حصار قطاع غزة ودودة الأرض
كتبت في المقالة السابقة عن الهيتيروتوبيا واليوتوبيا، حيث لن أستعيد سوى تعريف الهيتيروتوبيا التي تعني الفضاء الآخر المنبوذ، واليوتوبيا التي تشير إلى الفضاء الذي تتوفر فيه شروط ومعايير العيش الرأسمالي على نحو منظم، بحيث ترفض هذه الشروط ما يخالفها أو يزعجها في العالم الذي توصمه بالفقر وتدفعه نحو الانحصار في فضاء آخر بعيد عن اليوتوبيا، وحينها يسمى هذا الفضاء المنبوذ الهيتيروتوبي، وكأنه فضاء فائض عن العالم الرأسمالي اليوتوبي.
إن أردنا تفكيكاً مجرداً للواقع في قطاع غزة بناء على نظريتي الهيتيروتوبيا والسلطة لميشيل فوكو، فتعال نبدأ بذلك متتبعين أدوات السلطة الأميركية، وهي الحصار الهيتيري النابذ لكل شعب مناهض لسياساتها.
وقبل كل ذلك، إن كنت سأعرّف حركة حماس تعريفا نفسيا سياسيا، سأعرفها على أنها سلطة تمكنت من استخدام دبلوماسيتها وحيلها النفسية وتنظيمها الهرمي الصارم وديكتاتوريتها بهدف التماسك في بداياتها، والحفاظ على ايديولوجيتها التي لا ترتبط بالأشخاص، إنما جميع من في هذا الهرم من رأسه إلى قاعدته "المايكروفيزيائية"، يلتقون بنفس المهمة المنظمة، وهي التضحية بالنفس والتنازل عن المال والأبناء والملذات وأي شيء دنيوي يستخدمه الاحتلال في عقاب الفلسطيني.
ولنكن متفقين أن الجسد هو أول هدف يمارس عليه الاستعمار أساليب الإخضاع والإذلال الممأسس، ونحن نتحدث عن حركة تستمد فلسفتها من قادة تعرضو لأساليب الإخضاع في السجن، وهذا ساعدهم على فهمم تكوين عقلية الاحتلال التي تتجلى في السجن الصغير بشكل مكثف، وتنتشر على نحو لا مرئي في السجن الأكبر كما أوضح الأسير وليد دقة في كتابه "صهر الوعي"، حيث يشير دقة إلى أن شروط السجن الأصغر هي ذاتها تنتشر في السجن الأكبر، ولكن على نحو غير مدرَك، لأنه يتداخل في تفاصيلنا اليومية تجعلنا نعتاد الاحتلال كأسلوب حياة نتقبله من شدة انتشاره ومحاصرته لنا في جميع نواحي الحياة.
حسنا، لقد كان كل ذلك مناسبا للتمهيد لصُلب المقالة، وهو حصار قطاع غزة، السجن الأكبر في العالم، هكذا وصفه الإعلام، بعد 17 سنة من الحصار الذي ما كان العالم ليلتفت لوحشية شروطه وعقوباته لولا العملية النوعية التي خرقت أقوى معادلة سياسية عسكرية معقدة يصعب تفكيكها، وجعلتها معادلة وهمية، أي أن عملية 7 أكتوبر جعلت النظرية والتطبيق سهلين جدا، بحيث في ظرف أيام تتمكن المنطقة من القضاء على الكيان الأميركي المسمى إسرائيل، لكن ما يحمي هذه المعادلة هي تمائم معاهدات السلام والأنظمة العربية المنظمة صهيونيا، لكنها أنظمة تنطق بالعربية، وهذا فقط ما يجعلنا نصفها بأنها أنظمة عربية، وأقصد المطبعين والداعمين للاحتلال بشكل علني، أما الشعوب العربية فقد جرى تدجينها وإفقارها وتجهيلها وإرهابها بالقمع السياسي الداخلي كي لا تشكل أي تهديد لأمن الاحتلال الذي يحاول التكتم على ممارساته العنيفة، وإباداته المتسلسلة للشعب الفلسطيني، بمعنى من أجل أن ينعم القطيع الصهيوني في هذا الكيان بحياة يوتوبية مثالية وكأنه الحلم الحقيقي بالعودة إلى صهيون، وهي بالمناسبة ادعاء ديني لا يؤمن به القادة الاسرائيليين، إنما هو وهم مغناطيسي يتحكمون من خلاله بهذا القطيع الذي لا يستطيع كشف الحيلة التاريخية السياسية التي قدِمت بهم إلى ما يظنون أنها أرض الميعاد.
دعنا نتساءل من أين بدأ الحصار على غزة وكيف بدأ، ولماذا الحصار كأداة إخضاع خصّها الاحتلال بقطاع غزة؟
تتحمل اتفاقية أوسلو وِزر هذه الإبادة الجماعية، لأنها اتفاقية تقسيم ديموغرافي عنصري بالأساس، من شأنه أن يعزل الشعب الفلسطيني ويشكل حواجز نفسية سياسية في الوعي والإدراك، الذي يتسلل إلى الحياة اليومية فيصبح الانقسام ممارسة روتينية، بل إن تغيير الواقع الانقسامي يصبح معقداً، لدرجة أن الاختلاف الثقافي والوعي المشوَّش عن الصمود بين سكان الضفة وسكان قطاع غزة يصبح ملموسا، وسيصبح ذلك مقدمة لانقسام سياسي فيما بعد، أي بعد توقيع اتفاقية أوسلو بـ12 سنة في العام 2006، حين نضج الانقسام بحرب أهلية غير متوقعة، في مرحلة يتحمل فيها الفصيل الشعبوي السائد "فتح" أكبر المسؤولية عن هذا الانقسام، لأنه لم يتقبل النتيجة الديمقراطية، وليس أدل على ذلك من الوضع المأساوي للحالة الديمقراطية المعتلة في الضفة الغربية بسبب تفرد الفصيل السائد بالقرارات التي تأخذ شرعيتها من اتفاقية أوسلو، وإن تفكيك اتفاقية أوسلو سيكون النهاية الحتمية للسلطة الفلسطينية التي تشكلت عبر هذه الاتفاقية بشروط الإدارة الأميركية.
الجسد هو أول هدف يمارس عليه الاستعمار أساليب الإخضاع والإذلال الممأسس
لقد أدى تطبيع العلاقات المتسمة بالإخضاع للطرف الفلسطيني، فهي لا تشكل أي سمة من سمات التطبيع، لأن التطبيع Normalisation ظاهرة سياسية نفسية ومادية، تشترط قبول الطرف المستقبل للتطبيع بالترغيب وليس بالترهيب، لذا ما يجري في الحقيقة من خلال التنسيق الأمني ليس تطبيعا، بل هو إخضاع متسلل نحو كافة شؤون الحياة عند الطرف الذي يتم محاولة إخضاعه، وقد نجح الاحتلال في إخضاع السلطة الفلسطينية وخداعها وأوقعها في فخ الخيانة التي تسمى تجميليا بـ"التطبيع"، ونجحت السلطة في تبرير وقوعها في هذا الكمين الذي لا خروج منه ولا تملك أي أداة سيطرة عليه، حتى اللغة التي تعبر عن فكر وثقافة السلطة، هي لغة المهزوم المستنجد الذي يستنجد على نحو درامي للعالم وهيئة الأمم المتحدة، عدا عن شعورها بالخيانة الذي يجعل أي مناهض للخيانة السياسية أو حالة سياسية تمثل ما هو عكس الخيانة مرفوضا عند الخائن، الأمر الذي يجعل الخائن في هذه الحالة يحاول توريط المزيد من الأفراد في جريمته كي تصبح الخيانة الموقف السائد الطبيعي والمقاومة الحالة الشاذة عن هذه الطبيعة، فبذلك تزول حالة التضارب من الأفكار والنظرة الانحطاطية لدى الخائن نحو ذاته، فيمارس الخيانة بكل ثقة وطمأنينة تحت شروط إخضاع يجبره عليها الاحتلال. فعندما يخون الفرد وطنه لا يمكنه التراجع عن خيانته، لأنه بذلك قد يكون حكم على نفسه بالإعدام من المحتل الذي يحكِم السيطرة عليه، كما فعل الرئيس عرفات قبل اغتياله بالسّم، حين تراجع عن موقفه من الاحتلال واعترف بأن اتفاقية أوسلو ورطة كبيرة للسلطة الفلسطينية يجب الخلاص منها عاجلاً، وهنا تستدعي الحاجة لمقالة أخرى نفكك فيها السلطة نفسياً ومادياً.
وعودة إلى سؤال من أين أتى الحصار، فقد كان من اللزوم الدخول إلى الإجابة من خلال تفكيك اتفاقية أوسلو نفسياً، أي ننطلق من جدلية المستعمِر والمستعمَر، وهنا في الحالة الفلسطينية المستعمَر في حالة إخضاع، أما المستعمِر المحتل فهو يمارس الإخضاع على كل من يتعاون معه أو من يقاومه على حد سواء، لكن مع اختلاف أسلوب الإخضاع وفقاً لموقف المستعمَر المصنف إلى خاضع أو مقاوم. إن فكرة أن تكون مستعمِراً هي فكرة غير مريحة وغير آمنة، وتجعلك لا تثق حتى بالعميل الذي يخدمك بالتجسس أو الاغتيال، لذا تقوم آبهاً بتجريده من كل وسائل قوته، وزعزعة شعوره بالأمان، وصدمه بمدى وحشيتك وممارساتك غير المتوقعة، وأسلحتك الفتاكة المتفوقة التي تستعرضها مرارا وتكرارا، ولا تظهر أمام المستعمَر إلا بمظهر القوي والمسيطر في كل حالاتك، ربما هذا يدعوك لأن تنزع قناع المشاعر، فمشاعر المستعمِر معتلة نفسياً أصلاً، ويستعين بالخبراء والمؤسسات المنظمة خصيصاً للحفاظ على صورته الثابتة القوية، وأنه الأفضل والمتفوق في كل شيء لدرجة لا يمكن كسره ولا اختراقه ولا إغراؤه. نحن نتحدث عن تفاصيل حياته اليومية من طعام وملبس ومسكن وظروف مهنية ومعيشية تعبر عن أقصى درجات الإشباع والوفرة، التي تجذب اليهود لتبنّي الفكر الصهيوني، ومن أجل أن تكون يهودياً صهيونياً لا يحتاج ذلك لأن تكون سياسياً ولا عسكرياً متفذلكاً ولا مثقفاً ولا متعلماً، بل إنسان يطمح لأعلى شروط الحياة والمواطَنة، أما السياسة فهي ليست من شأنك لأنها ليست اختصاصك، فقط لك دور واحد في ملعبك، أن تكون مواطنا صالحا في "دولة" ستحقق لك حلمك بالجنة.
ومن أجل أن تحافظ "إسرائيل" على صورتها في وعي مواطنيها والنجاح في خداعهم وإيهامهم بتحقيق المواطنَة التي يحلم بها الأوروبي المسيحي الذي يتمنى لو أنه يهودي وتنطبق عليه شروط الهجرة، فمن أجل الحفاظ على تلك الصورة ترتكب إسرائيل أبشع الممارسات في الشعب الفلسطيني، ليس فقط من أجل تهجيره، بل قد يشمل الهدف من ممارسات الإخضاع هو أن يظل السكان الاسرائيليون بأمان طالما أن الشعب الفلسطيني لا يعيش بأمان، حيث يعيش الويلات والمعاناة اليومية التي تشغله عن المقاومة، أو محاولة التسلل إلى يوتوبيا الصهاينة المستوطنين المعزولين في المستوطنات أو في مدن الحداثة الاستعمارية كما حصل في 7 أكتوبر في هذا العام الجاري.
وهنا تجدُر الإشارة إلى أن المستوطنات مصممة بشكل سياسي وعسكري ونفسي من قبل خبراء مختصين في مجالات متنوعة، بحيث تنطبق عليها شروط اليوتوبيا، أما الفلسطينيون فيعيشون في ظروف هيتيروتوبية نابذة يمارس الاحتلال فيها عليهم شتى وسائل الإخضاع، والتطهير العرقي كما يحصل في قطاع غزة، بحيث تم تخصيص شروط الهيتيروتوبيا، بحيث يصبح هذا الفضاء الدخول والخروج منه وإليه مشروطاً بشروط الاحتلال، وسيكون حفر الأنفاق من قبل فصائل المقاومة شكلاً من أشكال مقاومة الحصار الإخضاعي على كل حال، ويمكنني تشبيه المقاومة بدودة الأرض التي تظل تحفر في التربة، وإن توقفت عن الحفر سيكون ذلك نهاية لحياتها، لأنها تعيش على الأكسجين المتغلغل في التربة، وحتى تتنفس التربة والكائنات الأخرى في التربة على هذه الدودة أن تستمر بالحفر كالمقاومة الفلسطينية التي حافظت على ثباتها وتنفست من الأنفاق وجعلت من الأنفاق متَنَنفساً للشعب المحاصر.
وتجدر الإشارة إلى أن دودة الأرض (وهي على شكل حلقات) كلما قسمتها كلما ساهمت في تكاثرها، فكل قسم مقسَّم منها سيصبح دودة جديدة، وهكذا هي المقاومة في غزة تماماً، وهذا ما دفع سلطات الاحتلال للانتقال من الحصار والمجازر إلى مرحلة أكثر همجية لارتكاب سياسة الأرض المحروقة أو التطهير العرقي الذي تعتقد من خلاله أنها ستقضي على دودة الأرض.
وبالمناسبة من أجل أن تكون مقاوماً، لا يكلفك ذلك الاستغناء عن أخلاقك، ولا يدفعك ذلك لأن تكون وحشاً مرهباً مرعباً، ولا يكلفك ذلك التدجج بأعتى وسائل الحرب والتسلح الباهظ الذي يدفعك لسرقة مقَدَّرات الشعوب كي تصنع تكنلوجيا عسكرية تفوق قيمة حياة الشعوب من وجهة نظرك التي تفاضل تجويع الشعوب المستعمَرَة وتعيش وهم التفوق التكنلوجي والحداثة المبنية على جثث المضطهدين في الأرض.
وهذا يعني أنه من أجل أن تكون مقاوماً يكفي أن تكون ابن الجوع والألم والفقدان والتشريد، وستعمل مصمماً على حقك في المقاومة، ليس لأن المقاومة عقيدة، بل هي حق، والحق لا يُسلَب ولا يُكتَسب، إنها وعدك وعهدك المصقول الذي لا تكسره ولا ترضى بأن تخلف عهدك مع نفسك، إن المقاومة هي قيمتك في الوجود، والمعنى للوجود، فإما أن تكون أو لا تكون.
نعود مجدداً إلى سؤالنا المحوري في المقالة، ويلزمنا أن نعطي تعريفاً سياقيا لحصار قطاع غزة الذي دام أكثر من 16 عاماً، حيث التعريف يكمن في جدلية المستعمِر والمستعمَر. يعد الاستعمار أداة من أدوات الإخضاع السياسي الذي يعتقد الاحتلال أنه يساعد في إخضاع المجتمع الفلسطيني في غزة لكل الظروف العقابية التي يتفنن بها الاحتلال، فضلاً عن محاولات الإخضاع النفسي الذي تحاول من خلاله صهر الوعي الصامد والمقاوم، لكن كل هذه المدة من الحصار أثبتت فشل خطة الاحتلال في إخضاع الذات المقاوِمة، مهما حاول صهر وعيها فهناك صمود جماعي وأواصر نفسية جماعية بين الشعب لا يمكن زعزعتها، بمعنى أن الحصار أكسب الشعب المحاصَر عزيمة وصموداً ووعياً صلباً مدرَّعا لتحمل أقسى ظروف حياتية ليس لها مثيل على وجه الأرض في وقتنا الحالي.
وتلمح حكومة الاحتلال بأن الخطة البديلة المطروحة في المرحلة القادمة حسب مخططات الاحتلال ستكون حكومة في قطاع غزة عميلة تابعة للاحتلال علَناً، لكن أصوات السياسيين تعلو في ندائها بعدم الثقة بأي فلسطيني حتى العميل، وهذا يعني فشل تجربة التنسيق الأمني عبر اتفاقية أوسلو فشلا ذريعا بدليل تجدد انبعاث المقاومة "دودة الأرض" في مخيم جنين ومخيم نور شمس في طولكرم، وثبات المقاومة في نابلس (حارة الياسمينة ومخيم بلاطة)، هذا فضلاً عن فشل حصار قطاع غزة، ويعلوه فشل فوق فشل فوق فشل لم تعد الحكومة الإسرائيلية الحالية ولا الحكومة القادمة قادرة على حمل كل هذا العدد من الفشل فوق رأسها كالمهرج غير المتمكن الذي يدّعي براعته أمام الجمهور (الإسرائيلي طبعاً).
لقد اشتد الحصار في معركة طوفان الأقصى، وأظهر الاحتلال وجهه الحقيقي للعالم، الوجه الذي جعل من المحايدين في العالم أن يلتفتوا لقضية نضج ألمها ولم يعد يحتمله الشعب الفلسطيني، فانتقل الألم لشتّى شعوب العالم، الذي لا يزال يبحث عن حلول عقابية أكثر للاحتلال. أما الشعب الفلسطيني، وخصوصا المحاصر في غزة، فيبحث عن إنهاء الاحتلال كاملا، لأن معاقبة الاحتلال ليست حلا عادلا، ليتّهمنا محللون صهاينة بأن مصطلح "إنهاء الاحتلال" يعني الإبادة الجماعية لإسرائيل، وسيصنفنا من المعادين للسامية، وهذه نكتة القرن!