حديث الفيدرالية والضمائر السعيدة في لبنان الحزين

حديث الفيدرالية والضمائر السعيدة في لبنان الحزين

22 يوليو 2023
+ الخط -

لا يُلام اللبنانيون على صراخهم واحترارهم وصخبهم ونَزَقهم وشتائمهم التي تطاول جميع من أوصلهم إلى هذه الحال، ولا سيما وهم يشاهدون في كل يوم وطنهم يسير نحو الانحلال المتسارع. وباستثناء مجموعات من المتنوّرين والناشطين غير الطائفيين والعَلمانيين وبعض المثقفين اليساريين الذين أفنوا أعمارهم في نقد السلطة السياسية، وفي النضال ضد سلطات زعماء الطوائف وقادة الأحزاب الطائفية، فإن صورة لبنان اليوم تكاد تُفصح، بجلاءٍ ما بعده جلاء، عن أن جزءًا كبيرًا من الشعب اللبناني يتوزّع كأجسام طائفية تسير بانتظام وراء كرّازها بلا تفكير؛ فتنعطف حيث ينعطف وتتوقف حين يتوقف. وهي تضم نخبًا لم يعرف تاريخ لبنان منذ تأسيسه في سنة 1920 نخبًا فاسدة ومنحطة مثلها، ومتهالكة على جمع الثروة بأي طريقة، ولا تخجل من استحذائها لزعماء الطوائف وتوابعهم من رجال الدين المتعصبين، ورجال الأعمال النهمين، ولرجال السياسة الجشعين الذين لم يتورّعوا حتى عن سرقة لقاحات كورونا بطريقة مهينة ومبتذلة يأباها أحطّ اللصوص، وتنفر منها الضباع المقروحة. والصورة هذه ما عاد ينفرد بها لبنان وحده، بل لعلها صارت نمطية في البقاع العربية من بيروت إلى البصرة. ولو كان في لبنان عدلٌ لامتلأت السجون، ذلك لأن لبنان لا يعاني نقص الأموال بل كثرة اللصوص، ولولا النواطير لحملت الكروم القناطير.

لا يتفق القادة اللبنانيون على أي شيء البتة؛ هذا هو دأبهم وديدنهم منذ أعلن الجنرال الاستعماري غورو تأسيس "دولة لبنان الكبير" في سنة 1920 خلافًا لآراء سبعين في المئة من السكان الذين لم يقتنعوا آنذاك بجدوى تلك الدولة. وقبل نحو ثلاثة أشهر، اختلف اللبنانيون على التوقيت الصيفي الذي جاء متقاربًا مع شهر رمضان، وتحوّل الخلاف بسرعة إلى صراع طائفي واحتراب هوياتي وثقافي وحضاري. والمعروف في التاريخ الحديث أن اللبنانيين لم يتفقوا على دولة لبنان الكبير وطنا لهم، ولا على الانفصال عن سورية، بل انقسموا طرائق وتمزّقوا خرائق. واختلفوا، بعد استقلال البلدين في سنة 1943، على المصالح المشتركة السورية – اللبنانية (النقد وسكّة الحديد والتبغ والتنباك والجمارك) فانفكّت الوحدة الاقتصادية في سنة 1950. وانقسموا على الوحدة السورية – المصرية في عام 1958، فكانت الحوادث المسلحة في تلك السنة. واختلفوا على الموقف من العمل الفدائي الفلسطيني، فاندلعت الاشتباكات النارية التي انتهت إلى اتفاق القاهرة في 1969. وعلى هذا المنوال، اختلفوا وتباينوا واصطرعوا على الوجود السوري في لبنان في 1976، وعلى مقاومة إسرائيل بعد عام 1982، وعلى النزوح السوري بعد 2012، وعلى صعود الشيعة في النظام السياسي اللبناني بعد حرب تموز/ يوليو 2006، حتى باتت بيروت الزاهية والزاهرة "مغمورة بأنقاضها" (أدونيس، أدونيادا، بيروت: دار الساقي، 2022). والواضح أن مَن خرّب لبنان وجعل بيروت مغمورةً بأنقاضها هم الزعماء اللبنانيون "ما غيرهم"، ولا أحد سواهم.

لا يتفق القادة اللبنانيون على أي شيء البتة؛ هذا هو دأبهم وديدنهم منذ أعلن الجنرال الاستعماري غورو تأسيس "دولة لبنان الكبير" في سنة 1920

... صار من البدهي القول إن التفتيش عن مخرج دائم للأزمة العميقة التي تعصف بالكيان اللبناني كالبحث في غرفة مظلمة عن قطّة سوداء غير موجودة. وهذه الحال المروّعة تشير إلى فشل الدولة اللبنانية في صهر مجموعات الطوائف على أساس المواطنة والولاء للوطن، وهي مهمّة ما كانت مطروحة البتة على العقل السياسي اللبناني منذ الجلاء الفرنسي في نهاية عام 1946. وبالتالي، لم يعرف لبنان "الدولة" منذ البداية، بل عرف ما يشبه "الدولة"، وإنْ لها دستور وقوانين ومؤسسات. واليوم، يلوح لي أن تأسيس حزب سياسي جديد في هذا البلد المتخم بالأحزاب، أي حزب الفيدرالية، إنما هو التعبير الختامي عن فشل تجربة "دولة لبنان". وها هي الفيدرالية يرتفع صداها، ويتكاثر المطالبون بها لدوافع مختلفة، أهمها الخوف المسيحي من صعود مكانة الشيعة في الحياة السياسية اللبنانية. وكان تقدّم الشيعة في هيكل الدولة اللبنانية بعد مؤتمر الطائف في سنة 1989، ثم بعد حرب تموز/ يوليو 2006، قد أضاء الأزرار الحمر لدى جميع الطوائف، ولا سيما أن الشيعة يستندون في صعودهم إلى دولة إقليمية هي إيران، التي تساندهم وتسلّحهم وتشد أزرهم وتستعملهم لأغراضها الجيو – استراتيجية، مستفيدة من التماثل العقيدي والمذهبي.

في غمرة هذا الهول العظيم الذي يلفّ لبنان منذ ما لا يقل عن أربع سنوات، والذي لم يتوقف الكلام في أثنائه على إعادة اقتسام السلطة على أُسس جديدة (المثالثة)، بادرت بعض النخب السياسية الشيعية إلى رفض المحاصصة الجديدة هذه، أي المثالثة، ودعت إلى مؤتمر تأسيسي للاتفاق على عقد اجتماعي جديد ينظّم سلطة الدولة وصلاحياتها وحصص طوائفها، الأمر الذي سينجم عنه دستور جديد. والمؤتمر التأسيسي يعني، في جوهره، إعادة توزيع السلطة والثروة على الطوائف اللبنانية بحسب أوزانها النوعية الجديدة والمستجدة، وهو ما يعني اقتطاع الشيعة لا حصة إضافية من قرص الجبنة (أي الدولة) فحسب، بل أرجحيةً سياسيةً أفضل بكثير من المثالثة. وهذا الأمر يجعل الطوائف الأخرى تستنفر قواها، وتطلب الحمايات من الخارج، لأن زيادة حصّة الشيعة ستؤدي حسابيًا إلى نقصان حصص الطوائف الأخرى.

لصوصٌ مكشوفون بمرتبة وزراء، ثرواتهم جلية كالشمس في عزّ الهاجرة ولا يخجلون من إنهاء تصريحاتهم شبه اليومية بآيةٍ من هنا أو بحديث من هناك

الفيدرالية في لبنان كما يعرضها أصحابها اليوم بصوت عالٍ من دون استحياء هي وسيلة سياسية لمواجهة فكرة "المؤتمر التأسيسي". والفيدرالية لم تنبثق اليوم فجأة في هيئة "المؤتمر الدائم للفيدرالية" برئاسة ألفرد رياشي، أو في صورة مجموعة "اتحاديون" أو في محاضرات هشام بو ناصيف وترويجات جو عيسى الخوري، وليس الكلام عنها جديدًا على الإطلاق، بل تعود جذورها إلى عام 1975، أي إلى بدايات الحرب الأهلية اللبنانية، عندما صاغت لجنة البحوث في جامعة الروح القدس (الكسليك) الدعوة إلى الفيدرالية، وأعلن الأباتي شربل قسيس، الرئيس العام للرهبنة اللبنانية المارونية، تبنّيها. وتصغير مساحة لبنان إلى حدود متصرّفية جبل لبنان وبيروت، أي التخلي عن طرابلس وعكار والبقاع والجنوب اللبناني، ما عدا جزين وجوارها، بما في ذلك حاصبيا ومرجعيون وصيدا وصور والنبطية وبنت جبيل، كان حُلمًا للرئيس إميل إدّة، الفرنسي الهوى، ولإدوار حنين وفؤاد أفرام البستاني، ولكثيرين من منظّري "القومية اللبنانية" التي كان يوسف السودا أحد مؤسّسيها. ويُروى عن إميل إدّة قوله إنه يريد لبنان أكبر من الصغير وأصغر من الكبير. أما بيار الجميل فيُنقل عنه، على ذمّة الرواة، الكلام التالي: إذا كنتَ تستطيع تقسيم لبنان ولم تفعل تكون مجنونًا. وإذا كنتَ لا تستطيع تقسيمه وتدعو إلى التقسيم فتكون مجنونًا. ومهما يكن الأمر، فإن الاتفاق على الفيدرالية ثم على آليات تنفيذها يحتاج بالضرورة إلى مؤتمر تأسيسي، أي إلى "لويا جيركا" لبنانية. يبدو أن هذه "اللويا جيركا" مستحيلة الحدوث مثل حكاية فتح الصندوق؛ فالصندوق يحتاج إلى مفتاح، والمفتاح عند الحدّاد، والحداد يريد بيضة، والبيضة عند الدجاجة، والدجاجة تريد حبّة القمح، والقمحة عند الطحّان، والطحان يريد خشبة، والخشبة عند النجار، والنجار يريد مسمارًا، والمسمار عند الحداد... وهكذا نعود، في نهاية المطاف، إلى المكان الذي بدأنا منه، ما يعني أنه لم يبقَ للجدال مطرح ولا للنقاش مسرح.

... مَن الذي أنزل هذا البلاء بلبنان واللبنانيين؟ وما الذي جعل هذا الوبال يحلّ في ذلك البلد الجميل؟ لا أحد غير زعمائه وقادته ونخبه السياسية والمالية، وهي نخبٌ سقيمةٌ فاسدة الذمة وعادمة الأمانة؛ هؤلاء يسرقون كفن الميت وضمائرهم مرتاحة. فالفساد و"الحرمنة" خصلة قديمة لحكّام هذا البلد، وما زالت الحال على ما كانت عليه منذ عصر زقزوق البيروتي (أحمد الدوكش) ومسرح فاروق وماريكا والقبضايات أمثال محمد سليم كريدية (أبو عفيف) وإبراهيم النابلسي (التكميل) وحنّا يزبك وأرتين الأسمر ورشاد قليلات وغيرهم. ففي عهد بشارة الخوري، أول رئيس للبنان بعد الجلاء الفرنسي عن هذه البلاد، فَجَرَ شقيقه سليم فجورًا عجيبًا بالمصالح العامة حتى لُقِّب "السلطان سليم"، وكان شقيقه الرئيس يحمي فجورَه. وفي عهد كميل شمعون الذي خَلَفه صار لقبه Ten Percent Man، فلا يمر أي مشروع من دون أن يتلقى "المقسوم" من العمولات. وفي عهد سليمان فرنجية، قيل على لسانه، وعلى ذمة القائل، إنه لا يريد أن يرى زغرتاويًا فقيرًا بعد نهاية عهده. أما أمين الجميل فقد ذهب إلى منفاه الذي أبعده إليه سمير جعجع، ثم عاد وكان ضميره مرتاحًا بعد أن فشل في تأمين انتقال السلطة إلى خلفه، وبعد أن سلّم السلطة إلى ميشال عون الذي شنّ حربين فاشلتين ضد "القوات اللبنانية" وضد الجيش السوري. وفي عهد أمين الجميل وقعت حوادث 6 شباط (1984)، ونشبت الحرب على المخيّمات الفلسطينية في سنة 1985، وانهارت الليرة اللبنانية، واندلعت حرب الجبل المروِّعة، وقبلها الحرب على الضاحية الجنوبية لمدينة بيروت، واشتعلت الصراعات الدموية بين سمير جعجع وإيلي حبيقة، وفاحت رائحة العمولات من طائرات البوما العسكرية ومن مستشاريَه سامي مارون وروجيه تمرز، ومع ذلك كان ضميره مرتاحًا.

التفتيش عن مخرج دائم للأزمة العميقة التي تعصف بالكيان اللبناني كالبحث في غرفة مظلمة عن قطّة سوداء

ميشال عون الذي خرّب بعض لبنان حين كان قائدًا للجيش اللبناني، ثم دمّر ما جرى بناؤه بعد أن صار رئيسًا للجمهورية، وفي عهده انهار لبنان نهائيًا، ويوشك على الموات المتدرّج، ما برح يردّد أن ضميره مرتاح مما فعله بلبنان. ووليد جنبلاط الذي كان أحد أغوات الحرب الأهلية اللبنانية وقائد مليشيا الحزب التقدمي الاشتراكي التي فتكت بمدينة بيروت وسكّانها جراء صراعه مع مليشيا حركة أمل، يبدو أن ضميره مرتاحٌ جدًا جدًا. ولماذا لا يرتاح ضميره إذا كان صاحبه يمتلك أكثر من 500 عقار في لبنان، غير ما هو مملوك خارج الأراضي اللبنانية، فضلاً عن شركة سبلين للترابة وكوجيكو للمحروقات وكفريا للنبيذ؟ ونبيه برّي قائد مليشيا حركة أمل الذي ارتقى بواسطتها إلى موقع رئاسة مجلس النواب، الأمر الذي جعل أنصاره يحذفون حرف الهاء من اسمه ليصبح "نبي بري"، فإن ضميره مرتاحٌ أيّما راحة، ويكاد يتناسى كثيرون أن تلك المليشيا خرّبت مؤسّسات الدولة، وأشاعت الرثاثة في أحياء المدينة وشوارعها. ومع ذلك، لا يتردّد الأستاذ نبيه في الإفصاح عن أن ضميره مرتاح. وحاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، لم يتورّع عن التصريح بعد صدور مذكرة توقيف فرنسية بحقّه إن ما فعله للبنان يجعل ضميره مرتاحًا. والمعروف أن في عهده وقع الخراب المالي العميم، وكأنه لا يتحمّل ولا ذرة من المسؤولية عن هذه الحال المزرية. وعلى منواله، يردد رئيس الحكومة الحاج نجيب مقاتي الثري جدًا جدًا.

ثمّة وزراء مطلوبون للتحقيق (علي حسن خليل وغازي زعيتر ويوسف فنيانوس)، ووزراء دانتهم مؤسّسات الرقابة والمحاسبة الشرعية اللبنانية مثل ديوان المحاسبة (بطرس حرب ونقولا الصحناوي ومحمد الصفدي وجمال الجرّاح ومحمد شقير وجوني القرم)، وهؤلاء ينامون ملء جفونهم وضمائرهم مرتاحة جدًا. وهناك لصوصٌ مكشوفون بمرتبة وزراء، أي أن ثرواتهم جلية كالشمس في عزّ الهاجرة (قصور ومنازل وشركات وأراضٍ وشاليهات)، وهؤلاء لا يخجلون من إنهاء تصريحاتهم شبه اليومية بآيةٍ من هنا أو بحديث من هناك، ثم يختمون ما هرّ من أفواههم بعبارة "أنا ضميري مرتاح". وعلى غرارهم نوابٌ وخطباء ومشايخ ومطارنة ومفتون أدمنوا إثارة الفتن والعصبيات الطائفية والنفخ في قِرَب الكراهية لقاء "المبلغ المعلوم". وعُدّة النصب لدى هؤلاء لا تكتمل إلا بترديد عباراتٍ مثل "أحبوا بعضكم" و"نحن دعاة التسامح والمغفرة".

أتقن صحافيون وإعلاميون فن اختراع الأكاذيب، ووظفوا أقلامهم وحناجرهم وصورهم في خدمة من يدفع أكثر، وعلى منوالهم تجّار ومقاولون وسماسرة وصُنّاع ومحتالون وسرسرية يغشّون أمهاتهم وينصبون على آبائهم ويبلصون زوجاتهم، وضمير هؤلاء جميًعا، المعروفين والمستورين، مرتاح وعلى خير ما يرام. أيكون هذا الضمير يشبه المطّاط المغّاط الذي ما إن يمطّ قوامه إلى السياسة حتى يعود إلى النجاسة على غرار مقصّ الاسكافي الذي يفتح على النجاسة ويغلق عليها أيضًا؟. لقد هرب إبليس من هذا البلد المنكوب، لأن القادة والزعماء لم يتركوا له أي شيء ليفعله. بينما هرب كارلوس غصن من السجن الياباني ليحتمي برصفائه في هذا البلد الذي لا يتردّد في حماية أشباههم وممثولاتهم من الخلائق العجيبة ذات الضمائر السعيدة والمرتاحة.