نزهة الحيران في كوكب اليابان

نزهة الحيران في كوكب اليابان

09 ابريل 2023
+ الخط -

هذه مجموعة من المشاهدات والملاحظات دونتها لك عزيزي القارئ، لعلها تشجعك على زيارة هذا البلد الجميل والفريد بطبيعته وثقافته وعادات أهله. 

أول ما ستلاحظه عند وصولك إلى طوكيو هو النظافة الشديدة في كل مرافق المطار، صالات الانتظار، دورات المياه، وحتى داخل الباص الذي سيأخذك إلى وسط طوكيو. لن يخفى عليك أيضاً الأدب الشديد في التعامل من جميع موظفي المطار ومسؤولي الأمن، أعجبني الاحترام الشديد من سائق الباص الذي حنى رأسه ثلاث مرات خلال عشرين ثانية وهو يجيب عن استفساراتي. الطرق الرئيسة كما تخيلتها، نظيفة وواسعة وتخلو من أية حفر أو ترقيعات، حقول الأرز المنتشرة على جوانب الطريق تعيد في نفسي ذكريات أفلام كرتون يابانية قديمة مثل ماروكو وساسوكي.

الطريق الرئيسية بين المطار ومركز طوكيو لا تمر عبر المدينة، بل فوقها! فكرة عبقرية لتخفيف الازدحام المروري، الطريق الرئيسية عبارة عن جسر طويل جداً (عشرون كيلومتراً على الأقل)، تخترق المدينة بسلاسة وبلا ازدحام للسيارات المتنقلة داخل المدينة. أجمل ما في هذه الطريق أنك تشاهد المدينة من علو وترى أسطح البنايات ونوافذ الطوابق العليا عن قرب.

كل ما يقال عن التقدم التكنولوجي لليابان صحيح، قفزة تكنولوجية هائلة في جميع نواحي الحياة. أقفال الأبواب، صناديق البريد، آلات بيع المشروبات الغازية، وحتى مقاعد دورات المياه، كلها تحتوي على أنظمة إلكترونية وشاشات لمس تبدو معقدة للوهلة الأولى.

 أدق وصف للشعب الياباني أنه مثابر ومخلص لعمله. كل العاملين الذين التقيتهم، من موظفي بنوك أو عاملي مطاعم أو موظفي محطات القطار، تلاحظ في وجوههم الإخلاص لعملهم مهما كان، ترى الابتسامة لا تفارق وجوههم حتى مع التعب الذي يظهر واضحاً على وجوههم في بعض الأحيان.

مما أثار إعجابي واحترامي أنني في يوم وقفت في دور طويل أمام أحد محال الحلوى الشهيرة في طوكيو، المحل صغير فيه سبع عاملات، كل منهن تؤدي عملاً معينا في خط إنتاج صغير، حيث طريقة عمل الحلوى تشبه الكنافة إلى حد ما، المهم أنه رغم حرارة الأفران والعمل المتواصل والدور الطويل، كانت كل العاملات يغنين بسعادة واضحة أغنية جماعية يذكرن فيها اسم المحل (المحل اسمه بابلو في منطقة شيبويا).

الدور شيء مقدس في اليابان، بدون تعليمات أو خطوط على الأرض أو موظفين، ترى اليابانيين يقفون بالدور في كل شيء حتى لو كان تجاوز الدور سهلا. التعليمات والإرشادات في اليابان أيضاً مقدسة، في أحد الأيام، ذهبت مع صديقي الياباني إلى أحد المعابد التاريخية في مدينة كاماكرا، اشترينا التذاكر لدخول المعبد ومشينا قليلا، وإذ بنا داخل المعبد، فسألت صديقي لم لا توجد بوابات أو مفتشي تذاكر؟ أجابني بأنه ببساطة لا يوجد، قلت له كان بإمكاننا أن ندخل "ببلاش"! نظر إلي بذهول واستهجان صادق قائلاً: ولكن هذا مخالف للقانون! عندها أدركت أن التقدم الياباني ليس بالتكنولوجيا فقط.

كثير من الشباب الياباني مهووس بشخصيات الكرتون (الأنيمي). لدرجة أنني سمعت أن بعض الشباب يكونون علاقات عاطفية مع شخصيات الكرتون هذه من خلال ألعاب الفيديو. في منطقة أخيهابارا في طوكيو، ستجد العديد من المحال المخصصة فقط لبيع الأفلام وألعاب ومجسمات الأنيمي.

عندما تسمع أو تقرأ عن اليابان، أول ما يتبادر إلى ذهنك هو التكنولوجيا، لكن في اليابان مناطق طبيعية ساحرة كثيرة جداً، من أشهرها منطقة كواجوتشيكو القريبة من جبل فوجي الشهير، والتي فيها العديد من البحيرات الرائعة والكهوف الثلجية والغابات الغريبة. في هذه المنطقة خمس بحيرات رائعة، وإذا كنت من محبي التجول في المناطق الطبيعية، فتستطيع أن تستأجر دراجة هوائية بمبلغ زهيد جداً والتجول حول البحيرات. 

جبل فوجي والمناطق المحيطة به مكونة من حمم متجمدة جديدة نسبياً (أقل من 700 عام)، لذلك التربة في هذه المناطق سمكها أقل من متر، ما جعل جذور الأشجار تتمدد بشكل عرضي فوق الأرض، لذلك ستندهش وأنت تتجول في الغابات، حيث سترى أرضية الغابة مليئة بالجذور السميكة المتشابكة، ما يعطي هذه الغابة طابعاً سينمائياً جميلاً.

إذا كنت تحب رياضة تسلق الجبال، فتستطيع أن تتسلق جبل فوجي في يوم صيفي بدون معدات في إحدى عشر ساعة فقط، وذلك إذا سلكت طريق الرهبان الذي يبدأ من المعبد الشنتوي أسفل الجبل.

في اليابان ديانتان رئيسيتان، البوذية والشنتوية، الأخيرة بدأت في اليابان، أما البوذية فدخلت في القرن السادس الميلادي. أغلب الناس يتبعون الديانتين معا، حيث لا توجد تعاليم محددة أو صارمة لأي منهما.

أعجبني جداً فندق الشباب الذي أقمت فيه، الغرف لها طراز تقليدي تماماً مثل أفلام الكرتون القديمة. أرضية الغرفة خشبية ومرتفعة عن الأرض عليها حصيرة من القش فوقها طاولة قصيرة الأرجل ووسائد للجلوس، أما السرير فهو عبارة عن فرشة غير سميكة موجودة داخل الدولاب. الفندق كغيره من المنازل، قبل أن تدخل إلى مكتب الاستقبال تخلع حذاءك وتضعه في خزانة مخصصة، الكل حافٍ داخل الفندق!

مخطئاً تكون إذا ظننت أن الطعام الياباني مقتصر على السوشي، المطبخ الياباني فيه تنوع كبير من الأطباق النباتية والسمكية، وأيضاً اللحوم. يستخدم اليابانيون صلصة الصويا في كثير من الأطباق. الأصناف البحرية كثيرة ومتنوعة، من السمك العادي إلى عشب البحر، وحتى مخلوقات بحرية صغيرة غالبا لم تسمع عنها من قبل! أكثر ما أعجبني هو طبق "الرامن"، وهي أكلة تشبه المعكرونة لكن مصنوعة من الأرز، أعجبني أيضاً الحبار المقلي المقرمش! وهو عبارة عن قطعة من الحبار مقلية تُضغط بمكبس حتى تصبح رقيقة جداً، يمكنك شراؤها من الأكشاك الموجودة في أغلب الأسواق والأماكن السياحية.

الشوارع الرئيسة في طوكيو التي فيها أماكن التسوق والمراكز التجارية غالبا مكتظة، خاصة في أيام العطل، الشوارع نظيفة وواسعة وأفضل ما فيها أن التدخين ممنوع، إلا في مناطق صغيرة مخصصة.

الشعب الياباني منضبط جدا في الالتزام بقوانين منع التدخين أو عدم استخدام المحمول، وغيرها من الإرشادات. في أول يومين، كنت الشخص الوحيد الذي يقطع الشارع من أي مكان، لكن بعد نظرات الاستهجان العديدة "استحيت على دمي" وصرت أقطع الشارع من أماكن عبور المشاة فقط.

رغم أن طوكيو من أكبر مدن العالم ومن أكثرها حيوية، ستلاحظ في أي منطقة أن السيارات تسير بشكل سلس للغاية بدون أي ازدحام مروري، وذلك لسببين رئيسين، الأول أن إشارات المرور تعمل بنظام "الذكاء الاصطناعي" بحيث تتغير الإشارات حسب حركة السير. والسبب الثاني هو أن معظم سكان طوكيو يستخدمون القطارات تحت الأرض للتنقل، ثلاث شبكات كل منها تحتوي عدة خطوط تمر بمئات المحطات تربط جميع أنحاء طوكيو. أغلب الذين التقيتهم في طوكيو لا يملكون سيارات، لأن القطارات في طوكيو سريعة ورخيصة نسبيا. أطول رحلة أخذتها على نفس الخط في مترو طوكيو كلفت 180 يناً (أقل من دولارين) أغلب هذه المحطات توجد داخل مجمعات تجارية.

كل اليابانيين الذين التقيتهم بدون استثناء يستخدمون برنامج المحادثة (لاين) على هواتفهم، وهو برنامج مجاني شبيه جدا بالواتساب، لكن فيه مزايا أكثر. وهو أكثر برامج المحادثة استخداما في اليابان وكوريا والصين أيضاً. أحد الأمور السلبية لدى الشعب الياباني هو أن العلاقات الأسرية ضعيفة، بمجرد أن يترك الابن أو الابنة البيت للعمل أو الدراسة تصبح العلاقة مع العائلة شبه رسمية، هذا ما حدثني به عدد من الأصدقاء اليابانيين.

أجمل ما في اليابانيين هو تواضعهم واحترامهم الشديدين والابتسام الدائم. في حياتي لم أرَ شعباً بهذا القدر من الاحترام. عشرة أيام لم أرَ فيها عراكا لفظيا أو جسديا أو تهكما أو قلة أدب أو مشكلة من أي نوع. 

ختامًا، لعلك عزيزي القارئ تقول بعد قراءتك هذه السطور: "نحتاج إلى ألف سنة لكي نصبح مثل اليابان"، سأقول لك من خلال هذه التجربة القصيرة أنك مخطئ، بل ومخطئ جداً، الشعب الياباني ليس أفضل منا نحن العرب، ليس أذكى ولا أمهر ولا أغنى ولا أكثر تصميماً ولا إرادة، الشعب الياباني مختلف عنا بأمرين فقط. الأول أنه شعب يقدم المصلحة العامة على مصلحته الشخصية، ثقافة الالتزام بالدور والتعليمات متأصلة لأنها تخدم المنفعة العامة، لأنها تصب في مصلحة الوطن ولخدمة الأجيال القادمة. اليابانيون لديهم شعار غير معلن تستنتجه من حياتهم اليومية هو "سأخدم هذا الوطن وأحافظ عليه واحترم جميع سكانه، لأن هذا الوطن رعاني وسيخدم أبنائي بعدي". الالتزام بالقوانين نابع من داخل الفرد وليس خوفا من العقوبة. أما نحن، فكثير منا يحترم القوانين ما دامت في مصلحتنا، لكننا نتحايل عليها عند أي فرصة لمنفعة فردية أو أفضلية، وكثير منا يتباهى بذلك للأسف، مع أن تعاليم ديننا عن التعاون والإخلاص والأمانة معروفة للصغير قبل الكبير، لكن التدين الزائف هو "آفة حارتنا".

أدق وصف للشعب الياباني أنه مثابر ومخلص لعمله. كل العاملين الذين التقيتهم، من موظفي بنوك أو عاملي المطاعم أو موظفي محطات القطار تلاحظ في وجوههم الإخلاص لعملهم مهما كان

الاختلاف الآخر بين اليابانيين وبيننا هو شيء نملكه نحن وهم لحسن حظهم يفتقدونه، وهو العنصرية بكافة أشكالها، الدينية والعشائرية والعرقية والتعصب الطائفي أو العرقي. سمِّ لي أمة محترمة يقاتل أبناؤها لاختلاف لونهم أو مذهبهم أو دينهم؟! اليابانيون وغيرهم من الشعوب المتحضرة أدركوا أن هذه الأمور تقف أمام أي فرصة للتقدم والنمو، لأن إصلاح المجتمع شرط أساسي للتقدم. وإصلاح المجتمع لا يكون إلا باحترام جميع مواطنيه بغض النظر عن دينهم أو أصلهم. متى امتلكنا الأمر الأول وفقدنا الثاني، سيكون لنا مكان بين الأمم المتقدمة مع اليابان، "وأن ليس للإنسان إلا ما سعى".

 

أنس أبو زينة
أنس أبو زينة
مهندس برمجيات وباحث في مجال الذكاء الاصطناعي، مقيم في لندن وأنتمي، ثقافةً وهويةً ولغةً، إلى الوطن العربي. مهتم بالسفر والاطلاع على حضارات العالم المتنوّعة وعادات شعوبها، سافرت الى إحدى وثمانين دولة حتى اﻵن، وأكتب عن المشاهد والقصص والمغامرات التي عشتها.