معطف الظفيري

معطف الظفيري

05 يونيو 2020
أوغيت كالان/ لبنان
+ الخط -

كان الظفيري الكبير يعمل موظّفاً في إحدى دوائر الحزب الحاكم، يتقاضى مرتّباً صغيراً قدره ثلاثة آلاف دينار، يذهب كلّ شهر لإيجار بيته وسْط بغداد. كان يعتاش على ما يُصرَف له من مكافآت في أعياد الحزب والمناسبات التي تخصُّ الرئيس.

الظفيري أب لعائلة كبيرة مكوّنة من ثلاثة أبناء وبنتَين وزوجة، لم تكن إعالتهم أمراً سهلاً. يذهب في الصباح إلى المقرّ الحزبي بمعطفهِ الأسود القديم، يُعلّقهُ على المسمار المثبَّت خلف الباب. يجلس خلف مكتبه يتفحّص جدول الأعياد والمناسبات، وعيناه مصوّبتان نحو معطفهِ الثقيل، وهو يترجّاه في سرّهِ بأن يصمد أكثر، حتى حدث أن سمع مرّةً صوتاً مُريباً يشبه صوت تمزُّق القماش.

تحرّك من وراء مكتبه نحو المعطف وكأنه يسير على أطراف أصابعه، مترجّياً ألّا يكون الصوت قد صدر من المعطف، وما إن وصل حتى سقط المعطف على الأرض من دون ياقته التي ظلّت معلّقةً في المسمار. أسرع إلى حمل المعطف وأخفاه في أحد أدراج المكتب، وأخرج إبرةً وخيطاً من جيبه. كان قد تنبّأ بذلك اليوم منذ مدّة وقرّر أن يصطحب معه الإبرة والخيط أينما ذهب، لكن لم يكن الأمر سهلاً.

كيف سيعيد الياقة إلى موضعها؟ فقد اهترأت أطراف القماش، وصار من الصعب عليه أن يخمن أيّ طرفٍ يصلح لأن يغرز فيه الإبرة.

ثبّت الظفيري الياقةَ بشكلٍ مؤقّت، وانتظر خروج جميع الموظّفين عند نهاية الدوام، ليخرج وحده دون أن يلاحظ أحدٌ ياقته الممزّقة.

في اليوم التالي، حضر في وقت مبكر ليصل قبل زملائه، ووضع المعطف برفقٍ في الدُّرج، ثم جلس ليسأل نفسه كيف وصل به الحال إلى هنا.

كان قد عاد بشريط ذكرياته إلى أيام شبابه الأولى وتذكّر كلّ المعاطف الثمينة التي كان يرتديها في تلك الأزمنة، حين دخل مديرهُ في العمل، ليخبره أنه سيتلقّى مكافأتَين لهذا الشهر الذي تمرُّ فيه مناسبتان مهمّتان: العيد الوطني أو عيد التحرير، وعيد ميلاد الرئيس. كان يوماً سعيداً جدّاً، وفرحةٌ كهذهِ مرّ عليها وقت طويل.

وعندما عاد إلى البيت وأخبر زوجتَه التي صارت تهلل وتصفّق وهي تدور حوله، أدرك أنّه تسرّع في إخبارها بأمر المكافأتَين. هذا ما سيتأكّد له حين يرى زوجته تُعدّ قائمة مشتريات طويلة. في تلك اللحظة، تذكّر مجدّداً وضْع معطفه، ولربُّما قال في نفسه: "هذه فرصة جيّدة لشراء معطف جديد".

هكذا، وبعد أن قبض المرتّب في نهاية الشهر، وقبل أن يعود إلى المنزل، اتّجه نحو السوق، ثم مرّ بالخيّاط عبد النبي. لم يكن هذا قد عمل خيّاطاً في قصر الملك مثلما قد يتبادر إلى أذهان حضراتكم، ولم يتحوّل إلى خيّاط بائس وسكّير بعد الثورة. لكن عبد النبي كان متذمّّراً من الحزب وأتباعه لأنهم منعوا الأزرار المستوردة من الدخول إلى البلد؛ فرغم إيمانه بالثورة، لا يؤمن بجودة أزرار معمل المستلزمات الوطنية، لذا سمح لنفسه بالعمل مع مهرّبين لاستيراد قماش إنكليزي فاخر، ولا يخفى ذلك عن جهاز الأستخبارات، لكن رجالاته تغاضوا عنه لأنهم بحاجة إلى تلك الأقمشة في صناعة ألبستهم، وهذا جعله على علاقة وطيدة مع أهم المسؤولين في الدولة.

سأله الظفيري عن تكلفة خياطة معطف إنكليزي، فأخبره أنه سيكّلفه ثلاث آلافٍ للقماش وألفاً للخياطة. وافق الظفيري على الفور ودفع المبلغ دون أن يفكّر في مصير القائمة الملحمية التي أعدّتها زوجته. وعندما عاد إلى البيت، توجّه بسرعة نحوها، ودون أن يُلقي التحّيةَ رفع أصبعه المتصلّب من الغضب في وجهها، وقال: "دفعتُ أربعة آلاف دينار ثمنَ معطفي الجديد. أُخبرك الآن، وأُضيف على ذلك ألّا أحد قادر على الاعتراض على هذا القرار حتى في سرّه. هل فهمتِ"؟ تقوّست المرأةُ على نفسها واعتصرت قائمة المشتريات بيدها، واتّجهت إلى المطبخ.

في اليوم التالي - وربما تنبّأ أحدكم بما سأخبركم به - فحينما نتتبّع سير الأحداث، سنجد أن الظفيري قد ذهب إلى محلّ الخيّاط ليُحدّد مقاسات المعطف نسبةً إلى جسمه. لكنَّ ما لا تعرفونه أنه سيُصاب بجلطة دماغية بعد أسبوع من ذلك اليوم، وقد يخسر عشرين كيلوغراماً من وزنه بعد هذه الحادثة.

وحين استعاد صحته وتحرّك من فراشه، اصطحب ابنَه الكبير أحمد إلى دكّان عبد النبي، الذي أنجز المعطف على أتمّ وجه، لكنه تفاجأ بأن الظفيري صار أصغر حجماً... بدا كأنه نسخةٌ مصغرة من الظفيري الأصل. ورغم ذلك، أصرّ الظفيري على ارتداء المعطف والوقوف أمام المرآة. وعندما رأى ذلك بأمّ عينه، كيف أنه أصبح ضئيلاً وقد اختفى تماماً تحت معطفه، شعر أن شيئاً بداخله قد انكسر. ولتدارُك الموقف، فزّ عبد النبي من مكانه لأخذ مقاسات جديدة للظفيري، وأخبره بأنه سيُعيد خياطته بالنسبة إلى حجمه الجديد خلال ثلاثة أيام فقط.

ومثلما تسبّبت سرقة معطف أكاكي أكافيتش بوفاته كما تعرفون وأعرف، فقد مات الظفيري في فراشه في نفس اليوم متأثّراً بحمّى أصابته لسبب ما يتعلّق بالمعطف، ولم يهتم لذلك أحد، حتى عائلته. كان الجميع يتصرّف كأنه شيء متوقَّع.

إلّا أن معضلة واجهتهم؛ فقد طرحت زوجة الظفيري فكرة أن يُدفَن زوجها مع معطفه، بينما ردّ أحمد أنه من المفترض أن يحمل اسم أبيه بعد وفاته ويرتدي معطفه، وهذا ما حدث فعلاً، خصوصاً أنَّ صغيرهم عزّوز رجّح الخيار الثاني لعدم إمكانية حفظ الجثّة لثلاةث أيام أخرى حتى يتم إنجاز المعطف.

ارتدى أحمد المعطف بعد أسبوعين من وفاة والده، فقد ذهب إلى عبد النبي الذي أعاد خياطته وفق حجم ابن الظفيري. وبعد اعتراض عزّوز ومطالبته بحقّه هو الأخر في ارتداء معطف والده، جرى الاتّفاق على أن يرتديه في يوم الأربعين، بعدما مرّ المعطف على يد الخياط من جديد لتصغيره بما يناسب جسم عزّوز الهزيل. وفي نهاية المراسيم، تقدّم عزوز بوضع باقة الورد على قبر أبيه، ويُقال إنه ألقى خطاباً صغيراً لم أتمكّن من سماعه، فقد كنتُ منشغلاً في حديث طويل مع أحمد عن حياة والده.

ويُقال إنَّ عزّوز اختتم خطابه الحزين، بعد أن أطرق برأسه مرّتين، قائلاً: "كلًّنا خرجنا من معطف الظفيري".


* كاتب قصة عراقي من مواليد مدينة البصرة عام 1993 ويقيم في بغداد. حاصل على شهادة البكلوريوس في علوم الحياة من جامعة القادسية في العراق، قبل أن يتجه إلى العمل في مجال النشر وصناعة وتسويق الكتاب. يظهر في قصصه عالم ما بعد الاحتلال وخراب زمن الحرب، وستصدر روايته الأولى قريباً بعنوان "خطّة لإنقاذ العالم".

المساهمون