"مكتبة قطر".. عولمة النكبة ومعجم غزّة

"مكتبة قطر".. عولمة النكبة ومعجم غزّة

16 مايو 2024
من الندوة (تصوير: العربي الجديد)
+ الخط -
اظهر الملخص
- في ذكرى النكبة الفلسطينية الـ76، تجددت الأحداث التي تعكس استمرار العملية الاستعمارية والمواجهات في الأراضي الفلسطينية، خاصة في غزة، مما يعيد إلى الأذهان صور النكبة الأولى.
- "مكتبة قطر" الوطنية استضافت ندوة بمشاركة ثلاثة باحثين ناقشوا استمرارية النكبة وتأثيرها على الهوية والوجود الفلسطيني، مؤكدين على أن النكبة ليست حدثًا منفصلاً بل مستمرة.
- الندوة أبرزت البعد العالمي للنكبة والتضامن العالمي مع القضية الفلسطينية، مشيرةً إلى أهمية اللغة والثقافة في تشكيل الهوية الفلسطينية ومقاومة الاستعمار.

جاءت ذكرى نكبة فلسطين هذه السنة عاصفةً ببنية الروزنامة المتراكمة منذ 76 سنة، تعرضت فيها النكبة إلى عوامل تجريف وتحريف إلى أن كانت المواجهة الكبرى للوجود الفلسطيني نهاية العام الماضي.

توارث الفلسطينيون خلال هذه العقود كل ما تقطعه الكارثة زمنياً قبل 15 مايو/ أيار 1948 وبعده، بين ذاكرة من عاشوا بأجسادهم، ومن تخيلوها بعد أن أصبحت مسلوبة والشعب في غالبيته لاجئ وغريب في بقاع الأرض.

ثلاثة باحثين استضافتهم "مكتبة قطر" الوطنية أمس الأربعاء في ندوة "ذكرى النكبة الفلسطينية: إحلال مستمر منذ نكبة 1948 وحتى الإبادة الممنهجة في غزّة"، ليكون المدار الذي دارت فيه مداخلاتهم هو استمرار النكبة أي استمرار العملية الاستعمارية.

مداخلاتٌّ مدارُها استمرار النكبة؛ أي استمرار العملية الاستعمارية

إن غزّة الصغيرة شهدت أكبر فظاعة نيابة عن البلاد منذ أصبحت فلسطين قضية سياسية، لكنها في الوقت عينه أنتجت ما لا يتمنّاه ولا يتوقّعه مستعمر استيطاني، وهو انكشاف هرم التلفيق الذي خدم عقوداً طويلة في تشييده. كما وقع هذا التعاضد العالمي المزعج لأي مشروع استيطاني، والمؤسَّس على وعي سياسي لا إنساني فقط، واستحضار نكبة جديدة تقذف بمعجم جديد غير مسبوق، كما تلاحظ أمل غزال عميدة كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية في "معهد الدوحة للدراسات العليا"، أوّل المتحدّثين في الندوة.


استعارة

لقد نام الناس في غزّة يوم السادس من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 ليستيقظوا عام 1948، وفق الاستعارة التي أعاد استعمالها أباهر السقا أستاذ العلوم الاجتماعية والسلوكية في جامعة بيرزيت، ليبني من خلالها مقاربته. وقال إن هذه الاستعارة أقرب إلى الحقيقة، لأن غالبية سكان قطاع غزّة لاجئون من هذه المناطق التي تسميها وسائل الإعلام "غلاف غزّة".

لقد وقعوا تحت المجازر وطُرد الباقون من المجدل وعسقلان وأسدود وبئر السبع والأرياف التابعة لها، إلى لواء غزّة الذي سيتحول على يد المصريين إلى "قطاع"، وستصبح كل أوطان اللاجئين تحت الاستعمار الاستيطاني مرئية على مرمى العين في غزّة، كما يواصل.

في 1948 لم يكن لدينا هذا المجتمع الفُرجوي الذي يتابع الإبادة

وأضاف أن كل من يعرف تاريخ هذا الاستعمار يعرف أن ثمة استمرارية في المجازر، وممارسات ممأسسة ممنهجة تعمل على استمرار حرب الإبادة، والفارق الوحيد عنده، أنه في عام 1948، حين قصمت النكبة ظهر الجغرافيا وشعبها، لم يكن لدينا هذا المجتمع الفُرجوي الذي يتيح للجميع في العالم أن يتابع الإبادة، وهي تحدث أمامه دقيقة بدقيقة.

ووفق ما يخلص، فإن قراءة تاريخ الاستعمارات الاستيطانية الإحلالية تفيد بأن الإبادة، وكلما طال عمر المستعمر، ازدادت توحشاً، وهذا يعني أننا أمام حروب إبادة قادمة ستمس فلسطين كلها.

مقابل ذلك، رأى أن هناك محاولات لتجاوز الجغرافيا الاستعمارية، مثل "هبّة أيار" عام 2022، التي وحّدت فلسطين وتجاوزت الجغرافيات الاستعمارية، وهذا يمكن رؤيته بوصفه شكلاً جديداً من الاستخدام الاجتماعي للنكبة واستبطانها وتحويلها إلى حدث من القاع.


السرد

وجاءت مداخلة إسماعيل ناشف، الأستاذ المشارك في برنامج علم الاجتماع وعلم الإنسان في "معهد الدوحة للدراسات العليا" بعنوان "النكبة والسرد التاريخي الفلسطيني"، وتركزت ورقته على كيفية سرد الفلسطينيين لتاريخهم الحديث والمعاصر عبر جملة من الأحداث التي كانت لها تبعات مباشرة على وجودهم كجماعة في أرض فلسطين التاريخية.

السمة الأساسية المشتركة بين هذه الأحداث المؤسسة للسردية الفلسطينية التاريخية يرى أنها تُمثّل محطات مفصلية في الصراع مع المستعمر الصهيوني، تلتها تحولات عميقة في حياة الفلسطينيين اليومية والعامة، كما في الأنظمة السياسية التي تحكمهم.

وأوضح ناشف أن هذه الأحداث قد رسّخت الرواية التاريخية الفلسطينية وأدت إلى تحولات عميقة في حياتهم اليومية، وما يميزها أنها خلقت فجوة عميقة في الذاكرة الجمعية الفلسطينية، وصدمة عنيفة، وهي بهذا الوصف كانت تدفع لتوليد الذوات الفلسطينية وفعلها الجماعي.

قراءة النكبة من منظور اجتماعي وتاريخي لفهم الكوارث المتلاحقة

وعليه، قال إن تجميع هذه التشظيات وخلق جماعة فلسطينية كان وظيفة مهمة جداً في وسائط اللغة المكتوبة والمرئية والموسيقية، وكانت وتيرة النكبة وذكرياتها تُمثّلها لغةٌ أورثت وأنضجت بدءاً من 1948 حتى نهاية عقد الستينيات، أي خلال جيل ونصف، كما عاين ناشف.

وساق تعبيراً دالّاً على ذلك ما قاله الروائي الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا (1919 - 1994) إن "فلسطين وطن من كلمات"، بمعنى أن الأرض فُقدت وما عليها، ولم يبق للفلسطيني في عقدَي الستينيات والسعبينات إلا اللغة كفعل أساسي لتشكيل وإعادة وتوليد الذات.

في غزّة الآن وفي نكبة فلسطين التي تفجرت من جديد، لم تعد اللغة السابقة قادرة ولو جزئياً على التعبير عمّا يجري، إذ نفد مفعولها، كما يتابع. وعليه، فإن أحد التحديات عنده، والتي سنواجهها الآن، هو كيفية التعبير عن الإبادة في غزّة لإعادة توليد ذواتنا، لا كفلسطينيين بل كجنس بشري.


عولمة

تناولت أمل غزال في مداخلتها "الإبادة الجماعية في غزّة: النكبة الفلسطينية وعولمة النكبات" المحورية العالمية التي اكتسبتها النكبة اليوم مقارنة بالأبعاد المحلية والإقليمية التي تحدد النظرة التاريخية للقضية الفلسطينية.

وإذ دعت إلى التركيز على النكبة من منظور اجتماعي وتاريخي لفهم الكوارث المتلاحقة التي حلت بالشعب الفلسطيني، فقد بينت أن استمرارية النكبة وتعددها في فلسطين هو نتاج العقل الاستعماري الاستيطاني، فهناك علاقة وطيدة بين سياقات هذا الاستعمار التي لا تتواصل من دون مجازر ونكبات واستيلاء على الأرض.

ومن أشد ما ما استرعى انتباهها هو الحراك العالمي الذي لا ينظر إلى الفلسطينيين من باب إنساني فقط، بل أعمق من ذلك، لأن فلسطين قضية تتقاطع مع قضايا ومفاهيم نشأت في حقبة ما بعد الاستعمار، وما زالت مثار تفاعل.

وغزال، التي درّست في جامعات كندا، تتابع الحراك الطلابي هناك وفي الولايات المتحدة، وقالت إن الطلّاب من الأقليات العرقية والدينية والسكان الأصليين وأبناء وأحفاد ضحايا نظام الفصل العنصري، جميعهم وجدوا التقاطع الواعي بين قضاياهم وفلسطين.

نظرة جديدة إلى القضية بوصفها حالة استعمارية بعيدة عن الهوياتية

وأشارت كذلك إلى حضور طلّابي من اليهود، ومعهم عرب ومسلمون نظروا إلى فلسطين بوصفها حالة استعمارية بعيدة عن الهوياتية، فهي ليست صراع إسلام ويهودية، بل صراعٌ ضد مشروع صهيوني نشأ في سياق المشروع الاستعماري الغربي لبلادنا.

وختمت بأنّ شجاعة الطلّاب فاجأتها، رغم أنها عرفت في السابق أجواء نقاش وحتى احتجاج، لكن هذه المرة كان الفلسطيني والعربي، وغيرهما من أجانب وليسوا مسلمين، يستعدون لدفع الأثمان دفاعاً عن مواقفهم، وهذا عوّض قليلاً من المأساة التي نشاهدها في غزّة، كما قالت.

المساهمون