جيش هذا أم ميليشيا؟

19 يونيو 2014

جدارية تظهر جُنداً آشوريين في قصر الشمالية-نينوى (Getty)

+ الخط -
غداة سقوط بغداد، في التاسع من إبريل/ نيسان 2003، عمد بول بريمر إلى فرط الجيش العراقي برمته، بذريعة متهافتة، هي أن إعادة تكوين الدولة العراقية الجديدة تحتاج إلى إعادة تأليف جيش جديد تماماً. وتبيّن، في ما بعد، أن هذا الجيش الجديد، الذي جرى جمعه من هنا وهناك، مجرد ميليشيا طائفية، لا تمتلك البتة أي عقيدة عسكرية، تحدد مَن هو العدو ومَن هو الصديق. وهذا ما كشفته، بجلاء ما بعده جلاء، وقائع الأحوال الجارية في العراق، بُعيد سقوط الموصل وجوارها في أيدي مقاتلي "الدولة الاسلامية في العراق والشام".
قدمت هذه الوقائع برهاناً جديداً، يُضاف إلى عشرات البراهين الأخرى، على أن السياسة الأميركية في العراق كانت خرقاء، إذا ما قيست على المصلحة العراقية؛ فهي دمرت العراق، ومنحت إيران أوراقاً قوية في لعبة القوة والنفوذ في الشرق الأوسط، وأطلقت سُعاراً طائفياً ما برح يتفاقم في كل مكان. أما إذا قيست هذه السياسة على المصلحة الإسرائيلية، فلا ريب في أنها سياسة ناجحة جداً، فما فعلته أميركا في العراق كان مرغوباً في حد ذاته، أي تدمير الجيش العراقي كقوة احتياط في مواجهة إسرائيل، وتشتيت العناصر البشرية القابلة للتجمع على أسس قومية في المشرق العربي.
لم يبنِ نوري المالكي جيشاً على الإطلاق، بل أسس ميليشيا طائفية لحفظ "الأمن" في الداخل، واعتمد على إيران لحفظ أمنه في النطاق الإقليمي. ولتعصبه الطائفي، لم يتورع عن تهميش السُنّة، أينما استطاع، وها هو اليوم يتباكى على اللبن المسكوب، ولم يتعلّم، كما يبدو، أن من غير الممكن أن يقتل المرء أمه، ثم يختبئ عند خالته. وفي معمعان هذه الوقائع، يبرهن الإيرانيون، مجدداً، أنهم أفضل لاعب إقليمي في حالات الفوضى، فقد كسبوا أوراقاً في أفغانستان، بعد سقوط حكم "طالبان" في سنة 2001، من دون أن يدفعوا درهماً. و"أكلوا" معظم العراق، من غير أي حرب. وها هم يُضيفون إلى أوراقهم في هذا البلد المعذب أوراقاً قابلة للصرف في السياسات النووية والنفطية. ومن غرائب الدهور أن تصبح إيران، المصنّفة دولة داعمة للإرهاب، حليفة لأميركا في مكافحته.
يقول مونتسكيو، في كتابه: "روح الشرائع"، إن أخلاق الصينيين، على خلاف أخلاق الإسبان، تتّسم بعدم الأمانة، وهم أشد شعوب الأرض خداعاً، خصوصاً في التجارة، فعلى مَن يريد أن يشتري منهم أن يحمل ميزانه الخاص، لأن لكل تاجر صيني ثلاثة موازين: ثقيل للشراء، وخفيف للبيع، وعادل لمَن يعرف الحق. والإيرانيون منغمسون بهذه "الشطارة" الآسيوية، فلديهم موازين كثيرة: ميزان لسورية، وميزان للسعودية، وميزان لأميركا، وميزان لمصر... وهكذا. وبفضل هذه الموازين، صارت إيران لاعباً مقرِّراً في العراق وسورية، وله تأثير كبير في الخليج العربي والسعودية واليمن ولبنان، بينما لم تكن، قبل ربع قرن تقريباً، تمتلك أي قدرة على فرض مواقفها على محيطها العربي، لا سيما العراق وسورية. وحدها السياسة الأميركية، ومعها الهبل العربي، جعلا إيران قوة حماية لبلد مهم كالعراق في عهد نوري المالكي.
هل يعود المشرق العربي، في خضم هذه التحولات المروِّعة، إلى حقبة حماية الأقليات من الخارج: إيران لحماية الشيعة، وتركيا لحماية التركمان والسُنّة أحياناً، وأميركا لحماية الأكراد، والقاعدة لحماية السُنّة، والمهاجر الغربية للمسيحيين والصابئة، إنه كابوس مرعب، فيما لو تحقق يوماً ما.
كان الملك فيصل الأول يقول إنه لا وجود لشعب عراقي، وإنما لأناس كثيرين يفتقدون أي نزعة وطنية، ومشبعون بالعقائد الدينية والخرافات، وهؤلاء يصغون لأي دسيسة، ويميلون إلى التمرد على أي حكومة مهما كانت. وأراد الانكليز تأسيس العراق بعد سنة 1920 على الروابط العشائرية والطائفية. أما فيصل، فحاول تأسيس البدايات الأولى للهوية العراقية على فكرة العروبة، وهي قوة دمج، وفكرة بديلة عن الهويات البدائية الممزِّقة، سني ـ شيعي ـ كردي ـ آشوري ـ تركماني. ولا شك في أن النظام الجمهوري طوّر هذه الهوية إلى مؤسسات مركزية، وصار هناك شعب عراقي إلى حد كبير. ظهر العراق الحديث بلداً مؤلفاً من ملك وجيش ودولة، لكن عبد الكريم قاسم قضى على الملكية، وأنهك صدام حسين الجيش في حروب خاسرة، وقضى الأميركيون على الدولة والجيش معاً، فتسيّدت إيران و"داعش" المشهد العراقي كله، فيا للهول!
دلالات