عندما تكبّل السياسةُ الثقافة

عندما تكبّل السياسةُ الثقافة

16 ابريل 2024
الشرطة الألمانية تُوقف بالقوة "مؤتمر فلسطين"، برلين، 12 نيسان/ أبريل 2024 (Getty)
+ الخط -
اظهر الملخص
- جامعة كولونيا الألمانية ألغت دعوتها للفيلسوفة الأميركية نانسي فريزر بسبب توقيعها على رسالة تدين الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين، مما يعكس تقييد الحريات الأكاديمية والثقافية في الغرب خاصة ضد منتقدي إسرائيل.
- الضغوط السياسية والمالية تؤثر على المشهد الثقافي والأكاديمي، حيث تم استجواب وإطاحة رئيسات جامعات أميركية بسبب مواقفهن من إسرائيل، مما يشير إلى تراجع حرية التعبير.
- العدوان على غزة يبرز السياسات الغربية التي تبرر العنف ضد المدنيين، لكن تظل هناك أصوات تدافع عن العدالة وتحاول إعادة الاعتبار للثقافة كضمير للأمم، مما يثير التساؤل حول تغلب الثقافة على السياسات العنصرية.

ألغت "جامعة كولونيا" في ألمانيا مؤخّراً دعوتها للفيلسوفة الأميركية نانسي فريزر كأستاذة زائرة، بسبب موقفها من الحرب على غزّة، فقد كان من المُقرّر أن تشغل كرسي الأستاذية. برّرت الجامعة هذا الإلغاء بسبب توقيع الفيلسوفة على رسالة "الفلسفة من أجل فلسطين" التي تُدين الإبادة الجماعية التي تنهجها "إسرائيل" في حقّ الفلسطينيِّين.

ليس هذا غريباً أبداً خاصة في ألمانيا، فما أصبح يُقال، إن برلين فقدت وصفها كعاصمة دولية للثقافة، بعدما ألغت جوائز ومِنَحاً ومؤتمرات ومهرجانات ومسرحيات، وطردت وهدّدت، وأوقفت عن العمل موظّفين بتُهمة مُعاداة السامية، لمجرّد المطالبة بوقف إطلاق النار في غزّة.

من يوم إلى آخر تتكاثر الأمثلة المُعبّرة عن انصياع الثقافة للسياسة، طوال فترة تجاوزت الأشهر الستّة للحرب على غزّة وفي ازدياد، سُجّلت خلالها تراجُعات مُحبطة، انحدر فيها مسؤولو الثقافة الرسمية إلى الدفاع عن النقيض لحرّية التعبير، انسجاماً مع سياسات عِدائية باتت في أدنى مستوياتها، تلزم الثقافة بخطوط حمراء، ليست إلّا نفاقاً وتكميماً للرأي، تحت شتّى المزاعم الجائرة كسلاح تسعى به إلى تخويف وإسكات شرعية انتقاد "إسرائيل" وسياسات الدول الغربية، بلغت مُبكّراً حدوداً خَطرة في استجواب رئيسات أهمّ ثلاث جامعات أميركية، هي: "هارفارد" و"بنسلفانيا" و"معهد ماساشوستس للتكنولوجيا"، وتعدّ إطاحتهنّ مثالاً مكارثيّاً على تحكُّم سياسيِّين بلا ضمير بالحرّيات الجامعية، تحت ضغط مليارديرات المانحين من ذوي النفوذ السياسي.

هل من أمل أن يتغلّب وجه الثقافة النبيل على سياسات العنصرية؟

ويُمكن الإشارة في فرنسا إلى سحب دار "فايارد" من التداول كتاب المؤرّخ إيلان بابيه "التطهير العِرقي في فلسطين"، بذريعة أن العَقد انتهى. كذلك في ألمانيا سحبت "مؤسسة هاينريش بل"، وأيضاً مدينة بريمن دعمهما لـ"جائزة حنا أرندت" لتشبيه الكاتبة ماشا جيسن غزّة المُحاصرة بالحيّ اليهودي في وارسو، بمقال نُشر في مجلّة "نيويوركر".

هذه الأمثلة تُعتبر غيضاً من فَيض جارف لم يسلم منه العالَم، وكلّها على هذا النمط من المُصادرات الفجّة، تُحاول تقييد النقاش العامّ إعلامياً وأكاديمياً حول "إسرائيل" وفلسطين، وفي تزايُد مع ارتفاع وتيرة الهجمة الإسرائيلية المتعطّشة للقتل والتدمير مع ساديّة قلّ نظيرُها في عالَم الحروب، ما أدّى إلى انكشاف الصندوق الأسود الإسرائيلي. فالمجازر منحَت العالَم مشهديّات قاسية على الأرض، تجلّت في بدائية الثأر والانتقام باستعمال شتّى الأساليب والوسائل، في تحويل القتل اليومي والإعدامات والتعذيب والخراب إلى هدف إسرائيلي وحيد، تُكرّس له الموارد العسكرية والمالية والدبلوماسية والتكنولوجية والدعائية والذكاء الصناعي، سواء لتحقيقه، أو الدفاع عنه، كذلك تبريره، ما يحتاج من "إسرائيل" إلى قدر هائل من الأكاذيب للتغطية عليه، تُشاطرها البلدان المؤيّدة والمتواطئة على إنكاره.

مُصادرات فجّة تُحاول تقييد النقاش العامّ إعلامياً وأكاديمياً

وما دام الفعل يُعتبر صواباً سياسياً في "إسرائيل"، فهو صواب سياسي في الديمقراطيات، ولو كان في قتل الأطفال والنساء ومنع المساعدات، بل ويعتبر التجويع انتصاراً. باتت في النهاية تُسوّغ عن عمد دعاوى حرب همجية، بالدّفاع عن النفس، لا يُمكن النظر إليه إلّا على أنه هدف بربري، لتجاهله ما أثارته نقاشات في فلسفة الأخلاق، فالأخلاق الإنسانية ليست في عُهدة اليمين ولا اليسار، ولم تكن يوماً احتكاراً للرُّوس، ولا صنيعة الغرب، إنها توجه إنساني حرٌّ وخلّاق. تناولت مسألة الحدود المسموح وغير المسموح بها من ناحية أخلاقية أو نفعية، وما اتّفق حوله هو عدم التسبب بمعاناة الآخرين، طالما أن الحدود هي المُعاناة الإنسانية.

إبراز ما يُؤدّي إليه انعكاس السياسة على الثقافة، يضع سمعة الغرب العريق في الديمقراطية والحرّيات موضع التساؤل. إن التعليق على السؤال، يُحيلنا قبل الجواب إلى أن الغرب عريق أيضاً في الاستعمار ونهب الشعوب وارتكاب المذابح ومساندة الدكتاتوريات... فهل هناك أمل في أن يتغلّب وجه الثقافة النبيل على الوجه البشع للسياسات العنصرية؟  

كشف العدوان على غزّة حتى الآن عن الوجه الأكثر شرّاً للسياسة الغربية، التي ذهبت في مباركتها لـ"إسرائيل" إلى لا أقلّ من غضّ النظر عن الإبادة الجماعية. ولولا أصوات شجاعة لمثقفين حقيقيين تُدافع عن عدالة القضية الفلسطينية، لاعتقدنا أنّ الضمير لا وجود له، كذلك لولا دولة جنوب افريقيا و"محكمة العدل الدولية" لاعتقدنا أن العالم يخلو من أيّ معيار أو إحساس بالعدالة تحت هيمنة أميركا وهيستريا الآلة العسكرية الصهيونية.

بالعودة إلى الغرب. صحيح أن ألمانيا بلد عباقرة الأدب والموسيقى والفلسفة والمسرح، لكنّ هذه الثقافة العظيمة، لم تستطع منع النازية من ارتكاب الهولوكوست. أمّا لماذا، فليس عسيراً إدراك أسباب هول هذا الحدث، فعندما تتحكّم السياسة بالثقافة، كما الحال اليوم، فالسياسة ترتكب مجازرها الثقافية في طريقها إلى استعادة الهولوكوست في غزّة. 

فلنتذكر؛ الثقافة ضمير الأمم.  

* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية

المساهمون