أردت الدخول من كلّ أبوابها

أردت الدخول من كلّ أبوابها

02 مارس 2020
مقطع من "مسيرة العودة الكبرى" لـ ستيف سابيلا
+ الخط -

أسوار البلدة المقدّسة

أوقفني الضجر على باب البلدة المقدّسة
أردت الدخول من كلّ أبوابها في الوقت ذاته
فلم أفلح، أخفضت العدد في كلّ مرةٍ بلا فائدةٍ
وقفت حائرًا منتظرًا لمعةً في جناح حمامة...
وعندما اقتنعت بالدخول من الباب الأكبر حجمًا
سبقتني إليه بقيّة الأبواب... وأوصدته دوني.


■ ■ ■


البحر الميّت

النساء هنا مطلياتٌ بالطين، لا تؤنسك أجسادهنّ
تقف قرب أخاديد كان البحر يدفن فيها موتاه
قبل أن ينحسر ماؤه عنها، عندما قطعوا
بمشرط "نجمة داوود" شريانَه التاجيّ
تتذكّر غرقك فيه طفلًا، مطاردتك قاربًا أصفر
كمركب إله الشمس دون أن يتجلّى لك سوى الملح
تبصر هواجسك تقود زوارقَ آليةً كانت تربط الضفّتين
يوقظ الكبريت ذو الأذرع العديدة سدوم على كتفيك
فتتحسّس التجاويف وهي تصعد من الأرض إلى جسدك
وأنت تفكّر بسخريّة الراوي العليم الذي يُكْمِلُ الآن مخطوطاته
بالسِفْر المسمّى "قناة البحرين"، وبأسماك البحر الأحمر
سابحةً أمامك قريبًا، غير آبهةٍ بالحواجز.


■ ■ ■


البحر المتوسّط

كنت طفلًا خجولًا يغرق والده أمامه
صرخ بي في دوّامةٍ تشدّ روحه من
قبّة قميصها كي أحضر النجدة
ارتجفتُ عندما جاور اسمي في ندائه الغرق
فعاد صوته في كلّ مرّةٍ خفافيش تصطدم بجسده
تجمّدتُ في مكاني ملهيًا لساني بالملح على شفتي
كان أبي يجذّف بعيدًا بزعانف حجّرها الزبد
وكنت أرحل أبعد في شباك الصيادين
الحالمين بالعودة إلى زوجاتهم
بأسماكٍ ذهبيّةٍ تجيد رواية القصص
... ثمّ عاد أبي من البحر وحده دون مساعدتي
وعندما مرّ من جانبي، تفادى النظر في عيني
كي يحميني من أن أُبصر في وجهه الأزرق
أسماك الخيبة.


■ ■ ■


قصر الملك قرب القدس

كان القصر هناك على التلّ
يُطلّ على الفارق بين المستوطنة القريبة
وأحياء "السكّان الأصليّين"
بين أشرعة البحر المتوسّط
ومخطوطات بحيرة سدوم
لم تشتعل فيه النار
ولم تضئ عظامه شرايين البذخ
معلّقٌ في الهواء بملاقط من خشب
وكنت أنظر إليه من ثقب باب شرفتي
(قبل أن يلعق لسانٌ من الإسمنت الفضاء بيننا)
حالمًا باسمي يجرّني إليهِ
على جرّافتي الخضراء ذات العلم الورقي
لأحكم بمسدّسٍ من البلاستيك
شعبَ خزانة ألعابي.


■ ■ ■


حلم بدأ في المنتصف

... وكانت امرأةٌ شقراء الشعر ترافقني، تطلي القباب الباهتات برعشته
تمسح الثلج عن نوافذ منقوشةٍ برقصات السكارى تحت دمي
وفي محل عائلتي ألبستها خاتم السلطنة وخوذة الانكشاريّ
تناولتْ السيف وحدها وقصّت به خصل الهواء فصهلت أشباح الخيول
أريتها البئر المزجّج وهمستُ بلسانٍ يحمل الحجارة المذهبة إلى أعلى البرج:
ألقي شعرك في مسامات الزجاج لتنقذي الطفل الإله، تعبت أصابعه من دمى الرصاص
سحبتني من يدي كأنّها تعرف الطريق أكثر منّي، فوصل المصلوب في جلجلة الذراع إلى الكفّ
كنّا ندخل من فوهةٍ ونخرج من أخرى، تغطّينا قبّعةٌ تراها الغيمة علامةً فتكسر جرارها
وكانت العيون تغرز في شعرها وجلدها كآلاف المسامير
وأمام قبر المسيح خفّت وحشتي قليلًا، أضعت جسدي إبرةً في قشّ الوجوه الغريبة
أضاءتْ بالنسغ الصاعد إلى شعرها الخاشع شمعةَ اسمي
فتسلّقتُ دخانها إلى الهواء الدائريّ بين نظرة الأمّ وطفلها في الأيقونة
وفي الصخرة لم تكن معي، استلقيتُ على الأرض فزجرني العابد
أردت أن أستريح تحت قبّةٍ أنا نصف سمائها الآخر
طردني الحراس فالتجأت إلى ساعة الشمس، فخرجت امرأتي من صلاتها
لم يكن شعرها أشقر، لم تكن أظافرها مطليةً بأنياب الذئاب
لكنّ زخرفة المثمّن أضاءت عظام فكّيها، تجلّت لي غمازتاها
- عندما ألقى المكان المسافر مرساته في أوديتها -
جناحي حصانٍ صعدا بي إلى مربّعاتٍ من اللازورد * تختلط في دائرةٍ من شعرها
فتحت لي بأظافرها أقفالًا في اللون أغلقها النظر، وحينما هممت أن أدخل
أيقظني الفزع في خطوطٍ أفقيّةٍ ترتدّ عن الشفق.

(* مربّعات كمال بُلّاطه)


■ ■ ■


الدبّابة القديمة على الحدود السوريّة في الجولان

الحمامة بنت عشّها في فوّهتها كما بشّرت التهويدات
جئنا إلى الحدود بأيادٍ محمرّةٍ بدم الصيف في الكرز
إلى هذي الأرض التي تطلّ على أناها الأُخرى أمام الأسلاك
أرجلنا طينيّةٌ من مسارات الأنهار، يصغي الماء في ثيابنا
إلى أشقّائه تحت التراب وهم يُجَرُّون إلى حمّامات سباحة المستوطنين
الريح من ثلجٍ فوق تموز، تحرّك طواحين هواءٍ لم تُبنَ بعد
لا مكان للمسرنم في ظلالها، تطحن ترابًا تحتكره جزمات الجنود
وهي تدوس حبّات العنب صانعةً نبيذًا فاخرًا للتصدير
تسلّقنا الهيكل الصدئ للدبّابة التي لم يبلغها خبر "السلام"
أبصرنا المشهد الصامت أمامنا فرو ثعلبٍ تعلّقه أيادٍ محمرّةٌ
بدم الصيف فوق حائطٍ لامرئيٍّ، فالحرب هناك وليست هنا
وشبح هذي الدبابة يتكفّل بالحراسة وحده منذ طروادة.


■ ■ ■


أسلاك بينيلوب

السلك الشائك على الحدود
تنسجه إبرة أُمٍّ
عاد ابنها المفقود في حربٍ أخرى
هيكلًا عظميًّا
يحمل البراميل إلى المروحيات
وكلّما انتهت غارةٌ
نسجت أمّهاتٌ جديداتٌ غزلهنّ...
حتّى غدا الهواء قبّةً معدنيّةً
فوق بلادٍ
تحدّق هذي الدبابة فيها
بعينٍ انطفأ دخانها.


■ ■ ■


بعيدٌ عن أهلي وأعدائهم

لا أنتمي إلى أحد
ولا حتّى إلى نفسي
طفولتي تتسلّق الجدار
تنظر إليّ من النافذة
وتحاول أن تفزعني
تمدّ ذراعها نحوي
تشدّني بقوةٍ من قميصي
وتضعني أمام طفلٍ بنيّ الشعر
يلمع على جبهته علم البلاد
ويضرب آلاف العساكر في مشيته
فلا أبصر في المشهد
سوى حذائه الذي تضيع فيه قدماه
وطاولة التلوين تحتهما
وهي تعضّ على أقلام الخشب.


■ ■ ■


أبي

الغضب ينجّيك
تشعل له رئتيك قربانًا
إخوتك يرمونك كلّ يومٍ
في بئر المحل الذي أورثتكم
إيّاه الأشباح
فتتسلّقه بأسنانٍ زادتها
السجائر صلابةً

الغبار يتراكم على أصابعك
التي تصنع العقود
تعثر فيه على عون أسلافٍ
يحصّنون الجدران بطين الأنبياء
تفتح حجر الفيروز
تُسْكِنُ عصفورًا صغيرًا يفرد أجنحته
كلّما لامست القرطَ الريحُ

كلّ الأشياء التي تسقط أشعّتك عليها
خيوط مسبحةٍ لامرئيّةٍ بين أصابعك
كلّ الخيوطِ تصبّ في عقدةٍ
من اللازورد

تبيع المناديل لامرأةٍ
شاهدت في دخانك الأسمر نرجسة مرآتها
تحتضنك، فتضيف ثمن العناق
إلى سعر التطريز البدويّ

يزورك حُجّاجٌ في الطريق إلى القيامة
يجلسون حول البئر في انتظار الموعظة
تبصرهم ينظرون إلى دم المسيح
من أبواق أريحا
فتُنْزِلُهم كدلوٍ في الجُبِّ
وترفعهم يقطرون دموعهم

يمرّ آخرون معمّدون بالنفط الصخريّ
يطلقون النار أمامك على فلّاحةٍ
تبيع عكّوبًا ينبتُ في كفّها
لا ينجّيك حينها
سوى غضبك المحفور في خناجر
تضيء فضّتها في الواجهات.


■ ■ ■


كاميرا الفيديو القديمة

تمسك الكاميرا القديمة بين يديك
تشعر بالزمن محفوظًا داخلها
مثل وجبةٍ ساخنةٍ في الثلاجة
تتذكّر وثوق والديك في غدك
حين صوّرا كلّ هذي المشاهد من ماضيك
تنظر في الشاشة الأصغر من كفّك
كأنّك تسترق النظر من ثقب الباب
إلى والديك وهما يصنعانك
ترفّ المشاهد كلّ مرةٍ كعينٍ جافّةٍ:
عَقْدَةُ بيت خالك، غناؤك في المنتصف
كي تلفت انتباه الأجساد في حفل الخطبة
يد ابن صفّك التي سرقت حصانًا
من كعكة عيد ميلادك السادس
جدّتك قبل الصمت
خالة أمّك قبل الموت
وقامة جدّك قبل أن تُصَبّ أفقيةً
في السرير المعلّق في غرفة الجلوس
ثمّ تظهر آخر عاصفةٍ لعبت بثلجها:
البلدة القديمة من جبل الزيتون
قبور الأعداء الذائبة بينكما
حجرٌ محاطٌ بالثلج يضرب مستوطنٌ
به رأسَ جارك، يُقْذَفُ الآن من الشاشة
ويُبْرِزُ ندبةً لن تُمحى في جبينك
ندبة صديق طفولتك الذي دهسته أمامك
سيارةٌ مسرعةٌ نحو المجاز.


* شاعر وقاص من مواليد القدس عام 1992، فازت مجموعتاه، الشعرية "بحثت عن مفاتيحهم في الأقفال" والقصصية "جيجي وأرنب علي"، العام الماضي، في "مسابقة الكاتب الشاب" التي تمنحها "مؤسّسة عبد المحسن القطّان"، وهي أول مرة تُمنح لكاتب واحد في فرعين. وصفت لجنة التحكيم المجموعة الشعرية بأنها "عالم شعري خاصّ ومختلف لشاعر شاب يُسيطر على عالمه؛ عالم الماضي والجدّات والأمّهات والبحر والحب، بيسر وقوّة، ويستخرج منه ما يريد".

المساهمون