"أرض الوهم" لكارلوس شاهين: ما تبقّى من الأناشيد والأحلام

"أرض الوهم" لكارلوس شاهين: ما تبقّى من الأناشيد والأحلام

06 مارس 2024
من الفيلم
+ الخط -

تتردّد في فيلم "أرض الوهم" للمخرج اللبناني كارلوس شاهين (1959)، أُغنيتان، وتلعبان برشاقة في خلفيّة المَشاهد: "ليالي الأُنس في فيينا" لـ أسمهان، وHistoire d'un amour (قصّة حبّ) لداليدا. ليس هذا التردُّد عشوائيّاً في فيلم يروي لنا منذ لقطاته الأُولى قصّة سياسية يعدُّها البعض تأسيسيّة في تاريخ "لبنان العصري". هناك حُمولة حداثيّة عند كِلتا المُغنّيتَين، وتبشيرٌ بزمن شابّ وجديد، قيل إنّ البلد قادرٌ على استيعاب تناقُضاته في خمسينيّات القرن الماضي، لكنّ ذلك العقد الطَّموح لن يصل إلى نهاياته قبل أن تتحطّم كلُّ تلك الأناشيد اللطيفة والمُسلّية عند صخرة حرب 1958.

ليست الموسيقى والأغاني هي المفاتيح الوحيدة للدخول إلى العمل، الذي بدأ عرضُه أخيراً في صالات السينما اللبنانية، هناك أيضاً الثياب والفساتين والتفاصيل الدقيقة للملابس التي تُوحي بجهد كبير، وتفتح للمُشاهِد مدىً تخييلياً على زمن نيو- كلاسيكي. كما يُقال الشيءُ نفسه عن حضور الطبيعة والصورة الجذّابة ذات البُعد الحِسّي، بما في ذلك مَشاهد ممارسة الحبّ التي تمَاهت بجماليّة مع لُعبة المحسوس المُتدفّق كنهر، لكن ماذا عمّا يقع خلف المرئيّ، ماذا عن السرديّة والتاريخ والقَول؟

زمنٌ جديد أعلن انتصار ثلاث نساء على ماضي التقاليد العائلية

تدور أحداث الفيلم في ضيعة جبليّة بعيدة عن بيروت، بيد أنّ الجغرافيا هُنا ليست لها الكلمة الفصل، فالسياسة أقوى وتستطيع أن تخترق تلك العُزلة، ومثْلُها أفكار التحرُّر والصِّدام بين جيلَين؛ قديم يُريد أن يُلزِم الجديد جملةً من التقاليد، خدمةً لمصلحته السياسية وللحفاظ على الموروث. وإلى جانب السياسة والأفكار، هناك عنصرٌ ثالث أيضاً لعب ضدّ الجغرافيا وعزلتها، وهو السيّارة، التي ظلّت تُصعِّد القلق شيئاً فشيئاً، وتشقّ الطريق للقاءات العشّاق الخاطفة، حتى حسمت المشهد الأخير من الفيلم، بهروب "الشيخة ليلى" (ماريلين نعمة) بسيّارتها، من حفل تتويج حياتها المثالية في "أرض الوهم" إلى أُخرى بعيدة عنها.

نفَدت حِيلُ "الشيخ داوود" (أحمد قعبور) السياسية والاجتماعية أمام الزمن الجديد، وانحسَر رصيدُه بما تبقّى له في حدود بناته الثلاث؛ ليلى وإيفا وندى، وبطبيعة الحال زوجته أوجيني (كريستين شويري). وبما أنّ ليلى هي الكُبرى بينهنّ، فحِمْلُ إرث العائلة أكبر عليها، في حين بدت سيطرة الشيخ على ابنتَيه الصُّغريين آخذةً بالاضمحلال. 

خساراتُ داوود ليست شخصيّة وإن ظهرت كذلك، إنما هي امتدادٌ لخسارات الطبقة السياسية المُتقهقِرة أمام المدّ الناصري حينها (1958 عام الوحدة السورية المصرية، وسقوط النظام الملكي في العراق)، وزخم قضيّة فلسطين في عقدها الأول بعد النكبة. كلّ هذا سيدفع "حليم" (فؤاد يمين) كي يشقّ عصا الطاعة على الشيخ داوود، ويُحرجَه أمام ضيفَيه الفرنسيَّين الأنيقَين؛ إيلين وابنها رينيه (ناتالي باي وبيير روشفور)، انشقاقٌ سرعان ما كشف عن حدود الحُلم بـ"سويسرا الشرق" الذي قلبته السياسات الطائفية إلى كابوس.


عند هذه النقطة، تنحسر السياسة كإطار جَمعي وخلفيّة تاريخية للحكاية، ويبدأ الفيلم بالتدقيق في عوالم شخصيّاته المُفردة، والتي يُمكن القول إنّ غلالة من الذَّنْب تلفُّ كلَّ واحدةٍ منها، وهي القاسم المُشترَك بينها، وحسبنا الإشارة التي تفيض دماً، على سكّان البلدة، من عيني تمثال للعذراء (العنوان الإنكليزي للفيلم Mother Valley). ولليلى النصيب الأكبر من هذا الشعور تجاه والديها، وتجاه زوجها "بطرس" (طلال الجردي) الذي أُجبرت على الزواج منه، وابنها "شارل" (أنطوان مرعب حرب) ذي السنوات السبع، الذي يقرأ الفيلمُ الواقعَ من خلال عينيه، وكذلك تجاه حبيبها "رينيه"، المُصوِّر الفرنسي الذي "فتَل" العالَم.

لكن بعيداً عن لُغة الذنوب وظِلالها، والتي تتحرّك أفقيّاً وعموديّاً بين الشخصيّات وأدوارها الاجتماعية، هناك عامل أعمق خلّص تلك الشخصيات من خلَلها النفسي، ألا وهو الرغبة الجامحة التي تظهر ببريق الأعين وبهبوط وارتفاع الأنفاس وملمس الجلد، بل إنّ إتاحة الفيلم مساحة للجسد كي يقول كلمته هي ما تُعيدنا بأريحيّة إلى زمن أسمهان وداليدا التراجيدي ولعبة المحسوس التي انطلقنا منها.
 

آداب وفنون
التحديثات الحية

المساهمون