إنسانية واعدة

إنسانية واعدة

17 سبتمبر 2023
شيخٌ مغربي يتأمّل الدمار الذي أحدثه الزلزال في الحوز، 14 أيلول/ سبتمبر، 2023 (Getty)
+ الخط -

1

من أين تبدأ الكتابة عن زلزال الحوز؟ أو عن أيّ فاجعة طبيعية، لا أحد يتنبأ بوقوعها، مثل فيضان درنة الذي وقع في فترة متقاربة مع الزلزال؟ هل تبدأ من الطبيعة، من الدمار والأنقاض؟ من الضحايا، الأموات، الجرحى، المعطوبين، الأرامل، الأيتام؟ من ردود فعل الناس، القريبين والبعيدين، من حدادهم وتضامنهم؟ من الخطابات الجارية كمياه الأنهار الكبرى، بل مياه البحار في مدّها وجزْرها؟

سؤالٌ يتمرّد عليّ، وأنا متوثّبٌ، خارجٌ من ذاتي، فاقد القدرة على معرفة ما أنا فيه. أتكلّم كما لو كنت لا أتكلّم. كأنّني لم أصْحُ بعدُ من مآسي هذه السنة. وكيف لي أن أسترجع المآسي المتوالية، التي تتفرّع من فلسطين ولا تتوقّف، هناك ـ هنا؟ مآسٍ يستحيل أن أتخطّاها. أحياناً أقول: هذه طريق الحياة. لكن كيف لكَ أن تتحمّل سيول المآسي، وفي نهاية الأحزان، تتنفّس من أسفل الأحشاء وأنتَ في نفسك تُخفي ما تقول لنفسك: هذه طريق الحياة؟ لعلّك تبتسم، لأجل لا شيء.


2

الحوز، أرضٌ وجبالٌ وضوءٌ وثلوجٌ ومياه وأغراس. سكّانٌ نشأوا وعاشوا هنا، قروناً بعد قرون. فقيرون، قُراهم في حالات عديدة معزولة، أغلب بيوتهم من عشب وطين، وهُم في وعورة جبال الأطلس الكبير الشامخة يبدأون كلّ يومٍ حياتهم. تحضر السماء في كلماتهم كما تحضر الأرض. والأطفال المحظوظون يقطعون المسافات الطويلة للالتحاق بأقسام الدراسة. لا يتعبون.   

في مركز الحوز تحناوت. هناك، في تلك المدينة الصغيرة، استلمتُ، منذ سنوات، أبجدية عشق أن أمشي فوق التربة الحمراء وأنا أرفع رأسي إلى الأعالي كي أشاهد الكون، تغمره الحياة، في بقعة هي مقام الجمال، هي مقام السكينة وهي مقام القناعة. تحناوت. أرضٌ لكلّ من يختار العلوَّ. طريقة في رؤية الذات والآخر.

رغبةٌ جامحة في أن أكون هناك، إلى جانب هؤلاء المفجوعين

طيلة فترة الصيف كنت على تواصُل مع صديقي الفنّان محمد المرابطي، الذي كان يخبرني، وهو هناك، في تحناوت، بتكيّفه مع درجات الحرارة الحارقة. ينامُ النهار ويستيقظُ الليل. هكذا كان يشرح لي برنامجه اليومي. كنتُ معه أحسّ بأنّي قريبٌ من تحناوت ومن الحوز، وبأنّي أتسلّق المرتفعات الجبلية التي خبرتها. مع مطر اليوم الأول من سبتمبر، استعاد صديقي نشاطه وفرحَه بالحوز.

ثم ظهر الخبر، في الساعات الأُولى من صباح السبت، على شاشة الهاتف المحمول. كنت لا أزالُ في أشقار بطنجة، أستعدُّ للعودة إلى المحمّدية. خبر في صيغة رسالة واصلة عبر واتساب من مهندس جيولوجي يحذّر فيها سكّان الدار البيضاء ونواحيها من عواقب الزلزال. كنتُ قضيتُ ليلتي، كالعادة، على إيقاع أمواج المحيط الأطلسي. وبمجرّد ما أبصرتُ الرسالة لم أنتظر الصحو الكافي من النوم. فتحتُ على التوّ الرسالة وقرأت. قرأتُها مرتَّين لأفهم، لكنّها بدت غامضة، لأنّي لم أعرف عن أيّ زلزال يتكلّم السيّد المهندس الجيولوجي. فأنا لم أشعر خلال ليل طنجة بأيّ حركة غير اعتيادية في أرض الشقّة ولا في سقفها أو جدرانها. كانت حديقة وممرّات الإقامة ساكنة، والصباح أهدأ ممّا كان حتى آخر أيام عطلة الصيف.


3

بعد الرسالة، أخذتْ أخبار الزلزال تصل، وابلاً من الأخبار. وها هي الصور الأُولى للفاجعة تنتقل من قناةٍ إخبارية إلى أُخرى. رسائل أخذت بدورها في الورود من المغرب تسأل وتريد أن تطمئنّ عليّ وعلى العائلة. زلزال المغرب أصبحت أخباره معمّمة في القنوات التلفزيونية الدولية، والإذاعات، والصحف، وفي وسائل التواصل الاجتماعي. فاجعةُ الزلزال. ثمّ رسائل الأصدقاء عربياً من مصر، البحرين، تونس، الجزائر، السعودية تتقاطع مع رسائل أصدقاء من إنكلترا، فرنسا، إسبانيا، ألمانيا، إيطاليا، الولايات المتّحدة الأميركية. ثلاثةُ أيام استمرَّ فيها وصول رسائل الأصدقاء التي تتضامن مع المغرب ومع الضحايا وتسأل عنّي وعن العائلة. لم ينقطع بين أصدقاء وبيني تبادل صور وفيديوهات وتقارير وبرامج تلفزيونية وإذاعيّة خاصّة بالزلزال. كلُّ واحدٍ منّا مشدودٌ إلى الأخبار المؤكّدة، بعد أن شاعت أخبارٌ مقيتة. وفي كلّ حديث قطعة من إحساسنا بالألم، لما نعرف عن المنطقة وعن أهلها المنكوبين.

رغم أنَّ المغرب ليس بلد الزلازل، كاليابان التي هي نموذج لأراض تتعرّض لها على الدوام، فهو عرفَ زلازل راسخة في الذاكرة المغربية، كما هي محفوظة في مختبرات الجيولوجيين في الجامعات ومراكز البحث العالمية. زلزال 1755 الذي ضربَ الرباط، حيث سقط الجزء الأعلى من مئذنة مسجد حسان وتقوَّض بنيانُه باستثناء ما تبقّى من السواري. خط الزلزال امتد من البرتغال وإسبانيا إلى طنجة فالرباط، ثم آنفا، آسفي وأغادير. أثرُ هذا الزلزال أصبح من علامات العمارة التاريخية في الرباط. زلزال أغادير سنة 1960. كنت تلميذاً في المدرسة الابتدائية، وذاكرتي تختزن حتى الآن صدى الصدمة التي عمّت المغرب آنذاك. زلزال الحسيمة سنة 2004، بما كان له من فتكٍ وشراسة في المدينة وفي مناطق الريف الجبلية، بسكّانها الفقراء، الذين كانوا في مقدّمة الضحايا. وها هو اليوم زلزال الحوز.


4

مَشاهد الدمار، من مرّاكش إلى آسفي، لها اسم الفاجعة. تُتابعُ مشاهد الخراب وترصد سماءً من التلعثم والعجز عن الكلام، أو من النواح والدموع. قرىً نائية هجمَ عليها الموت من جميع الجهات. وجوهٌ تنحني لتلتقط العينان مسافات الأنقاض التي تُغطي، في بعض المناطق، قرىً بكاملها. هول الفاجعة على وجوه الأحياء من سكّان هذه المناطق. دموعُ النساء أو كآبة الرجال والشبّان. لن تتوقّف المَشاهد. صراخ أو ندب أو استغاثة. واسم الفاجعة يضيق عمّا نشاهد وما نسمع، لحدّ أنّ قوّة مجموعة من الصور كانت تتركني في حالة حداد طويل. تنقلني، في غفلة عنّي، إلى الرغبة الجامحة في أن أكون هناك، إلى جانب هؤلاء المفجوعين، من الأرامل والأيتام، على الموتى والجرحى والمعطوبين الذين يرتفع عددهم مع مرور الساعات. هناك أكون، كما يكون غيري، من دون اسم ولا صفة، للتضامُن معهم بكلمات المواساة القليلة التي تحترم كبرياءهم وكرامتهم، لا تسرق منهم شيئاً.

نختبر عند مَشاهد الفاجعة قوّة الكلمات وقصور العبارة

عند مشاهد الفاجعة تَختبر، في آنٍ، قوّة الكلمات وقصور العبارة. لذلك عمَّ الحداد، وأصبحت الأفعال والمبادرات قريبة من الضحايا ومن الأنقاض. فوق الأرض فرق الإنقاذ العديدة تتعاضد. أفراد هذه الفرَق جميعهم يزاولون العمل ضدّ الساعة. أطبّاء وممرّضون في مستشفيات. صيادلة يوفّرون الأدوية المطلوبة. أمام أبواب ومداخل مراكز تحاقن الدم جموعُ المقبلين للتبرّع. في الأفق قوافل الشاحنات والسيارات تتوافد، شيئاً فشيئاً، على المناطق المنكوبة. مواطنون بحماسهم لا ينامون من شدّة العمل، عبر المدن المغربية، من أجل إيصال ما جمعوه من مساعدات إلى هؤلاء الذين فقدوا مساكنهم وما يملكون. مغاربة العالم يستجيبون للاستغاثة، بالألم والدموع يستجيبون، وبالعطايا يستجيبون. بعض المنكوبين استفاد من الخيام، والآخرون يفترشون الأرض في بعض القرى التي طُرقها مقطوعة أو تنعدم فيها، انتظاراً لن يخيب.  


5

تحوّلت الحوز من منطقتها الجبلية في الجنوب لتحلّ في مركز المغرب. تتكاثف الأيدي وتتسابق النفوس من مختلف المدن لتبذل ما تستطيع من عطاء. مواطنون يبادرون ليمدّوا اليد ويتقاسموا وسائل العيش مع الناجين والباقين على قيد الحياة. هذه المأساة تُفرج عن طاقة العطاء الحرّ. لا إلزام. لا شعارات. لا وعود. هناك، فقط، نحن معكم. هي ثقافة إيثار الآخر ـ الآخرين، بمعنى ثقافة التكافل والتقاسم التي توارثناها عن مجتمعنا التقليدي، الذي لا يتخلّى عن هذه القيَم النبيلة. عليها تربّى في زوايا الأولياء والمتصوّفة كما في تنظيمات الحرفيّين. هي ثقافة اليد الممدودة، كما تعوّدنا عليها في الطفولة لدى عائلاتنا وجيراننا، سواء في المآتم والنكبات أو في الأفراح. هي، باختصار، ثقافة الحياة المشتركة التي تحافظ على معنى أن نكون أبناء أوفياء بعضنا لبعض.


6

إنسانيةٌ واعدة. أعمق ما يصل النفوس في رحلتها المشتركة إلى أقاصي الحياة. فهل تأتي، اليوم، هذه المأساة، مأساة الحوز، لتعيدنا إلى نقطة التكوين الجماعي للمغاربة؟ أتابع مشاهد الدمار والحداد عبر صور الأفراد كما عبر صور العائلات أو سكّان القرى والأحياء المنكوبة في بعض المدن. وأُنصت إلى لغة التآلف التي تصل من أصدقاء المغرب. هي إنسانية الشعوب التي تنتصر على ظلمات لها في كلّ أرض وفي كلّ زمن سطوة لا تلين. إنسانية واعدة تصعد المرتفعات لتلمس الطبيعة الواعدة، حيث تفجّرتْ أثناء الزلزال ينابيع ماء عذب، في أقسى التضاريس وأشدّها قحولة وجفافاً. 

زلزال الحوز ينحفر وشمةً أُخرى على جسدنا، ذاكرةً لنا ولمن سيأتون بعدنا. بقدمين ثابتتين نقف في أرض الحوز ومع أرض الحوز. نعم، هذه طريق الحياة.


* شاعر وكاتب مغربي

 

المساهمون