دورا.. ناسها كرام أهل جود

دورا.. ناسها كرام أهل جود

19 يونيو 2015
+ الخط -
ليست أفضل مكان، ولا أجمل بلد (على الأقل بالنسبة لي)، لكن ناسها كرام أهل جود، ممتدة في جنوب الخليل، تتوزع منها بعض القرى. من تضاريسها الجبلية العديدة العالية تشاهد سلسلة من تلال فلسطين، وسهلاً ساحلياً. قد ينجلي البحر المتوسط واضحاً يبرق بنور الشمس، عندما تصفو السماء. كثيرون ممن عرفتهم منحدرون منها كانوا خارجها، منهم من نزح هو أو أهله بعد النكسة، ومنهم من أرغمته الظروف على تركها سعياً خلف رزق، وحياة كريمة سلبها منهم الاحتلال.  

تفتخر المدن بشهدائها الذين قارعوا الاستعمار، ورجالاتها الذين أنجبتهم، فأصبحوا أعلاماً، من مفكرين ورجالات دولة. 

جنين تعتز بشهداء مخيمها، وعز الدين القسام، ذلك السوري الذي هاجر من مدينته جبله الساحلية إلى فلسطين، ليصنع نواة مسلحة ضد الإنجليز، فقتل على أرض يعبد وفيها دفن. دورا كذلك على غرار جنين وجبله، تعتز بشهدائها ورجالاتها، أهمهم، على الإطلاق، عرفته عبر موضوع تعبير لم أكتبه، ولكني قرأته على الملأ، أمام طلاب الصف الرابع، اسم لا يبدو لي معروفاً، مقارنة مع أسماء الشهداء التي تتلى من عبد القادر الحسيني إلى إبراهيم أبو ديه، وحسن سلامه، وغيرهم من شهداء الوطن الذين طلب منا أستاذ التعبير التنبيش عنهم، وصياغتهم في موضوع إنشاء. قرأت عن باجس أبو عطوان، تقول الحكاية أنه عاش في جبال دورا، مع مجموعه من رفاقه، مطارداً من جنود الاحتلال، ظل يقاتلهم وينصب لهم الكمائن، حتى قتلوه عن طريق أحد العملاء، شيّعه أهل البلد في جنازة حاشدة في بداية السبعينات، لاقت القصة استحساناً وتصفيقاً، أسعد كثيراً وأفتخر لأَنِّي من بلد باجس، بطل رواية "مات البطل عاش البطل" لمعين بسيسو. 

كاتب موضوع التعبير الذي قرأته، نفسه، كان فدائي، ومقاتل شرس، خرج من دورا يافعاً، وانضم لمقاتلي الثورة في لبنان، خاض كل معارك الثورة من الجبل إلى اجتياح بيروت، وانتهى به المطاف معلماً في إحدى مدارس عمّان، بنياشين ندوب منثورة على جسده، خلفتها شظايا قذائف، يتعالى عليها، ويعمل لتعيش أسرته. 

خرج منها ماجد، بدأ معلماً في مدارس الدمام، لينتخب في لجنة فتح المركزية، سموه لذلك القائد المعلم، قاد إعلام الثورة في بيروت، وتيار اليسار في فتح، ونسج العلاقات مع الأحزاب الوطنية في لبنان، والدولية خارجها، سافر إلى روما، لحضور مؤتمر يدعم القضية الفلسطينية، فعاجلته يد الموت في فندق فلورنسا بقنبلة تحت سريره، شيع في بيروت، ودفن فيها، فرثاه صديقه محمود درويش، "صباح الخير يا ماجد/ صباح الخير/ قم اقرأ سورة العائد وحث السير".

فيها ولد وعاش يوسف الخطيب (شاعر فلسطيني)، قبل أن يغادرها إلى الشام ويعمل في إذاعة دمشق، منجباً باسل الذي شدته الكاميرا والدراما، مخرجاً أيام الغضب، نزار قباني، وناصر.
أهم من هؤلاء كلهم، ما زال يعيش الآلاف. شباب أفنى حياته في غياهب السجون، وشباب يفنيها حاضراً، وآخرين سيفنوها مستقبلاً، تكتمل سلسلة الإفناء والأزمنه المتغيرة، وحدهما المكان، والألم، لا يتغيران، سجن حالك، ودمعة أم يعتصرها الفراق. بها تصحو سيدة من دفء الفراش، لتحضر لأطفالها فطور صباحهم قبل المدرسة. ومن هذا الصباح نفسه، يخرج آلاف من الرجال نحو أشغالهم، ليؤمنوا قوت أبنائهم ومصاريف مدارسهم وجامعاتهم، يحملون في حقائبهم بعض الطعام، وفي طيات قلوبهم أملاً في تغيير الحياة نحو الأفضل، ورغبة انعتاق من حواجز احتلال، وغطرسة جندي سايكوبات يتلذذ بتعذيب الآخر وإذلاله. في مدارسها معلم يوصل رسالته بشغف، على الرغم من أجره الزهيد الذي يتقاضاه كل شهر. 

دورا ليست مدينة فاضلة، ولا شاطئية تنام على البحر. تشبه في ناسها وحكاياهم، بفرحهم ومأساتهم، أي بلدة ومدينة في الوطن المحتل. لكن، فيها عاشت جدتي، وربت والدي الذي كبر ورحل، ظلت تنتظره ليعود. عاد أخيراً ولم يجدها، مثله والدي وصل متأخراً.
avata
avata
سامر ياسر (فلسطين)
سامر ياسر (فلسطين)