يحصل في التوقيت نفسه

يحصل في التوقيت نفسه

02 مايو 2015
+ الخط -
هو موسى وهي أمل، ما زال يتذكر أول مرة لمعت فيها عيناها بعد أول لقاء بينهما في حديقة جامعة الأزهر، متجذرة في ذاكرته لا تنمحي، أول مرةٍ، مشيا معاً على ناصية شارع النصر، عندما صبت عليهما السماء جام مائها، تلك كانت أول مرة يمسك فيها يدها و يركضان معاً نحو أحد سواتر الدكاكين ليحتميا من الهطل، ظل ساعتها يعتريه أمل مجنون بألا تنتهي تلك المسافة التي قطعاها نحو المظلات. وقفا معاً ولم تنبّهه المشاعر التي اجتاحته لحظتها إلى أنه مازال ممسكاً بشده يدها البارده المبتلة، تتلاقى أعينهما، بينما يرى ضفيرة من شعرها قد تدلت من غطاء رأسها على جبينها، حينما تبتسم وتداري خجلها. لم يشعر قبل هذه اللحظه بهذا القدر من الدفء الممزوج بنشوة سرت في كل جسده، الذي أخذ يرتجف مع نبضات قلبه المتسارعة. يرخي قبضة يده قليلاً وينطقها لأول مره بصوت هامس، كلمة الحب، فيما ظل المطر منساباً دون توقف لتبقى الأيادي متشابكة.

أول كتاب أهداه إليها كان لمحمود درويش، وأول زهره. تمضي الأيام والسنوات الأربع في أروقة الجامعة، وحديقتها ومقصفها، يزداد الحب تجذراً وتزداد روحهما ألفة وارتباطاً أزلياً لا ينتهي. يأتي يوم حفل التخرج، عندما يصعدان معاً نحو المنصة، وينزلان حاملين شهادات البكالوريوس وأحلام الزواج وبيت الأسرة وغرفة نوم أطفالهم الثلاثه الذين اتفقا على إنجابهم واختلفا على تسمياتهم.

تتكسر أحلامهما على أرض واقع الحصار والبطالة والفقر والموت المتفشي في غزة، لكن شعلة المحبة متقدة.

سأجرب حظي، وأحاول السفر عبر القوارب نحو شواطئ إيطاليا، يقولها موسى لأمل، بعدما فشل في إيجاد عمل يساعده على فتح منزل ومساعدة أسرته المكونة من أمه الأرملة وإخوته الصغار الخمسة، فإعاشة "أونروا" التي تتلقاها عائلته لا تكاد تسد رمق العيش لأكثر من بضعة أيام، تضطر نتيجتها والدته للعمل في أحد مشاغل الخياطة لساعات طويلة مقابل أجر بخس.

لم تكن أمل لترغب له أن يقوم بهذه المخاطرة، لكنها تؤمل النفس بأن يستطيع موسى العبور نحو شواطئ نابولي عله يجد فرصته هناك، إنها متيقنة من كونها أيضاً فرصتها الأخيرة لتبقي أملها في حلم الارتباط به حياً، على الرغم من اقتناعها الجازم أنها فرصة ضعيفة لكن خياراتها المعدومة جعلتها تتشبث بتلك القشة، فموسى لا يعرف حجم الضغوط الممارسة عليها من أهلها، بعد أن ظلت ترفض طالبي يدها من دون أسباب مقنعة، ومن دون أن تجرؤ على البوح لأبويها وإخوتها برغبتها في الارتباط بذلك الشاب المعدم، فهي تعرف، تماماً، جواب الرفض الذي ستقابله حيال هذا الأمر.

 تتلاقى النظرات، مرة أخرى، من عيون دامعة، تعود إليهما ذكرى لقائهما الأول، يستوعبان ساعتها المعنى المؤلم للمثل الشعبي "كل أول له آخر"، تتباعد الأجساد وتذوب متفرقة داخل جموع البشر الماشية في السوق، بينما يمتزج صوت الأذان بضجيج الزحام.

يحصل في التوقيت نفسه، فيما يحاول موسى الإمساك بطرف خشبة قاربه المهترئ المشارف على الغرق، في تلك الليلة المظلمة، أن تصعد أمل بثوبها الأبيض نحو قاعة احتفال زواجها من شاب يعمل في الخليج، وافق أهلها على أن ترتبط به. تتعالى أصوات الزغاريد وموسيقى الحفل، عندما ينصت موسى لصوت هدير البحر، يصم أذنيه، بعد أن بدأ يجتاحه ليغمر جسده، ويصل فمه رويداً رويداً، حتى بات يتسرب نحو أنفه، ويسد مجرى تنفسه. ها هو قد بات يحس ملوحة الموت في بلعومه، يسأل الله لطف القضاء، بينما يلقي نظرة أخيرة بعينيه نحو الفراغ الأسود، لعله يشاهد طيفها أو يسمع صوتها، علها تمسك يده التي رفعها في محاولته الأخيرة اليائسة للنجاة، فيما يشارف البحر على ابتلاعه، ترتسم في خياله أول نظرة ولمسة، أول كلمة أحبك، وأول زهرة وكتاب.

avata
avata
سامر ياسر (فلسطين)
سامر ياسر (فلسطين)