حدائق العاشق (9): الطائر الحجري

05 اغسطس 2023
تفصيل من عمل لـ محمد عتيبي/ السودان
+ الخط -

ننشر على حلقات رواية "حدائق العاشق"، للشاعر والروائي والناقد الراحل محمد الأسعد الذي غادر عالمنا في سبتمبر/ أيلول 2021، وكان من طليعة كتّاب القسم الثقافي في "العربي الجديد"، وأحد أبرز كتّاب فلسطين والعالم العربي.


"حينما يتعب الأصدقاء
يتحوّلون إلى شجر وحانات
وطيور من ماء
تتساقط في الماضي".

الطائرُ الحجريّ الملوّنُ ما زال يُلحّ عليه. طائرُ الطفولة والقروش القليلة. ترَكهُ ولم يعُد إليه. نَسِي وجوده. يعود إليه فينظر من دون أن يعرف ما يراه حقاً. هل كان مُجرّدَ فكرة، أم شيئاً ملموساً من فخّار تُغطّيه طبقةٌ ثقيلة ملوّنة. وكيف كانت هيئته؟ منقاره؟ ألوان جناحيه؟ وهل كان بقدمين؟

تلك الليلة حتى أوائل الفجر، والمصباحُ نصف مُعتم، شاهدها تحت مسقط الضوء، هي والطائر بين يديها تقلّبه مُتسائلة، وحولهما ظُلمةٌ فاحمة.

الكتبُ صامتة. "فجرُ الضمير" وحده. لم يتناول غيره منذ اليوم الأول. في الخارج يعيش الشجرُ على السور الحديدي وحشتَهُ، مُحدّقاً في الشارع الخالي، يسمع أحياناً صوت قذيفة بعيدة يملأ الفضاء. فيرتجّ الزجاج. الطفلان هادئان في سريرهما. هو أقلّ هدوءً. إلّا أنه لا يعرف أين يضع هذه الفكرة أو تلك. هذه الصورة المُظلّلة أو تلك. ما الذي يهتاجُ في هذا البحر المُضطرب من الكتب والوجوه والأمكنة. أمسياتٌ بعيدة ماطرة. ساحاتُ مدن يتطاير فيها الحَمام الآن. مطاعمُ على البحر في الظلال ونسيم الظهيرة يهبُ في سكون.

عبرّتْ جين عن يأسها منذ زمن طويل. فالثورةُ أسطورةٌ ووَهْم. 

قالتها بإشفاق أمٍّ تتمنّى أن تنقذ طفلاً من حريق لا تملك أمامه شيئاً.

كتبتْ له من التيبت، من دير جبَلي يستطيع أن يتخيّل قُربه من السماء وبُعده عن الأرض، عن السلام الذي يفيض عليها الآن، عن النأي الدافئ فوق هضبة باردة. سقف العالم كما تقول.

لم تعُد تحلم بغابةٍ وأطفال. ففي عُمق اليأس وصلت إلى الأقصى، إلى أنوار آتية من لا مكان. يُضحكها لقبُ كاتبة عمود أسبوعي كانت تحشد فيه يومياتها: "أحببتُ فيلسوفاً مُدهِشاً... شاعراً يحبّ الموسيقى... لا تتركوا الناس ينتظرون طويلاً أمام أبواب المطارات... دعونا نستكشف هذه الحفلات الجماعية... يسألني ويست أُريد أن أُشاهد هذا الذي جعل النجوم تلتمع في عينيك". وفوق كلّ هذا تظهر صورتُها المُعابثة بابتسامة عريضة لشفتَين رفيعتَين وخدّين بارزَين وعينين يظلّلهما شعرٌ كستنائي قصير حتى الأذنين.

فيضٌ يشمل الكون كلّه، فيض أبدي لا مكان فيه للتكوّن والزوال

جين الآن بشعرها الطفولي هذا، شعرها الذي أثار حنانُه وهي تنتحب، أو وهي تغمض عينيها، أو وهي تشهق وترتجف وترتخي، جين هذه ترتدي الآن الثوب الزعفراني وتركع بهدوء وسُكون أمام بوذا الوادع، وعينيه المُسبَلتين وجبينه المتوّج بلمعة ذهبية، وبين يديها أزهار جبَلية حمراء... مُضحِكة... بريئة... يائسة... ربما. 

- "لا تعتقد أننا نعبد الأحجار أو البرونز أو الصور، إن هي إلا وسائل تساعدنا على تركيز أفكارنا، تركيزها حتى الحدّ الأقصى. ولماذا؟ لنصل إلى عمق وجودنا، إلى النبع الأول الذي تنطلق منه كلّ الكائنات، إلى اللحظة التي يفقد فيها الإنسانُ إحساسه بأناة، يصير مرآة، ومضة ممتزجة بفيضٍ أكبر وأوسع. فيض يشمل الكون كلّه. فيض أبدي لا مكان فيه للتكوّن والزوال. وحده الكائن". 

ناجي يرقدُ في مقبرة بريطانية بعيدة تحت عُمق ثلاثة أمتار. وضعوا شاهداً رخامياً أم لم يضعوا، الأساسي أنه ضاع إلى الأبد، رغم أننا نقول إن الأشجار تتمايل مُشذبةً فوقه، فوق الأرض التي نحبُّ، هناك على جوانب طُرقات مرصوفة تحفّ بها الأزهار، وتخترق شواهدَ القبور الحجَرية مثل متاهة خضراء.

غالب تحوّل إلى سديمٍ. لم أتخيّل يوماً أنه سيتحوّل إلى سديم بهذه السُّرعة لشدّة براءته وبساطته ووضوحه. مشهدُه كعملاقٍ يتجوّل في ساحة بيته الدمشقي الخالي يُوحي بأنه سيظلّ كذلك دائماً. لم يعد موجوداً الآن في أيّ مكان حتى تحت الأرض حيث لا يحتمل الغموضُ، ولا تطيق العتمةُ، ولا يفهم الترابُ كلّ هذه البراءة.

أيُمكن أن يذوب كلّ هذا في العتمة والوحشة؟ لا شكّ في أنّ لنا أمكنةً أُخرى نمضي إليها بعيداً عن الجسد المُلقى على سرير مستشفى. لا شك في أنه تحوّلَ إلى كائن خفيٍّ.

في هذه اللحظات، يتّسع الفقدان، يتحوّل إلى فضاءٍ شاسع يجهل فيه كوكبٌ ما يحدث في المجرّة المُجاورة. هل هناك بالفعل كواكب أُخرى، أم أنّ الأصداء ليست سوى همساتِ سديم آخر ضائع؟

بماذا يتعلّق الإنسان الذي يطوّقه الفقدانُ ويُغرقه؟

الحديقةُ هي كلّ ما يَذكُر. المقعدُ الطويل. المقاعد المُتناثرة الخالية أمام أحواض الشجيرات الصغيرة. في ذلك الصيفِ تخيّلَ طائره الملوّن موجوداً. لا بد أنه في مكان ما من هذه الحديقة أو هذا البيت. كم هي قريبة من قلبه هذه المرأة. ودَّ لو يركع قريباً من قدميها، وهي عند أطراف الفجر، ويرجوها أن تأخذه ليبحثا عن طائره الملوّن. طائره الحجري البعيد.

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون