لماذا الفنّ؟

لماذا الفنّ؟

20 نوفمبر 2023
جزء من عمل لـ ضياء البطل/ فلسطين
+ الخط -

يبدو السؤال الذي أبني عليه سؤالاً عاماً، وهو بالفعل كذلك. إذ ليس من إجابة محددة وحاسمة ومتفق عليها تقول لنا بالضبط لماذا الفن ضروري في حياتنا؟ وعدا عن ضرورته؛ ما أفكر فيهِ حيال القضية الفلسطينية؛ لماذا الفنّ واجب؟ لماذا وجود الفن بذاته أخلاقي؟

ما يدفعني إلى تصدير الفن باعتباره لصيقاً بالموقف الأخلاقي للمرء، هو الحديث عن الفنّ الذي يصدر عن الضحايا أي أصحاب القضيّة السياسيّة. وبشكل خاص هنا، أقصد الفنّ الفلسطيني؛ شعراً ورواية ورسماً وفنوناً شتى، مع التأكيد أنَّه لا يمكن إغفال ما تمثله فلسطين من أبعاد الاضطهاد الاستعماري الذي تقوم به سلطة الاحتلال ضدَّ أصحاب الأرض.

تتفق المدارس النقدية على أنَّ على السرد أن يكتنف معرفة ما، فكيف لنا أن نعزل المعرفة التي يجب أن يكتنفها السرد عن الموقف الأخلاقي الذي يتوجَّب على المرء أن يأخذه إزاء قضية فلسطين؟ بعد عقود طويلة على احتلال أرض هذا الشعب، وتشريد أهله في بلدان اللجوء وفي العالم، فإن الفنون الفلسطينية ساهمت في بقاء هذه القضية صاخبة في ضمائرنا، إلى جانب النضال الفلسطيني الذي أخذ أشكالاً مختلفة منذ بدء هذا الصراع الذي في أساسه ينطوي على صراع سرديات عمن يمتلك الأرض. بهذا المعنى، يصعب تخيّل بقاء القضية الفلسطينية صاخبة تصرخ في الوجدان بغياب غسان كنفاني (1936) وناجي العلي (1937) على سبيل المثال.

يدرك الصهاينة جيّداً خطورة الموقف الذي يتبناه الفنّ

في الفنّ الفلسطيني ضرورة. وتتأتى هذه الضرورة من أخلاقية الموقف، ومن وضوحه، إلى جانب وقوفه على فنيّة من درجة ما. يعرف الصهاينة خطورة الموقف الأخلاقي الذي تتبناه الفنون، التي تؤخذ بشكل مبدئي بمسائل العدالة والحرية وحق البشر في تقرير مصيرهم، أمر يفسّر - مع وحشية الصهاينة - اغتيالَهم لغسان كنفاني (1972) وناجي العلي (1987). فالصهاينة يعرفون أكثر ممَّا يعرف بعض العرب خطورة الموقف الذي يتبناه الفنّ، وخطورة السردية التي ينطوي عليها الفنّ، بأن يجعل أثرها يمتد خارج اللغة المكتوب بها، وخارج جغرافيا فلسطين، وعبر الأجيال وفي الثقافات المختلفة. فهي سردية ما إن تصير لصيقة بالفنون الجيدة، ليس بالسهولة محاربتها. وإن انطوت على فنيّة عالية، تصبح سردية خالدة، تعيش حتى بعد زوال الاحتلال.

من اعتبارات الضرورة الأخلاقية نفسها، لا يمكن أن يمر التطبيع الثقافي مع كيان الاحتلال على الثقافة ككل. قد تحدث اختراقات بين كاتب وآخر (غالباً من كتّاب الدرجة الخامسة)، لكن أيًّا كان شأن الكاتب الذي يعتقد بسهولة أن يمرَّ التطبيع مع الاحتلال، فهو بلا وزن، لأنَّ الثقافة والفنون ولو أن فرسانها أفراد، إلا أنَّها تتفاعل في المناخ العام للناس. والتطبيع بضاعة يرفضها الناس، لا يريدونها، لا يشترونها، خاصة وهم يرون مقتل إخوتهم وتهديد أوطانهم، عدا عن أنَّ الثقافة تمثّل، حتى بالنسبة إلى الشعوب، حصناً يتيح لهم النجاة من سفالة السياسة العالمية والمحليّة.

فنياً يصعب قبول التطبيع. يصعب إدراج الاحتلال في نسيج السرد، إلا بوصفه قوة احتلال، بوصفه دخيلاً ومعتدياً ومُستعمِراً. إذ من آليات عمل الفن، أن يفكك موضوعه، ويعيده إلى بداهته المثلى قبل أن يغرقه الواقع بشروطه. وفي الحالة المثلى التي لا مناص أمام الكاتب من الاعتراف بها والبناء عليها، فإنَّ فلسطين أرضٌ كان فيها ناسٌ آمنون، جاء إليها الصهاينة من أصقاع الأرض، استوطنوا فيها، بعد أن هجَّرت عصاباتهم الإرهابية الناس، واستولوا على بيوتهم، وقد أعلنوا أنفسهم دولة بمساندة أنظمة الدول الغربية... لكن مهلاً، أكاد أؤخذ بالتاريخ، ويكفي لتفكيك السردية الفلسطينية أن نفتح التلفاز الآن، ونشاهد جرائم الاحتلال ضدَّ الناس، ونرى تهجيرهم خارج بيوتهم، ونرى الغطاء السياسي الغربي. التاريخ هنا يعيد نفسه، دائماً كمأساة، والفن ضرورة أخلاقية، لأنَّه صوتُ مأساتنا.  


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية

المساهمون