع محاولتهم جذب النظر، يصبحون عاديين أكثر.

مع عبادتهم للجمال، يدخلون حال النموذج الموحّد.
قريباً ستغدو أنوف الإيرانيات كلّها نموذجاً واحداً، وأعين الكوريات كلّهن بالوسع نفسه.
ابتسامة الإنسان في إنستغرام تشبه ابتسامات الآخرين.
والفظيع في الأمر تشابه عباراتهم أيضاً.

سيعمل هذا الانطفاء الفلسفي للضغط على المهرجانات والكرنفالات والبيناليات،
ونسيانها بواسطة المعارض الموسمية في المدن خلال ثلاثينيات القرن الحادي والعشرين.
الجميع يريدون اللهو.
يريد الشخص إلهاء نفسه، واللهو بشكل دائم.

وستقدّم المدينة لهم هذا الأمر.
ستقدّم لهم المدن المعرضية المصمّمة لتقديم احتمال نسيان أنواع الحقائق كلّها مقابل أخذ نقودهم ووقتهم.
هذا ما ينتظرنا في الخمسة عشر عاماً القادمة: سيطرة صورة دوريان غراي، والأمكنة المصمّمة من أجلها.
انفجار المرايا والواجهات!

أستطيع رؤية كيفية توجّه عشق الذات إلى مستوى واحد وطريق مسدود حتى النهاية في مدن عام 2030.
انفلات الفردية بأقصى سرعة في طريق شديد الانحدار.
تخبّط الأفراد الذين فقدوا احتمال حظوتهم بالفردية: انظروا إليّ، إليّ انظروا!

يمكن تلقّي الأمر بتشاؤم.
ولكن هذا هو ما أراه عندما أنظر إلى الكرة وسط هذه البهرجة كلّها.
قد يبدو هذا مفهوماً متشائماً.
ولكن الكل يقبعون داخل هذه الشاشة. لقد رأيت ذلك وأنا أنظر إلى الكرة الأرضية.

استعراض الذات نفسه، هوى الوصول إلى عرض الذات
المرايا وواجهات العرض
معرض/ سوق/ مركز تسوّق. هاكم هذه مدينة 2030.

تصوير: ايكو فون شفيجو 


* ولدت بيريهان ماغدين (Perihan Mağden) عام 1960 في اسطنبول. درست علم النفس في جامعة البوسفور. عام 2006 قاضتها الحكومة التركية بسبب مقالة نشرتها في المجلة الاسبوعية "ييني اكتول" وفيها دافعت ماغدين عن شاب تركي قرر التخلف عن الخدمة العسكرية الإلزامية وهو قرار أدى الى سجن ذلك الشاب.

وقد دافعت ماغدين عن حق الشاب بعدم الالتحاق بالخدمة الإلزامية باعتبار أن الأمم المتحدة تعتبر التخلف عن الخدمة الإجبارية هو حق من حقوق الانسان. وقد رافقت محاكمة ماغدين بتهمة "التفرقة بين الشعب والجيش" اعتراضات دولية من منظمات حقوق الإنسان الدولية. وقد تمت تبرئتها بسبب أن مقالتها مشمولة بقانون حرية الصحافة. بالإضافة لعملها كصحفية في الصحف التركية مثل صحيفة "راديكال"، فإن ماغدين قد نشرت عدة روايات ومجموعة شعرية واحدة.

تبحث روايتها "جرائم قتل الحاجب الصغير" في الحالة الإنسانية بأسلوب الفكاهة السوداء. وتتناول روايتها "فتاتان" الصداقة القوية بين فتاتين مختلفتين كلياً إحداهما متمردة والأخرى ملتزمة في بيئة مادية ذكورية تكتشف فيها الفتاتان تدريجياً أن الصداقة بينهما مستحيلة في هكذا بيئة.

وقد وصفت صحيفة "اندبندنت" البريطانية تلك الرواية بانها الاولى منذ رواية ج. د. سالينجر "حارس الشوفان" التي نجحت في تصوير معاناة الشباب بصورة حيوية وجذابة. وقد تم تحويل تلك الرواية الى فيلم تركي حاز على العديد من الجوائز في مهرجان البرتقالة الذهبية السينمائي في انطاليا.

أما في روايتها "ممن كنا نهرب؟" (2007) فهي تصوّر بطريقة شاعرية امرأة وابنتها تهربان مرة بعد مرة من أشخاص تظل هويتهم غامضة فيما هم يتعقبون المرأتين من مكان لآخر. وقد نالت روايتها "علي ورمضان" (2012) جائزة الكتاب التركي لذلك العام. وتحكي الرواية قصة صداقة بين ولدين يتيمين فيها الكثير من الحنان والقسوة فيما يخوض الصديقان صراعاً من أجل البقاء في شوارع اسطنبول. وقد حازت ماغدين التي تعيش في اسطنبول، على جائزة حرية الفكر والتعبير لعام 2008 من جمعية الناشرين الأتراك. آخر أعمالها رواية "جرح النجوم" (2012).

** ترجمة عن التركية عبد القادر عبد اللي، والنص هو المقالة الافتتاحية لعدد مجلة "كيكا للأدب العالمي" الذي يصدر بعد أيام، ويُنشر بالاتفاق مع المجلة


اقرأ أيضاً: أدب الأتراك: الجيرة والجفوة

دلالات

المساهمون