موسوعات المُستشرقين: متى نتجاوز التّوثيق؟

موسوعات المُستشرقين: متى نتجاوز التّوثيق؟

14 اغسطس 2022
جزء من لوحة "نابليون في يافا أثناء الطاعون" لـ أنطوان جان جوراس، زيت على قماش (Getty)
+ الخط -

تصدّى غيرُ واحدٍ من الباحثين العرب والأجانب لتحرير موسوعاتٍ عن المُستشرقين، أتَوا فيها على سِيَرهم وإنجازاتهم الفكرية، وأدمجوا طيَّها بعض الانتقادات الخفيفة. وقد كثُرت هذه الموسوعات عددًا حتى باتت تشكِّل ما يشبه الموضوع المعرفيَّ المستقلَّ بذاته، ممّا يدعو إلى درس دوافع هذه التآليف والوقوف على مناهجها وأهدافها، رغم غلبة الطابع التوثيقي عليها.

ولعلّ أوّل من دشّن هذا الحقل التاريخيّ الباحث اللبناني نجيب العقيقي (1916 - 1983) في كتابه: "المُستشرقون" (1964)، الذي حرّره طيلة عقودٍ ثلاثة ليكون من أشمل ما كُتِب في الموضوع، وقد تضمّن سِيَر ما يزيد عن ألف وثمانمئة مستشرقٍ، رتّبها تحت أربعة وعشرين حرفًا من حروف المعجم.

وقد سار الموسوعي المصريّ عبد الرحمن بدويّ (1917 - 2002) على نفس الخطّة في كتابه: "موسوعة المستشرقين" (1991) الذي يغطّي تَراجِمَ قرابة مئة وثلاثين مُستشرقًا ينحدرون من بُلدان أوروبا وأميركا، رُتّبَتْ سِيَرهم حسب النظام الألفبائي وخُصّص لكلِِّ واحدٍ منهم مدخلٌ فيه نبذةٌ عن حياته العِلميّة ولائحة بأهمّ مُنجزاته من كتبٍ ودراساتٍ. ويُختَم المدخل بقائمة منتقاة من المراجع التي تفيد مَن يروم التوسّع في دراسة الشخصية. لكن ما يؤسَف له أنّ بدوي لم يحرّر مقدّمة نظرية لموسوعته يبيّن فيها مواقفه من الاستشراق وظلّ أسلوبه فيها سرديًّا.

ثمّ استعاد المصريّ يحيى مراد في كتابه "مُعجم أسماء المستشرقين" (2004) جهود نجيب العقيقي مُضيفًا إليها بعض السير، وصدّره بمقدّمة موجزة وثلاثة تمهيدات حول ظاهرة الاستشراق وتاريخ هذه الحركة وعنايتها بالتراث العربي. وأردفه بِسيَر تسعة مستشرقين في مُلحقٍ خاصّ.

وأما في الفضاء الغربي، فنذكرُ "موسوعة المستشرقين" (2008) التي أشرف عليها فرنسوا بويون (1947) بمساعدة ثلّةٍ من الباحثين الذين اتّبعوا فيها نفس المنهج الوصفي - التوثيقيّ من حيث ذِكْر سِيَر المستشرقين والمستعربين والإتيان على أعمالهم ومناهجهم بأسلوبٍ وصفيّ. إلا أنَّ هذا العمل تميّز عن الموسوعات العربيّة بالاستناد إلى المصادر الأرشيفيّة التابعة لوزارة الخارجيّة الفرنسيّة، والتي ربّما لم تكن متاحةً وقتها لبدويّ ولا للعقيقي.

إنجاز خريطة معرفية للاسشتراق أجدى من توثيق السير

وثمّة أيضًا "القاموس الثقافي للاستشراق" (2008) وهو بقلم كريستين بالتر (1951)، الباحثة الفرنسيّة في تاريخ الفنون، وفيه جمعت العديد من النصوص المُختارة وتراجم المؤلّفين مع التعليق على أهمّ نصوص الاستشراق. وقد ركّزت على الابتكار الفني والأعمال الأدبية واللوحات والرسوم والألوان معتمدةً الترتيب الألفبائي لتغطية أعمال المستشرقين وموضوعات الاستشراق الرئيسة في المجال الإبداعي، ولاسيّما الرسم، في مسعى لتوثيق نشأة الحساسية الفنية التي تستلهم الشرق وتطوُّرات العلاقة بالآخر في كلّ تنوّعها وعمقها الثقافي بعيدًا عن التفسيرات المُكرّرة.

ولا شكَّ في أنّ قائمة هذه الموسوعات طويلة، والسؤال الذي يُطرح هنا هو سؤال المعايير التي اعتُمدت في تسجيل سِيَر البعض وإقصاء ما سواها، حيث لم توضّح أيّة موسوعة من الموسوعات المدروسة مقاييسَها بشكل صارم، فوقعت في الاعتباط والانتقائية، لأنّ عددَ المستشرقين أكثر بكثير مما ذُكِر، كما أنها اكتفت بذكر عناصر عامّة عن حَيواتِهم وأعمالهم دون إيجاد خريطة معرفية دقيقة تربط بين هذه الأعمال المتناثرة وتردّها إلى مدارسها الكبرى والخطوط المِنهاجية التي حكمتها، حتى تُرصد العلاقات التي انعقدت بين الخطاب الاستشراقي وبين السياقات العلمية الأُخرى، كعلم الاجتماع والفلسفة والتاريخ والحفريّات، ثمّ بينه وبين السياقات السياسيّة التي وظّفت نتائجَه في رسم صورة عن الذات وعن الآخر وهيَّأت للحركة الاستعماريّة.

فقد كان هدف هذه الموسوعات بالدرجة الأولى توثيقيًّا يقوم على التعريف بسِيَر المستشرقين وذكر آثارهم حتى يتاحَ للقارئ الاطّلاع السريع عليها. ولكنّها نادرًا ما سعت إلى إجراء نقدٍ للجذور التي تحكّمت في هذه الأعمال والتي استُغلّت في حقبة التوسّع الاستعماريّ ثم إبّانَ الحرب الباردة، ولا يزال بعض السّاسة وصُنّاع القرار في العالم الغربيّ يَرجعون إليها، مثل أعمال المستشرق الصهيوني برنار لويس (1916 - 2018)، من أجل اتّخاذ قرارات سياسيّة خطيرة.

أمامنا فسيفساء كبيرة لا بدّ من المقارنة بين نتائجها

من جهة أُخرى، لا تفصل هذه الموسوعات في مدى عِلميّة المعارف المقدّمة عن موضوعات الحضارة العربية - الإسلاميّة، ذلك أنّ نتائج المستشرقين، التي يزعمون أنها تمثّل النموذج المعرفيّ الأعلى، لم تُحقّق بعدُ، وبقي جلّها في طور التخمينات والفرضيّات التي لم تخضع إلى نقدٍ علميّ يَفصل القول فيها.

ولا بدّ أيضًا من الاشتغال على مُنطلقات المستشرقين وانتماءاتهم الفكرية والدينية حيث كانت غالبيّتهم من رجال الكنيسة، بمختلف تيّاراتها أو من موظّفي الجيوش الاستعماريّة، ولاسيّما في المرحلة الأولى للاستشراق طيلة القرنَين السابع والثامن عشر.

وقد توفّرُ هذه الموسوعات، رغم طابعها الخطّي - السرديّ، مساحةً مناسبة للبَدء بإعادة قراءة هذا الكمّ الضخم من الأعمال والأبحاث والترجمات التي قام بها "مثقّفون" غربيّون بهدف نقد فهمِهم للشرق ولتاريخه وعاداته "المختلفة". وهو ما نأمل أن يساعد في تجاوز البُعد التوثيقي الذي كَمَن في تجميع هذا العدد الهائل من الأسماء والعناوين التي حوتها هذه الموسوعات.

وهو ما يمثّل فسيفساء كبيرة، لا بدّ من المقارنة بين نتائجها من أجل رسم نقاط الائتلاف والاختلاف بين المدارس والتيّارات والمناهج المتوخّاة؛ لبناء أركيولوجيا معرفية خاصّة بها وتحديد مواطن الاتصال والانفصال بين الفرضيات والتحليلات، وحتى لا تظلّ هذه الموسوعات مجرّد مرجع لا تتعدّى فائدتُه الاستخدام المدرسي والجامعي المتعجِّل.

ويكمن الهدف الآخر لهذه الخريطة في تخفيف حدّة خطاب إدوارد سعيد (1935 - 2005) في كتابه الشهير "الاستشراق" (1978) الذي استغلّته كلّ المدارس الفكرية، اليسارية منها واليمينية، في انتقاد الخطاب الاستشراقي وحتى التحامل عليه أحيانًا. لذلك، قد تساعد هذه الخريطة في تنسيب (من النسبيّة) المواقف من هذا الخطاب الذي قدّم الكثير للحضارة العربية، رغم التوظيفات السلبية لنتائجه ورغم الهِنات الخطيرة والعديدة التي وقع فيها. وهكذا، يكون النقد أكثر اتّزانًا ورصانةً، فلا ينجرّ الباحث إلى الأحكام الذاتية التعميمية، وهو ما وقَع فيه غيرُ واحدٍ من المثقّفين العرب الذين تجنَّوا على كل المستشرقين بلا استثناء، جريًا وراء سهولة الانتقاد.

وهكذا، فصناعة موسوعة نقدية للمستشرقين، وفق خريطة معرفية، أبعد بكثير من توثيق سِير هذه الفئة من الباحثين وأعمالهم الأكاديمية. بل هي بحث ملتزمٌ يعود إلى الجذور الأولى لهذا الخطاب الذي شرّع للاستعمار وقَوّى المركزية الأوروبية بعد أن سوّغ لتفوُّق علماء الغرب على سِواهم، وجعل منهم ذاتًا دارسةً تنظر إلى الشرق كموضوعٍ للتحليل، كما لو كان حضارةً ميّتة أو آيلة للانقراض. تفكيك هذه الخلفية الفوقية هو ما يَجب أن يشكّل الخيط الناظم في موسوعات للاستشراق، أكثر نقديّة وإثارةً للمسكوت عنه في تاريخ هذه الحركة التي امتدت لثلاثة قرون قبل أن تذوب في العلوم الإنسانية.


* كاتب وأكاديمي تونسي مُقيم في باريس 

المساهمون