شهر إسماعيل كاداريه.. كاتب النظام الشمولي المدلّل

23 فبراير 2021
إسماعيل كاداريه في شقّته في العاصمة الألبانية تيرانا، 2019 (Getty)
+ الخط -

يشكّل بلوغ إسماعيل كاداريه الخامسة والثمانين من العمر (من مواليد 1936) مناسبةً أنتجت ما يمكن تسميته بـ"شهر كاداريه" في الصحافة الألبانية، التي تنشر منذ أيّام مقالاتٍ ونصوصاً من وجهات نظر مختلفة حول الكاتب، رغبةً، ربّما، في التعويض عن عدم فوزه بـ"جائزة نوبل في الأدب" لعام 2020، وهو من المرشّحين الدائمين لها منذ أربعين سنة. ومع أنّه غدا من المعروف أنّ السبب في عدم نيل كاداريه الجائزةَ يعود إلى العلاقة الوثيقة التي كانت تجمعه برأس النظام أنور خوجا (حكم البلاد من 1944 حتى وفاقته عام 1985)، إلّا أنّ "الأكاديمية الألبانية للعلوم" افتتحت "شهر كاداريه" بالتأكيد على إعادة ترشيحه لـ"نوبل في الأدب" لعام 2021، في رسالة وجّهتها إلى الأكاديمية السويدية.

ومع هذه الرسالة التي تكرّرها الأكاديمية الألبانية، حفَلَ "شهر كاداريه" بعشرات المقالات والشهادات من كتّاب مجايلين لكاداريه، يمثّلون "ضحايا" اهتمام أو "تدليل" النظام الشمولي له ــ والذي تقلّد فيه منصباً رفيعاً (نائب رئيس "الجبهة الديمقراطية" ــ الواجهة الشكلية لحكم "الحزب الشيوعي") ــ ومن كتّاب آخرين معروفين في أوروبا اليوم، يمثّلون الجيل اللاحق لجيل كاداريه، والذين، للأسف، لم يُترجموا إلى العربية. كما انضمّت إلى هذه المنشورات اعترافاتٌ جديدة لكاداريه نفسه، وردت في كتاب نشرته الكاتبة ألدا بارذيلي في عيد ميلاده الخامس والثمانين (28 كانون الثاني/ يناير) بعنوان "كاداريه: زمن الاعتراف"، وهو حصيلة حوارات مطوّلة معه بدآها عام 2017.

علاقةٌ تكاملية جمعته بأنور خوجه، رأس النظام السابق

من بين ما كُتب خلال "شهر كاداريه"، ثمّة أمورٌ عدّة تستحق التوقّف عندها لأنّها توضح بعض الجوانب الإشكالية في حياة وأدب الكاتب المتنوّع بين ما وضعه خلال فترة حكم النظام الشمولي (حتى 1990)، وما ألّفه بعد ذلك، بين ألبانيا وفرنسا، اللتين يوزّع بينهما شهور السنة بالتساوي.


من "نوبل" إلى حكاية "الكاتب المنشقّ"
جرت العادة أن يخرج كاداريه، كلّ عدّة سنوات، بتفسير جديد عن عدم فوزه بـ"نوبل". وقد صرّح، هذه المرة، بأنّ السبب في ذلك يعود إلى أنّ السفير الألباني الجديد في السويد وجّه رسالة إلى الأكاديمية السويدية يبيّن فيها علاقة الكاتب بالنظام الشمولي السابق، الذي أنفق الكثير على ترجمة رواياته إلى اللغات المختلفة، حتى شاع عنه لقبُ "كاتب البلاط" عند بعض ضحايا النظام الشمولي من الكتّاب الذي قضوا حياتهم في السجن أو واجهوا الموت البطيء. ولكنّ السفير الألباني المقصود ردّ بشكل علنيّ على كاداريه مطالباً إيّاه بإثبات ذلك، في وقتٍ أصبح الوصول فيه إلى الوثائق متاحاً في ألبانيا الديمقراطية، لا سيّما أنه من المفترض بالأكاديمية السويدية أن تحتفظ بمثل هذه الرسالة المزعومة، إن وُجدت.

من المعروف أنّ كاداريه غادر ألبانيا إلى باريس في الأيام الأخيرة من عمر النظام الشمولي، الذي تصدّع نتيجةً لربيع أوروبا الشرقية. ومع أنّه قيل آنذاك إنه "انشقّ"، وأنّه باتَ يُعرف كـ"كاتب منشقّ"، بفضل تعويمه في الغرب، إلّا أنّ ما كُتب عنه لاحقاً حوّل هذا اللقب إلى منبعٍ لإشكاليّات ليست لصالحه، ما دفع إلى التوقّف عن إطلاقه. وقد مثّل "شهر كاداريه" فرصة لإعادة طرح الأمر بصورة جديدة، حيث طُرحت أسئلة لم تكن تطرح في السابق: بماذ كانت تختلف ألبانيا عن تشيكوسلوفاكيا والاتّحاد السابق آنذاك، ولماذا لم يكن في ألبانيا كتّاب مثل هافل وسولجنستن؟ بكلّ بساطة، كانت ألبانيا، حتى 1990، آخر "قلعة للستالينية" في أوروبا، ولذلك كانت تمثّل "الغولاغ" الحقيقي والأخير في القارّة، بما لا يدع مجالاً لإطلاق صفة الـ"انشقاق" على ما حصل مع كاداريه، مقارنةً بما جرى للعشرات من الكتّاب بين موت سريع (الإعدام) أو بطيء في السجون. 

وقد حسمت هذا الأمر الكاتبة ألدا بارذيلي، التي نشرت مقاطع من كتابها المذكور في صحف ألبانية معروفة، وكُتبت عنه عروضٌ مختلفة. وفي لقاء معها نشرته جريدة "بانوراما"، الأكثر انتشاراً في البلد، منتصف هذا الشهر، اعترفت المؤلّفة صراحةً بأنّه لا مجال للمقارنة بين أوروبا الشرقية وألبانيا فيما يتعلّق بهامش الحرية للكتّاب، ولذلك، فهي ترى أن "كاداريه ليس كاتباً منشقّاً"، لأنّه كان يعيش "في ألبانيا، حيث ينتهي الأمر بالكاتب "المنشقّ" إلى السجن أو الموت. ولذلك لا مجال لظاهرة كهذه".


كاداريه نموذجاً لـ "الكاتب المدلّل"
من المقالات اللافتة حول كتاب بارذيلي، ما نشره الكاتب لوئر كومه في جريدة "بانوراما" أيضاً، في السابع عشر من الشهر الجاري. ينطلق الكاتب في مقالته من أنّ نجْم كاداريه صعد في وقت عرف الأدبُ فيه اهتماماً كبيراً، ولذلك كانت روايات كاداريه تُطبع بعشرات الألوف من النسخ وتنفذ بسرعة، على عكس ما يحصل اليوم. 

وكان ذلك يُفَسَّر بآليات النظام الشمولي الذي يمكن له أن يرفع كاتباً إلى القمّة أو النجومية أو أن يهوي به إلى الحضيص (السجن أو الموت). كان رأس النظام، أنور خوجا (1908 ـ 1985)، من المتابعين للأدب بحكم دراسته في فرنسا، ومن المعجبين بإسماعيل كاداريه، طالما أن الأخير كان يخدم النظام بأعماله، ومنها روايته الضخمة "الشتاء الكبير" (1977) التي تناول فيها الخلاف الأيديولوجي بين القيادتين الألبانية والسوفييتية، وخلّد فيها شخصية خوجا المقاوِمة للقيادة السوفييتية، التي باتت تُعرف بـ"الإمبريالية السوفييتية" في القاموس الألباني الخوجوي.

أعادت "الأكاديمية الألبانية للعلوم" ترشيحه لـ"نوبل" 2021

ومع هذا الإعجاب، توّلدت علاقةٌ خاصّة بين رأس النظام والكاتب، وفّرت له مساحةَ حريّةٍ إضافية ومساحةَ أمانٍ كانتا تحميانه، من حين إلى آخر، من مضايقات "حرّاس" الواقعية الاشتراكية وحسَد زملائه الكتّاب الذين كانوا محرومين من الامتيازات التي كان يتمتع بها، ومنها حرية السفر إلى الخارج في الوقت الذي كان فيه الكتّاب الآخرون يحتاجون إلى إذنٍ للانتقال من مدينة إلى أخرى في ألبانيا. 

يحاول كاتب المقال تفسير هذه العلاقة بين أنور خوجا وإسماعيل كاداريه (اللذين ولدا في مدينة صغيرة في جنوب ألبانيا: جيروكاسترا) بكونها تكامليّةً، تقوم على مبدأ "الألتر إيغو" أو "الأنا الأُخرى" أو "البديلة". فخوجا كان يرى في كاداريه ما يحبّه وينقصه (الأدب)، وكاداريه يرى في خوجا ما يحبّه وينقصه (السلطة والنجومية). وهنا، يحيل كومه إلى تساؤل مؤلّفة الكتاب: مَن لم يستطع مقاومة إغراء السلطة المستبدة التي تملك الحياة والموت؟ ولذلك ينتهي إلى أنّ كاداريه كان عليه دفع "تنازلات" صغيرة للنظام لكي يحظى بـ"الدلال" ويتمكّن من الاستمرار وكتابة رواياته التي لم تكن لتمرّ لو كان مؤلّفها شخصٌ آخر غير كادريه، ولا سيّما روايةٌ مثل "قصر الأحلام".


ضوء في نهاية النفق
ضمن الشهادات التي قدّمتها أسماءٌ من الجيل اللاحق من الكتّاب، والذي برز في المظاهرات ضدّ النظام الشمولي ثم في النظام الديمقراطي الجديد بعد 1990، ثمّة شهادة مهمّة للروائي والسياسيّ بسنيك مصطفى، الذي تصدر روايته "ملحمة صغيرة" بالعربية قريباً. 

في هذه الشهادة، المنشورة أيضاً في صحيفة "بانوراما"، نهاية الشهر الماضي، يعترف مصطفى، الذي كان يمثّل الجيل الجديد الملول من الواقعية الاشتراكية والمتعطّش للتعرّف على الأدب الأجنبيّ، أنّ هذا الهامش المتاح لكاداريه بفضل علاقته مع رأس النظام كان يمثّل "ضوءاً في نهاية النفق" للجيل الشاب ــ الذي ستُتاح له الحرية الكاملة بعد 1990 ــ لكي يُبدع ويمثّل ألبانيا الجديدة، التي وُلدت بإزالةٍ غاضبة لتماثيل ستالين وخوجا وما كانت تمثّله بالنسبة إلى الأدب.


* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون