نيتشه وفلسفة العدم من الألم
عندما أردت العودة للكتابة النثرية القصيرة، اخترت موضوعاً يشدّني بكلّ شغف لأكتب عنه وأشارك به القارئ لهذه المقالة.
قبل فترة بسيطة مرّت ذكرى وفاة الفيلسوف الألماني، فريدريك نيتشه، والذي انتهت به رحلة معاناته مع أمراض متعاقبة إلى الموت بمرض مدمّر للدماغ يشبه الفلسفة العدمية التي تركها للعالم، إذ يُعرّف نيتشه الحياة على أنّها مجموعة من القيم التي ليس لها أيّ معنى، أي تكمن الجدلية الوجودية في نقيضها، وهو العدم.
ينفي نيتشه أيّة قيمة جمالية لكلّ الأفكار التي يضعها البشر، وهي ذاهبة من الوجود نحو العدم، على نحو يمحو قدسية الأفكار والعادات والقيم الموروثة، وأن لا أساس مادياً لها، أي أنّ الأمر مسألة وقت لكلّ قيمة أو فكرة.
بالنسبة لنيتشه، فإنّ الفكرة تأتي من العدم إلى الوجود، والوجود هو مسألة مؤقتة، وإنّ مصير الفكرة أن تعود إلى العدم.
إنّ الفلسفة العدمية طريقة في الحكم الجمالي للمادة والوعي والصراع بينهما، وهو صراع يتجدّد، ومصيره هو العدم لتتولّد عنه صراعات تأتي وتنتهي في هذا العدم.
لقد غيّرت فلسفة نيتشه العدمية من الفلسفة النقدية الجمالية في مدرسة فرانكفورت اليورومركزانية، حتى إنّها ألهمت بعض الحراكات السياسية الحديثة التي غيّرت معادلة القوى في الشرق الآسيوي الأقصى.
لقد تنزّه الفكر العدمي عن قيمة الملذات التي تسبّب الصراع والألم وتدمر الإنسان في نهاية مطافها، فكلّما ازدادت القيمة الجمالية للوجود المادي تناقصت قيمة الوعي، فكأنّ الملذات بطريقة أو بأخرى ستكون المتسبّب في سيرورة الوجود المادي بأفكاره وقيمه المُوجّهة له نحو العدم.
لقد أولى نيتشه نظرة خاصة نحو الجسد وصراعه مع الملذات، فالجسد الذي يسعى نحو القوة والهيمنة والبقاء بأفضل الشروط وأطول مدةّ ممكنة، هو جسد يحكم على نفسه بالإعدام أو "اللاوجود" إن كان علينا استخدام هذا المصطلح الأعمق في المعنى من مصطلح العدم.
العدم هو محور فلسفي، وعدسة يتم بها النظر بشكل نقدي نحو الأفكار، خصوصاً تلك التي تستغل الوعي البشري على مدار الوجود
إذن، هذا هو صراع الوجود واللاوجود عند نيتشه، وكلاهما مستمران، وهناك علاقة للنظرة الجمالية عند الأنظمة والقوى المهيمنة، اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً.
وعلى سبيل ذلك، بالنسبة للرأسمالية فإنّ النظرة الجمالية لديها في الوجود هو في علاقة العبودية، فمن أجل طبقة أعلى وأفضل، هناك طبقة عليها أن تدفع الثمن وتضحي لأجل الطبقة المستغلِّة، وترى تلك الطبقة (المستغلِّة) أنّ القيمة الجمالية كامنة في أخلاق الاستغلال والاضطهاد والاغتراب النفسي والمادي، بينما تراه الطبقة المستغَلّة في الرأسمالية التي يستغل فيها السيد العبد بطريقة بشعة.
بالنسبة للقيم التي يتبعها النظام الرأسمالي حسب الفلسفة العدمية، فإنّها قيم بائدة، لا صحة لها وليست مقدّسة، قيم وضعية تخدم من وضعها.
وخذ مثالاً آخر عن الأديان عبر العصور، كيف استغلت الإنسان بأفكار واهمة ومضلّلة للعقل، ولا أساس لها من الوجود.
إذن، إنّ العدم محور فلسفي، وعدسة يتم بها النظر بشكل نقدي نحو الأفكار، خصوصاً تلك التي تستغل الوعي البشري على مدار الوجود.
لقد أنهك مرض الزهري العصبي عقل نيتشه وذهب به إلى العدم، في رحلة مرضية مسبوقة بمعاناة صحية مزمنة قبلها، ما جعله يفكر بالقيمة البائدة للجسد، ولولا الأمراض التي مرّ بها نيتشه، لربّما كان إنساناً عادياً آتياً من العدم وذاهباً إليه، لكن هذا الصراع المؤلم مع عدّة أمراض متعاقبة، ترك لناً عقلاً فيلسوفاً مدبّراً لفكرة العدم من هذا الوجود والعدم.