معركة بدر بعيون معاصرة

معركة بدر بعيون معاصرة

28 مايو 2019
+ الخط -
إنها من أهم وأكبر الأحداث التي عرفها المسلمون، وهي محطة للتوثب والتحفز وتجديد معاني المدد الإلهي، حيث انتصر المؤمنون في السابع عشر من رمضان من السنة الثانية للهجرة، على قلتهم، على من ظلمهم وسلب أموالهم وطردهم من وطنهم، وهم ما زالوا حركة مجتمعية فتية، بالكاد تُؤسس كيانها المدني المؤسساتي في المدينة المنورة، بعد التعسّف والمعاناة اللذين لاقتهما في مكة، ما اضطرهم للهجرة. وقبلها تعرض رسول الله ومن معه للأذى وعذبوا، فكانت الهجرة إلى الحبشة قبلها. ثم حاولت قريش ضرب الرأس والقضاء على هذا الحزب الفتي وسطها من دون أن تفسح له الفرصة للتعبير عن نفسه، أي لم تكن ديمقراطية بالمصطلح الحديث، ولم تكن تسمح بالتعددية السياسية أو الفكرية، فقررت توجيه ضربة قوية، وتفرقة دمه بين القبائل، فلم تكن تتكلم آنذاك قريش إلا عسكرياً وأمنياً عبر التصفية الجسدية لصاحب الدعوة الجديدة.
بمفاهيم اليوم، كان حكم قريش ظالماً، وكانت تشكل القوة الإقليمية آنذاك في المنطقة وتجْمع حولها عدداً من القبائل وتربطها علاقات وتحالفات وتجارة مع الشام وعدد من المناطق، وهي إحدى قوى المنتظم الدولي الناشئ آنذاك من إمبراطوريات ومماليك كانت تحترم بعضها ولم يكن التواصل كما اليوم. ولم يتطور الصراع للسيادة الدولية آنذاك، خصوصا أن المجتمعات حينها كانت بدائية ومحدودة الأفق قبل ظهور الإسلام الذي سيكون سباقاً لانعتاق البشر من العبودية، ومما كان يمارس دوليا وإقليميا ومحليا من تجبر وقهر وتجارة رقيق وبقية الممارسات في الحكم أو مدنيا. كان السيف هو الفيصل في النزاعات الصغيرة والكبيرة "العتاد العسكري آنذاك، قبل النووي اليوم".
حاولت إحداها (الدول آنذاك) كسر شوكة قريش وأحد أسرار قوتها التجارية والاقتصادية والسياحية والسياسية الجامعة لأتباع ملة إبراهيم عليه السلام الذين كانوا يحجون إلى البيت، والاستيلاء على مركز قوتها "الحج"، وشنت حربا على البيت لتحويل مكانه، فكانت الهزيمة وما تعرفونه بما سمي عام الفيل.
المنطقة التي كانت تعرف حروباً بين الفينة والأخرى، واستقر الحكم فيها لقريش على المنطقة، لم تستوعب ظهور فئة وسطها تدعو إلى فكر جديد، والقطع مع عبادة الأصنام، والدعوة إلى عبادة الله الواحد الأحد. ولذا استعملت كل الإغراءات والضغوط والمساومات، وتحركت نحو التعسف والسجن والتعذيب لكل من خرج عن طوعها وفكرتها وحكمها، حيث رأت في الحركة الجديدة، على قلة أفرادها وصغر إمكاناتهم، خطورة على سيطرتها وتحكمها في المنطقة وثرواتها وسيادتها ووجاهتها وهيبتها وسط القبائل والمماليك ذلك الزمان.
خروج الفئة المؤمنة مع رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام جعل قريش تستولي على ما تركه هؤلاء بمكة، حين هربوا بدينهم لينجوا من بطش أباطرة الظلم والاستبداد والفساد آنذاك، فلما سمع المسلمون أن أبا سفيان قد خرج بأموالهم وقوافلهم من الشام، أرادوا استعادة ما سلب منهم والخروج لاعتراضه. هكذا بدأ أوار وشرارة المواجهة.
علم أبو سفيان بالأمر، فنجح في الفرار، لكن بنية الانتقام وفرصة القضاء التام على هذه الحركة المجتمعية الناشئة في المدينة المنورة، ومحوها من الوجود، التي باتت تهدد بظهورها ونجاح استمرارها مكانة قريش وحكمها بالمنطقة. فكيف استطاع المسلمون على قلتهم فرض معادلة جديدة في المنتظم الدولي، والانتصار على قوة محلية وإقليمية تفوقهم عسكريا واقتصاديا؟ وكيف وحد رسول الله بين فئات مختلفة من المسلمين، فيهم الأوس والخرزج (الأنصار) والمهاجرون، وهم من طبائع ومعادن مختلفة؟
استولى المؤمنون بدين محمد، عليه الصلاة والسلام، على مصادر المياه، على بعد 310 كلم من مكة، و155 كلم من بلدهم الجديد المدينة المنورة، وأصرّوا على الدفاع عن أنفسهم أمام غطرسة قريش، وهيمنتها العسكرية والاقتصادية، فكان لهم الانتصار بعد مواجهة بمعايير وموازين قوى تلك الحقبة. فكان أمامهم، إما أن يموتوا ويقتلوا في سبيل الله، أو يدفعوا عن أنفسهم الموت، ويطيحوا بالعدو. فكان لهم الدعم الغيبي على قلة عددهم.
تحول محمد عليه الصلاة والسلام ومن معه إلى رقم صعب، وتم فرض منطق جديد، وكسر شوكة قريش داخلياً وخارجياً، بجيش بإمكانيات هزيلة إن لم نقل منعدمة، بعدما كانوا يبدون فريقاً من الناس تسهل إبادتهم وتجاوزهم.
قوة بالكاد تهاجر وتعلن عن نفسها وتؤسس لها كياناً في المدينة المنورة، امتد إلى مناطق أخرى، وبالتالي قطع الطريق تجارياً واقتصادياً على قريش نحو الشام، بما يعنيه ذلك بلغة اليوم من تداعيات ونتائج وحسابات ومصالح.