مدد يا أصحاب المقام الرفيع

مدد يا أصحاب المقام الرفيع

13 ديسمبر 2014
+ الخط -

بقدر تحمسي لمشاهدة جلسة النطق بالحكم على حسني مبارك، من القاضي أحمد رفعت، بقدر ما كان زهدي في مشاهدة جلسة النطق بالحكم الأخيرة، واكتفيت بمعرفة ملخصها الذي كان قد أصبح واقعاً وحكماً مقضياً بعد انقلاب يوليو، غير أنه لفت نظري أن رئيس الجلسة استحدث بروتوكولا قضائياً جديداً، في أنه قدم الشكر والثناء في وثائق مكتوبة لمن وصفهم بـ"أصحاب المقام الرفيع"، وبعضهم من أعضاء النيابة حديثي التعيين.

الوصف الذي قدمه رئيس محكمة جنايات القرن، كما يحلو لبعضهم أن يصفها، يلخص المشهد المصري في عمومه، والذي أشارت إليه من قبل أغنية "احنا شعب وانتو شعب"، ويعتبر الحكم المذكرة التفسيرية لما أوجزه مؤلف الأغنية، شعب أصحاب المقام الرفيع وشعب عديمي المقام أو ذوي المقام الوضيع. وعلى ما يبدو، فإن أصحاب المقام الرفيع أو الطبقة "العليوي" قرروا تجاوز مرحلة التطفل على ثروة البلاد، والانتقال إلى مرحلة استعباد عديمي المقام، والانتقال المبتسر من المرحلة الأولى إلى المرحلة الثانية، ربما كان السبب الرئيسي في الحراك الشعبي الذي أنتج ثورة يناير.

ليست الفكرة جديدة، وما كان لهؤلاء أن يستحدثوا أو يبتكروا، فهم، على ما يبدو، لا يجيدون القراءة الرشيدة. إن نظرية الكبر والتعالي قديمة قدم البشرية، وهي أول نظرية فتح عليها أبونا، آدم عليه السلام، عينيه، بعد أن نفخ الله فيه من روحه، عندما امتنع إبليس عن السجود له كبراً وعلواً، غير أن اليهود هم من قاموا بعملية هندسة الفكرة وبلورتها وإعطائها الأساس الفلسفي، عندما قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، ثم طوروا النظرية لتصبح: ليس علينا في الأميين سبيل، أي ليس علينا في أموال الأميين سبيل. وعلى الرغم من أن الواضح البيّن أن الأميين في مصر الآن هم، في غالبهم، من مؤيدي الانقلاب، بل إن رأس الانقلاب ومساعديه من جنرالات الجيش قد ضربوا مثالاً صارخاً في الضعف الثقافي والفكري، فضلاً عن الضعف المهني والفني، إلا أنهم قد تبنّوا النظرية الإسرائيلية التي ما طبقها اليهود في أي دولة، حتى أنتجت، في النهاية، نتيجة واحدة، تتكرر، في كل الأزمان، وهي ذبحهم أو حرقهم أو استعبادهم واسترقاقهم.

كان حكم القاضي الوسيم ببراءة مبارك، في حقيقته، قضاء ضمنياً بإعدام الدولة، فالدولة وبراءة مبارك نظريتان لا يمكن أن يوجدا في مكان واحد، غير أن دلائل تلاشي الدولة على أرض مصر لا تتوقف على إنكار التجبر على الفرعون، وإخلاء سبيله من سلطة القضاء، وإنما امتدت إلى عطب أصاب السلطتين الأخريين، التنفيذية والتشريعية، والأخيرة أهدرتها المحكمة الدستورية، فلم تقم من بعد، ولا أمل في أن تقوم إلا على أنقاض الانقلاب والانقلابيين، أما السلطة التنفيذية فحدث ولا حرج، عن رئيس لا يكاد أن ينبس ببنت شفته، حتى يسخر منه القاصي والداني، ورئيس وزراء متهم في قضايا تربح وفساد، ووزراء أفضل ما أجادوا أن انتظموا في طابور الصباح، بعد التنزه "واحدة واحدة يا بسكلته"، خلف قائد الانقلاب على طريقة شادية وكارم محمود.

اسمحوا لي، هنا، أن أقول إن مصر تعيش مرحلة ما قبل الدولة، وهي مرحلة من العشوائية بمكان، بحيث لا تدري نفس فيها ماذا تكسب غداً، ولا بأي أرض تموت، فلا عصمة لأحد فيها، ولا حتى لمن يسمّون مجازاً بالجنرالات، وقد قاموا، في الصباح، ليجدوا العامة والدهماء، وقد تداولوا أحاديثهم التي أسر فيها رئيس أركان الجيش القول لوزير الداخلية في أمر يتعلق برئيس الجمهورية السابق، في حضور مدير مكتب رئيس الجمهورية الحالي.. فهل يمكن تسمية هؤلاء جنرالات؟ وهل يمكن أن يكون هذا جيشاً يستطيع أن يذود عن حوض الوطن؟ وإذا كان في إمكان بائعة الفجل التي أشار إليها الشيخ حسان أن تستمع في الصباح لحديث الجنرالات في المساء، وهو الموسوم بخاتم "سري جداً"، فكيف يمكن مطالبتها بالتبرع لصندوق تحيا مصر؟

يبدو أن أصحاب المقامات الرفيعة في مؤسسات الدولة قد تعلموا من اليهود درس الكبرياء، وصعبت على فهمهم مهارات اليهود ومكرهم، فظهروا أقزاماً مهانين في عالم المقامات الدولية.

avata
avata
محمود حشله (مصر)
محمود حشله (مصر)