مقاطعة "إسرائيل".. من الإفتاء إلى الحركة

مقاطعة "إسرائيل".. من الإفتاء إلى الحركة

10 سبتمبر 2016
(ملصق صمّم بمناسبة "أسبوع الفصل العنصري")
+ الخط -

أرسل صديق يسألني إن كنت أعرف طريقة للتواصل مع إحدى حملات مقاطعة "إسرائيل"، وذلك لأنه يريد سؤالهم حول ما إن كانت مشاركته في كورس إلكتروني من تقديم محاضر إسرائيلي عبر موقع التعليم الشهير "كورسيرا" يعتبر تطبيعاً أم لا؟

لاعب مصري يرفض مصافحة لاعب إسرائيلي في "الأولمبيات" المنصرمة، جعل أحد الكتّاب المصريين يوجه سؤاله لمن سمّاهم "القوميين المتحجرين": إن حدث وصادفت إسرائيليًا في الخارج، هل أقول له "صباح الخير"؟

ما هو الإشكالي في الأسئلة أعلاه؟ هو أنّ الروح الفقهية (بالمعنى الضيق للكلمة) هي من تدفع السائل، وذاتها التي ستدفع المجيب. ثقافة الفتوى في التعامل مع الشأن السياسي، هي تعبير عن ضموره وليس تفتحه، نحن نعرف تاريخيًا أن تضخم "فقه الطهارة" كان على حساب تقلص "فقه السياسة" أو بأنه جاء جوابًا عليه في طبيعة تكره الفراغ.

تراعي هذه الفتاوى خصوصيات التجمعات الفلسطينية كما تراعي الفتاوى الفقهية حال السائل، فالفقه الذي يخص التجمعات الفلسطينية، موزعًا بين العزائم والرُخَص، بحسب الجغرافيا التي شكلها المستعمر: (الضفة، غزّة، فلسطينيو 48، اللاجئون في الدول العربية، المواطنون العرب، المغتربون الفلسطينيون... إلخ).

والفتاوى السياسية - بحكم التعريف - هي الإدارة الضميرية لشأن سياسي قائم، وليست برنامجاً سياسياً وسعيًا نحو تغيير القائم، نحتاجها لتحديد المواقع وليس في قصد مواقع قادمة. فيما الضميرية التي تحرّك السائل لمعرفة الحدود، هي ضميرية تخاف أن تُوغَز أكثر من حرصها على أن تتفاعل، حريصة على ألا يُملأ الفراغ الذي أمامها، وليست حريصة على ملئه هي.

لقد لاقت "المقاطعة" رواجاً بين الأكاديميين الفلسطينيين، وبدت كما لو كانت السقف المعقول لنضالاتهم بوصفهم مثقفين فلسطينيين، ورغم أهمية المقاطعة الأكاديمية لـ"إسرائيل"، إلا أنها بدت كما لو كانت اعتذارًا سياسيًا عن انغلاق السياسي نفسه، إن كنا نتحمس لأي مقاطعة تمارس ضد "إسرائيل" مهما كانت درجتها أو موقع انطلاقها، فإن ذلك لا يعني عدم التفكير بشكل المقاطعة الذي يفتح أفقًا للحركة الوطنية ولا يغلقه.

تُدفع "المقاطعة" باتجاه أن تكون مجانبة "إسرائيل" وتجنب مصافحتها، إنها "مقاطعة" وقد سُحب منها تكوينها المبادر، الذي يدفع باتجاه مطاردة "إسرائيل" في أماكن "طبيعيتها"، هناك حيث تلبس البدلة الأنيقة وتحضر المؤتمرات وتمشي في الممرات العالمية.

وهناك حيث تخلق صورتها بفعل مادي على الأرض، يجب أن نلاقيها، نعيد أكاديمييها لصفوف التجنيد في جيش الاحتلال، ونردّ منتجاتها في الأسواق إلى رصاص في الحرب، نقيم هذه العلاقات ليس على رافعة "الضمير الأخلاقي" للعالم، الذي وبحكم التجربة نعرف محدوديته، وإنما على فاعليتنا في الوجود التي تجعل من المقاطعة التي بدافع "السياسة" أو بدافع "الأخلاق" ممكنة لاحقاً.

فالمقاطعة بما هي كذلك، فعل عنيف إن كانت تنفي في حركتها النظام الاستعماري، ولأنها أيضاً لا تُفصل عن مجمل الأعمال العنيفة الأخرى التي تشاركها هدف نفي النظام الاستعماري، فإن "أفعال المقاومة" تأخذ معناها من المستقبل الذي تنشده والماضي الذي لا تريده والشبكات التي تنخرط فيها، من دفاعها عن وجودها ومن دفاعها عن إمكانات توسيع هذا الوجود.

وعادة ما تبرز لدينا التفضيلات بين أنواع المقاومة ليس في مساءلة نتائجها، وإنما في أجواء من المزايدة لا يهمها من السياسة إلا ما يمكن إدانة الخصم السياسي به.

و"التطبيع" هو عكس "المقاطعة"، إنه جعل الشيء طبيعيا، نقله من حالة الاصطناع والغرابة لحالة الطبيعية والعادية. وهذا يعني أن الانشغال بمحاربة التعوّد على "إسرائيل" وعاديتها في اليومي، هو جوهر المفهوم "تطبيع"، فتصبح المقاومة الفلسطينية والعربية خلخلة للنظام الذي يريد أن يكون عاديا ويستقر، بنية نسعى لهدمها أو مقاومتها أو على الأقل زحزحة عناصرها التي تتشكل منها، وذلك أضعف الإيمان.

وبالتالي فإن المفهومان: "المقاطعة" "التطبيع"، ينتميان لفضاء الحركة، وليس لفضاء التداول الفقهي، لا يعني هذا أن الحركة تشتغل على النقيض مع الحكم والتصنيف، لكنها تحمل ما خفّ منه، وما لا يعيق تقدمها، ما كان منه يطمح لضم الناس وليس طردهم من رحمة الوطنية، وهي تعرف أعداءها جيدًا وتسميهم بأسمائهم، وتحرص باستمرار على أن يكونوا قلّة، تُفرّق بين الخطأ والخطيئة في الوطنية، وتعرف من "شرح بالتطبيع صدراً"، لأن هذا الأخير ليس خارج حركة المقاطعة وحسب، وإنما هو يقف ضدها، ووقوفه هذا ليس لأن شروطها غير قائمة بل لأنه يحول - هو بنفسه - دون قيام تلك الشروط.

إن "التطبيع" و"المقاطعة" كلاهما بنية من العلاقات، فعلى سبيل المثال: الرأسمالية الفلسطينية والاقتصاد الإسرائيلي، ينتظمان في أفق رسمته اتفاقية باريس ومجمل التفاعلات الاستعمارية والتواطؤية المحلية الأخرى، ويبدو أن تتبع علاقات التطبيع يفضي إلى نهايات الأنظمة الوجودية التي سمحت بها "إسرائيل" للجماعة الفلسطينية وكرّستها كسقف لما هو مسموح به في السياسية: من الكنيست وحتى السلطة الوطنية، عملت هذه الأنظمة كموقع لانتظام البنى التطبيعية إما داخلها أو خارجها، إما بحسن نية أو بسوئها، وقفت هذه العلاقات كعائق حقيقي أمام نشوء شروط حاملة للمقاطعة الفعالة لـ"إسرائيل".

هذا الفهم البنيوي مهم لطبيعة الحركة، لكي ترسم استراتيجياتها وخططها، ولكنه يصبح عائقًا أمامها، إن تضخم وحال بينها وبين نفسها. يشبه الأمر طائر "الالباتروس" الأسطوري في قصيدة بودلير، الذي تضخم جناحاه لدرجة لم يعد بعدها قادراً على الطيران.


(كاتب فلسطيني/ رام الله)