التجربة الجامايكية وصديقي الجديد (2)

التجربة الجامايكية وصديقي الجديد (2)

13 فبراير 2023
+ الخط -

كان "مستر ونستون" لطيفاً في منظره، نحیلا وقصیرا نوعاً ما، وجهه مستطیل ولدیه شارب نحیف جدا یذكرني بممثل فرنسي قدیم، یرتدي شورتاً وتیشیرتاً أبیضین وكاباً أحمر، كان أسن بكثیر من صوره على الموقع، تبین لي بعد ذلك أنه في منتصف الخمسینات، بشرته صافیة بشكل ملفت كما قلت لك، لكن نوایاه لم تكن كذلك، وكان یلوك بین شفتیه بقایا سیجارة حشیش أو ماریجوانا إن كنت تفضل، طبعاً أدركت ذلك من رائحة السیارة التي أصبحت رائحتي بعد الجلوس الطویل في تلك السیارة الشنیعة في كل شيء.

سارت بنا اللادا في طریق الكورنیش، تأملت لوهلة منظر الشمس الرائع وهي تغطس في میاه البحر ببطء ثم باشرت الحدیث بسؤال "مستر ونستون" عن حیاته الیومیة وطبیعة عمله وعائلته وما إلى ذلك من الأسئلة العامة. أخذ ونستون یشرح لي عن صعوبة الحیاة ومشاكله مع الدولة وأجهزة الأمن، وتنقله المتكرر بین الأعمال وكفاحه المستمر لیعیل أطفاله الثمانیة من ست نساء بالإضافة إلى أطفال خطیبته الحالیة، خصوصا بعد خروجه من السجن مؤخراً بعد أربع سنوات قضاها بتهمة تجارة المخدرات!

 ظننت في بادئ الأمر أنني لم أفهم كلامه بسبب لكنته الكاریبیة القویة، أو أنه ینكت ویحب أن "یسرح بي" لكنني تأكدت من جدیة كلامه عندما أخذ یشكو لي عن كثرة تجار المخدرات هذه الأیام وعن المنافسة الشدیدة في الأسعار والجودة، والتي تجعل كل جهده في استیراد وتوزیع المخدرات "مش جایب همه"، لذلك قرر مؤخراً أن یستغني عن تلك التجارة غیر المشرفة ویتحول إلى تجارة الأسلحة.

كان الطریق وعًرا ومظلًما وضیقاً جداً، وكانت عشرات السیارات تمر بنا بسرعة جنونیة لا تتناسب أبداً مع وعورة الطریق وحالته، وبینما أحدق مرعوًبا في الطریق طالباً عشرات المرات منه أن یخفف السرع

ظللت لفترة صامًتا محدقاً في أرضیة السیارة أفكر فیما یمكن أن أقوله بعد جرعة المعلومات الصادمة التي تلقیتها للتو، وأن "الزلمة بیحكي جد مش مزح"، واستغرقت بالتفكیر ثم لا أدري لماذا سألته لكنني فعلت: "والمدام عندها كم ولد ما شاء االله؟" قال عندها ثلاثة، فكرت أن أقول له هذا مناسب تماما حیث یمكنك أن تضم أولادها مع أولادك وتشكل فریق كرة قدم تنافس به في الدوري المحلي وتحصد جوائز البطولات وربما یحصل أحد الأولاد على عقد احتراف، وبذلك تتحقق طموحاتك المادیة، بد ًلا من تجارة المخدرات أو الأسلحة!

طبعاً لم أجرؤ على قول أي من هذا الكلام خوفا من أن یجرب بضاعة تجارته الجدیدة عليّ، وقبل أن أتكلم بأي شيء آخر انحرف "مستر ونستون" بالسیارة إلى طریق جانبي صاعداً طریقاً جبلیاً ضیقاً تحاذیه الأشجار الكثيفة من الجانبين.

كان الطریق وعراً ومظلماً وضیقاً جداً، وكانت عشرات السیارات تمر بنا بسرعة جنونیة لا تتناسب أبداً مع وعورة الطریق وحالته، وبینما أحدق مرعوًبا في الطریق طالباً عشرات المرات منه أن یخفف السرعة، تناول "مستر ونستون" من جیبه ورقة بیضاء صغیرة ووضعها على حجره ومن جیبه الآخر ضمة صغیرة من نبات أخضر، أخذ یقطعها ویضعها في الورقة، كان یفعل كل ذلك وهو یدیر مقود السیارة بركبته مناوراً بمهارة منحنیات الطریق وحفره وكلابه الضالة، الحي منها والمیت والمصاب، وبعدما فرغ من تقطیع النبتة أمسك بكلتا یدیه بالورقة ولفها بسرعة وحرفیة عالیة ثم لعقها بلسانه لیخرج إلى النور صاروخ جامایكي أصلي محكم ومتقن عالي الجودة!

تحلیت بأكبر قدر من الثقة بالنفس وحرصت أن یكون صوتي جهوریا حازماً وسألته إلى أین یأخذني، أخذ "مستر ونستون" نفساً عمیًقا من صاروخه المتقن بعدما أشعله وأجاب وهو ینفث الدخان بأن هناك حفلة مقامة في بلدته الصغیرة على الجبل ویرید أن ینتهز الفرصة لیریني الحفلة وأیضاً لأن یعرفني إلى ضیوفه من المسافرین المقیمین في بیته بالإضافة إلى شخص آخر مهم. لم أرتح لعبارته الأخیرة لكنني اطمأننت نوعا ما إلى أنني سألتقي بعض الأجانب أمثالي وواسیت نفسي بأنني سأرى على الأقل حفلة جامایكیة تقلیدیة وأني سأتناول طعاًما شعبیاً شهیاً، أو هكذا ظننت!

(يتبع)

أنس أبو زينة
أنس أبو زينة
مهندس برمجيات وباحث في مجال الذكاء الاصطناعي، مقيم في لندن وأنتمي، ثقافةً وهويةً ولغةً، إلى الوطن العربي. مهتم بالسفر والاطلاع على حضارات العالم المتنوّعة وعادات شعوبها، سافرت الى إحدى وثمانين دولة حتى اﻵن، وأكتب عن المشاهد والقصص والمغامرات التي عشتها.