غادر المسلحون وأهلهم حيّ الوعر الحمصي المحاصر. غادروا أرض الجوع والقتل والقهر باتجاه إدلب في رحلة مليئة بالدموع
"كان عمري تسع عشرة سنة عندما بدأ حصار حي الوعر قبل خمس سنوات، وخرجت منه وعمري أربع وعشرون سنة. ولدت مجدداً بتحرري من الحصار، لكنّي متّ بخروجي من أرضي، فروحي باقية هناك تجوب أنحاء الحيّ الحمصي"... هي كلمات للناشط من الحيّ محمد الحمصي الذي خرج منه قبل أيام في الاتفاق الأخير المبرم مع النظام والقاضي بإخراج المسلحين المعارضين وأهلهم إلى مناطق أخرى تابعة للمعارضة.
يصف الحمصي الساعات القليلة قبيل صعودهم إلى حافلات رحلتهم المجهولة الهوية - كما يصفها - وخروجهم من الوعر، إنّها ساعات مشاعر مرتبكة، إذ تارة ما كان الفرح يراود المهجرين بخروجهم من حصار الجوع والعطش والقتل والتدمير، وتارة كان الحزن والبكاء يخالطهم لفراقهم أرضهم ومنازلهم وعلمهم أنّ العودة إلى الحيّ باتت شبه مستحيلة أو تحتاج إلى كثير من الوقت.
لدى وصول حافلات نقل المهجّرين، ومع عدم تمكن محمد من النوم، يقول إنّ قدميه كانتا تتحركان على الرغم منه إلى الحافلة الخضراء على وقع أهازيج الوداع من رفاقه وأهله والدموع والأدعية بالعودة القريبة. جلس إلى الجانب الأيسر من الحافلة وهو يلقي نظرة الوداع الأخيرة على الحيّ الذي ترعرع فيه وسيهجره مرغماً، لتمتلئ الحافلة بالأهالي وتبدأ عملية تنظيمهم من قبل متطوعي الهلال الأحمر المشرف على عملية النقل.
انطلقت الرحلة في الساعة الواحدة ظهراً، في اليوم الأول من شهر أبريل/ نيسان الجاري. ومع وصولها إلى أول حاجز للنظام، وفي أول لقاء مباشر بين الأهالي والجنود عقب قصف طاولهم طوال خمس سنوات، يقول محمد: "لم يكن حاجز قوات العدو كما كنا نعهده قبل الحصار. كان مجندان يافعان يتوليان الخدمة عليه، وكانت هناك وجوه كثيرة أجنبية، فسألت نفسي، أين باتت البلاد؟".
يتابع، إنّهم نزلوا من الحافلة الأولى عند هذا الحاجز منهكين من الجوع: "كانت عمليات التفتيش هناك دقيقة وفظّة وبنظرات يملأها الحقد والكره، كان البحث داخل الحقائب عن أسلحة أو متفجرات، لكنهم لم يجدوا سوى ثياب بالية مهترئة أكل الزمن عليها وشرب. لم يجدوا في حقائب المهجرين قطعة خبز واحدة، صعدنا بعدها إلى الحافلة الثانية التي ستكون صديقة رحلة من 14 ساعة مقبلة".
اقــرأ أيضاً
"كان عمري تسع عشرة سنة عندما بدأ حصار حي الوعر قبل خمس سنوات، وخرجت منه وعمري أربع وعشرون سنة. ولدت مجدداً بتحرري من الحصار، لكنّي متّ بخروجي من أرضي، فروحي باقية هناك تجوب أنحاء الحيّ الحمصي"... هي كلمات للناشط من الحيّ محمد الحمصي الذي خرج منه قبل أيام في الاتفاق الأخير المبرم مع النظام والقاضي بإخراج المسلحين المعارضين وأهلهم إلى مناطق أخرى تابعة للمعارضة.
يصف الحمصي الساعات القليلة قبيل صعودهم إلى حافلات رحلتهم المجهولة الهوية - كما يصفها - وخروجهم من الوعر، إنّها ساعات مشاعر مرتبكة، إذ تارة ما كان الفرح يراود المهجرين بخروجهم من حصار الجوع والعطش والقتل والتدمير، وتارة كان الحزن والبكاء يخالطهم لفراقهم أرضهم ومنازلهم وعلمهم أنّ العودة إلى الحيّ باتت شبه مستحيلة أو تحتاج إلى كثير من الوقت.
لدى وصول حافلات نقل المهجّرين، ومع عدم تمكن محمد من النوم، يقول إنّ قدميه كانتا تتحركان على الرغم منه إلى الحافلة الخضراء على وقع أهازيج الوداع من رفاقه وأهله والدموع والأدعية بالعودة القريبة. جلس إلى الجانب الأيسر من الحافلة وهو يلقي نظرة الوداع الأخيرة على الحيّ الذي ترعرع فيه وسيهجره مرغماً، لتمتلئ الحافلة بالأهالي وتبدأ عملية تنظيمهم من قبل متطوعي الهلال الأحمر المشرف على عملية النقل.
انطلقت الرحلة في الساعة الواحدة ظهراً، في اليوم الأول من شهر أبريل/ نيسان الجاري. ومع وصولها إلى أول حاجز للنظام، وفي أول لقاء مباشر بين الأهالي والجنود عقب قصف طاولهم طوال خمس سنوات، يقول محمد: "لم يكن حاجز قوات العدو كما كنا نعهده قبل الحصار. كان مجندان يافعان يتوليان الخدمة عليه، وكانت هناك وجوه كثيرة أجنبية، فسألت نفسي، أين باتت البلاد؟".
يتابع، إنّهم نزلوا من الحافلة الأولى عند هذا الحاجز منهكين من الجوع: "كانت عمليات التفتيش هناك دقيقة وفظّة وبنظرات يملأها الحقد والكره، كان البحث داخل الحقائب عن أسلحة أو متفجرات، لكنهم لم يجدوا سوى ثياب بالية مهترئة أكل الزمن عليها وشرب. لم يجدوا في حقائب المهجرين قطعة خبز واحدة، صعدنا بعدها إلى الحافلة الثانية التي ستكون صديقة رحلة من 14 ساعة مقبلة".
انطلقت تلك الحافلة باتجاه مدينة حمص، دخلت في شوارعها وأحيائها، ووصلت إلى الحاجز الثاني. هناك كان في انتظارهم طلاب جامعة البعث (جامعة حمص) رفقة عصام المصري، مدير أوقاف حمص وعضو لجنة المصالحة يرافقه الأب ميشال، أحد أعلام المسيحيين في المدينة. كان الطلاب يحملون لافتات تمثل أحياء حمص الموالية وتدعو إلى بقاء المهجّرين داخل حمص ورفض تهجيرهم، ودعوتهم إلى تسوية أوضاعهم بعد مرسوم العفو الصادر عن الرئيس السوري بشار الأسد.
يعلق محمد: "انفجرنا ضحكاً داخل الحافلة من هذا المشهد الساخر، فتلك اللافتات تحمل أسماء أحياء مثل الزهراء والمزرعة، وهي الأحياء نفسها التي كانت تطالب بقصف وتسوية حي الوعر أرضاً، وذبح جميع من فيه، كما أنّ عمليات القصف على الوعر التي تسببت في قتل أطفال ونساء هذا الحي كانت جميعها تتبع أوامر ضباط وأبناء الأحياء الموالية للنظام".
تقول أم رائد، وهي إحدى المهجّرات من حي الوعر: "أثناء مرورنا في أحياء حمص القديمة، شاهدنا للمرة الأولى كيف تحولت مدينة حمص الجميلة إلى مدينة خربة، كأنّ أرواح الشهداء تملأ هذا المكان فرائحة الموت تغطي حمص من كلّ جانب، وكانت المرة الأولى التي نتجول خلالها هناك ونشاهد حقيقة ما جرى فيها، وهو نفسه ما جرى لنا عندما كنا نُقصف في حي الوعر طوال خمسة أعوام".
تصف حال طفلها رائد الذي يبلغ أربعة أعوام والذي ولد بين فكّي الحصار والقصف: "كانت دهشته كبيرة عندما ركب في الحافلة فقد كانت المرة الأولى التي يشاهد فيها حافلة أو حتى سيارة. كأنّه ولد في عصور قديمة، هو لم يرَ داخل حي الوعر أكثر من عربة محلية الصنع كانت تستخدم لإسعاف الجرحى. كذلك، أبدى دهشته عندما انتقل إلى شوارع حمص المليئة بالسيارات والمحلات التجارية مما لم يره يوماً".
تقول أم رائد التي أنهك الحصار جسدها النحيل، إنّ عناصر النظام تصرفوا بغلاظة مع الركاب كلّما مرّوا عند حاجز: "كان صوت ضحكهم يصل إلينا مع مئات الشتائم التي تصف الأهالي بالإرهابيين، عدا عن حركات وقحة بأصابعهم، فكأنّهم يتباهون بانتصارهم علينا بتهجيرنا".
عقب رحلة طويلة مليئة بالتعب والخوف وانتظار المجهول وصلت الحافلات إلى إدلب، شمال سورية. قد يكون أماناً جزئياً من الجوع والحصار، لكنّ الخوف يستمر باستمرار سقوط قذائف النظام.
اقــرأ أيضاً
يعلق محمد: "انفجرنا ضحكاً داخل الحافلة من هذا المشهد الساخر، فتلك اللافتات تحمل أسماء أحياء مثل الزهراء والمزرعة، وهي الأحياء نفسها التي كانت تطالب بقصف وتسوية حي الوعر أرضاً، وذبح جميع من فيه، كما أنّ عمليات القصف على الوعر التي تسببت في قتل أطفال ونساء هذا الحي كانت جميعها تتبع أوامر ضباط وأبناء الأحياء الموالية للنظام".
تقول أم رائد، وهي إحدى المهجّرات من حي الوعر: "أثناء مرورنا في أحياء حمص القديمة، شاهدنا للمرة الأولى كيف تحولت مدينة حمص الجميلة إلى مدينة خربة، كأنّ أرواح الشهداء تملأ هذا المكان فرائحة الموت تغطي حمص من كلّ جانب، وكانت المرة الأولى التي نتجول خلالها هناك ونشاهد حقيقة ما جرى فيها، وهو نفسه ما جرى لنا عندما كنا نُقصف في حي الوعر طوال خمسة أعوام".
تصف حال طفلها رائد الذي يبلغ أربعة أعوام والذي ولد بين فكّي الحصار والقصف: "كانت دهشته كبيرة عندما ركب في الحافلة فقد كانت المرة الأولى التي يشاهد فيها حافلة أو حتى سيارة. كأنّه ولد في عصور قديمة، هو لم يرَ داخل حي الوعر أكثر من عربة محلية الصنع كانت تستخدم لإسعاف الجرحى. كذلك، أبدى دهشته عندما انتقل إلى شوارع حمص المليئة بالسيارات والمحلات التجارية مما لم يره يوماً".
تقول أم رائد التي أنهك الحصار جسدها النحيل، إنّ عناصر النظام تصرفوا بغلاظة مع الركاب كلّما مرّوا عند حاجز: "كان صوت ضحكهم يصل إلينا مع مئات الشتائم التي تصف الأهالي بالإرهابيين، عدا عن حركات وقحة بأصابعهم، فكأنّهم يتباهون بانتصارهم علينا بتهجيرنا".
عقب رحلة طويلة مليئة بالتعب والخوف وانتظار المجهول وصلت الحافلات إلى إدلب، شمال سورية. قد يكون أماناً جزئياً من الجوع والحصار، لكنّ الخوف يستمر باستمرار سقوط قذائف النظام.