ما بين عائشة وزبيدة

ما بين عائشة وزبيدة

21 يوليو 2023
+ الخط -

في رحلة الحياة، نفقد الكثير من الأشياء والأشخاص والفرص، حتى نرحل في النهاية. نهاية حتمية لا مهرب منها، قد ننساها أحياناً وقد نتهرّب منها، لكنّها بانتظارنا مهما فعلنا. ومجرّد التفكير في الأمر، قد يؤدّي للاكتئاب، لكن ما باليد حيلة، لا يوجد أمامنا سوى أن نحيا ونسعى.

قالوا السعي لا يعني حتمية الوصول، ففي نهاية سعينا قد لا نصل إلى ما كنّا نطمح إليه، لكنّنا سنصل إلى مكان آخر، وسنحقّق هدفاً آخر، وقد نغيّر أفكارنا وأحلامنا في منتصف الطريق. المهم ألا نكفّ عن السعي.

من الأمثلة الجميلة "الحاجة زبيدة". هي امرأة شارفت على عامها التسعين، وقرّرت أن تتعلم بعد وفاة زوجها الذي كان يمنعها بعد والدها الذي رفض تعليمها حتى تتزوج. بعد كلّ هذه السنين، قرّرت أن تعود لتحقّق حلمها في التعلّم، وبدأت في تعلّم اللغة العربية، وبعض الكلمات الإنكليزية بمنتهى الحماس.

بمفردها، قرّرت وذهبت لأحد مراكز محو الأمية لتجلس على "تخته" كالطلاب الصغار كما قالت هي، بعدما رفضت أن تذهب إليها المدرسة للمنزل لتريحها من العناء.

خبر سعيد ومفرح جداً، والأجمل إتاحة الفرصة للحاجة زبيدة وأمثالها ممن حُرموا من التعليم في الصغر.

مجرّد التفكير بأننا راحلون عن هذه الحياة، قد يؤدّي للاكتئاب، لكن ما باليد حيلة، لا يوجد أمامنا سوى أن نحيا ونسعى

بعد ذلك، ظهر منشور لأب، لديه طفلة تدعى "عائشة". كان يتحدث عن تجربته مع طفلته، وبشكل غير مباشر، وبالرغم من عدم تطرّقه للحديث عن "الحاجة زبيدة"، لا بالاسم أو بالإشارة، إلا أنْه أثار الموضوع بأفجّ الطرق وأبشعها؛ إذ قرّر هذا الأب أنه سيمنع طفلته التي لم تتجاوز الستة أعوام من التعليم الحكومي، فهو لا يعتدّ به، ولا يسبّب غير أذى الاختلاط (من وجهة نظره)، وأنه سيمنعها عن الخروج والتعامل مع أي شيء خارج المنزل، حتى يحافظ على فطرتها ليسلمها لرجل آخر، يبحث عن تلك الغرّة الساذجة التي لا تعرف أي شيء سوى ما يُخبرها به والآخرون من المتحكمين بها.

الأكثر حزناً أنّ أحد المعلّقين وضع مقطعاً مصوّراً لسيدة مثل عائشة وزبيدة لم تنل أيّ حظ من التعليم، يسألها المذيع أسئلة دينية عامة وصلت لاسم الرسول الذي تتبعه، فكانت الإجابة لا تختلف عن كلّ إجابتها السابقة، تمطّ شفتيها وتحرّك رأسها في إشارة إلى عدم المعرفة. وعندما استغرب المذيع، قالت إنها سيدة غير متعلمة لا تقرأ ولا تكتب، فماذا ينتظر منها؟! 

الشيء الوحيد المنتظر أننا سنقابل الكثير من أمثالها وأمثال "الحاجة زبيدة" الذين أجبرتهم الظروف أو من حولهم على الوصول لتلك الحالة. تلك الحالة التي إذا لم يتم التعامل معها بجدية سوى الاكتفاء ببعض الردود المفحمة على أيّ منصة، ستتواصل ليتفاقم الموضوع ويسوء الوضع أكثر.

بعد كلّ تلك السنوات من النضال للحصول على حق التعليم للنساء، أصبح شغل البعض الشاغل السؤال عن الهدف والفائدة المرجوة من تعليم الفتيات

بعد نشر الخبر كالعادة، ظهر بعض مستهجنيه، أغربهم على الإطلاق شخص لا يفهم سبب كلّ هذا الاحتفاء، وسبب ذهابها للتعلّم من الأساس؟ فكان ردّه أننا كبشر زائلون في النهاية، فلماذا تتعلّم؟ ولماذا تبذل كلّ هذا الجهد والعناء طالما ستموت في النهاية؟! لماذا تتعلّم وما الفائدة من تعليم المرأة من الأساس؟

بعد كلّ هذه السنوات من النضال للحصول على هذا الحق، أصبح شغل البعض الشاغل السؤال عن الهدف والفائدة المرجوة من تعليم الفتيات، وظهر خلف هذا السؤال من ينادي بعودتهم للمنزل، كما كان يحدث قديماً في العصور الغابرة.

اعتراض هذا الشخص في الأساس ليس على التعلّم في العموم كما ادّعى، أو على السعي. الاعتراض هنا كان على عمر السيدة التي قرّر الأخ الفاضل أنه لم يعد يسمح لها بممارسة أي شيء، سوى انتظار الموت الذي لابد أنه قادم إليها، فلم المماطلة والعمل في الوقت بدل الضائع! قرّر المعترض هنا، أنها انتهت بعد انقضاء عمرها ووفاة زوجها وانتهاء رسالتها في الحياة ببلوغها من العمر أرذله! فهي (من وجهة نظره) لو درست وهي صغيرة لربّما كانت استفادت، لكنه عاد ليكرّر أنّها حتى لو صارت طبيبة أو مهندسة، أو أي كان فما الفائدة؟ في كلّ الحالات سيمرّ عمرها، وستموت ولن تفيدها الشهادة ولا التعلّم ولا السعي!؟

ما لم نفهمه من المعترض كيفية رؤيته لحيواتنا، ولأوقاتنا، هنا على هذه الأرض؟ كيف نقضيها؟! كلّنا سنفنى كما قال، وكلّنا نعلم هذا، لكن في طريقنا للفناء ماذا علينا أن  نفعل من وجهة نظر الأخ الكريم لنفيد ونستفيد؟

في الحقيقة لم أحاول الدخول في مناقشة معه، لأنّ المناقشة نهايتها محتومة وفائدتها معدومة. أما بالنسبة للسيدة، فحتى لو ماتت في القريب العاجل ستكون ماتت وهي سعيدة لأنها أخيراً استطاعت أن تحقق أمنية حياتها الأولى، وأصبحت تقرأ وتكتب كما تمنّت قديماً، وهي مازالت في بداية طريقها الجديد.