ما فعله الرجال بأنفسهم

ما فعله الرجال بأنفسهم

20 مايو 2020
إبراهيم الصلاحي/ سورية
+ الخط -

زوجتي العزيزة
لا أستطيع أن أصف بدقة ما حدث معنا..
ولكنني سأحاول..


1

يوماً ما.. اقتادونا جميعاً إلى الاستاد الكبير.. فدخلنا أرض ملعبه، شاسعة المساحة، لكننا فوجئنا بما وجدناها عليه، كانت أرضه مقفرة كأنها قطعة منتزعة من الصحراء، صحراء برتقالية انقضت على ملعب الاستاد الدولي الكبير، غطته، وردمت تماماً أي أثر لحشيشة، أو نجيلة.

كان ذلك الاستاد الذي حضرنا فيه سوياً مباريات كثيرة، لكنه في تلك اللحظة التي دخلناه فيها، كان مقفراً بشكل عجيب، كأن نجيلته قد انتزعت، أو نهشها وحش جائع يتغذى على الأخضر واليابس، لم تكن هناك في أرضه أية علامات تدل على أنه شهد ذات يوم عدو وركض أبطال كرة القدم، لم تكن ثمة عشبة أو وردة مزهرة نمت على غفلة من الحرس والرجال المفتولين المدججين بالسلاح.

جلسنا جميعاً على الأرض المتربة الغاصة بالرمال، لأنه لم يكن هناك بديلٌ ببساطة، لم تكن هناك مقاعد، أو حتى دكك، فقط تبقت العارضتان الحديديتان الصدئتان، وقد كساهما الغبار، إلّا أنهما قاومتا التصحر، وظلّتا منتصبتين على اليمين واليسار من أرض الملعب، بدون الشباك اللاتي لطالما اهتزت بالتسديدات والرميات وخفقت معها قلوبنا، أين ذهبت الشباك.. أين ذهب الدويّ؟ وأين مقاعد المدرجات اللامعة؟!

التهم التصحرُ ملعب الاستاد وأتى على مدرجاته، فصارت عارية من مقاعدها، وتحول إلى مسرح مهجور أشبه بالكولوسيوم الروماني العتيق الذي كان يصطخب بصيحات جماهير مباريات المصارعة الدموية.

كان عددنا في البداية يتراوح بين العشرين والخمسين رجلاً وشاباً وطفلاً.

تبادلنا جميعا النظرات، ونحن لا نعرف ماذا نفعل هنا، بدأنا بعدها نتبادل الأسئلة ونغرف من حيرة بعضنا البعض، انهار توجسنا من الحديث مع بعضنا، بدأنا نقترب ونتجمع في حلقات، ونتبادل طرح السؤال ذاته: ماذا فعلنا؟ ماذا جنينا؟

ولكن الإجابات كانت محيرة.

كُلنا لم نفعل شيئاً.

لم يسر أحدنا في مظاهرة، لم يرتكب أحدنا أي عمل من أعمال الشغب، ولم نكسر إشارة حتى.

ثم بدأت أعداد أخرى من الناس تتوافد على موضعنا داخل ملعب الكرة ذاك.

بدا أن القادمين مثلنا، يشتركون معنا في عدة صفات، أولها أننا جميعا بسطاء.. موظفون وسرّيحة وباعة متجولون وعمال تراحيل، وثانيها أننا لا نعرف أية أسباب عن جلبنا إلى هنا واحتجازنا بهذا الشكل، وثالثها أنهم عندما سألوا - كما فعلنا - قالوا لهم كما قالوا لنا:

- هناك خطر قادم ونرغب في حمايتكم منه بتجميعكم في مكان آمن.

فسألناهم:

- هتجيبوا الشعب كله هنا.. في الاستاد دا؟

- بعض الناس من بعض الأماكن...

جلسنا جميعاً كيفما اتفق، بعضنا جعل حقائبه سريراً ووسادة، وبعضنا لم يكن يحمل حقائب ظنا منه أن المشوار المطلوب فيه لن يطول، فبدأ يخلع قطعاً من ملابسه ليتوسدها، وبعضنا الثالث أخذ يسأل:

- احنا مقبوض علينا؟ مودوناش سجن ليه ببساطة؟

- هنام هنا كدا في الطل؟

- هنعمل إيه عند الحر؟

- هنتصرف ازاي لما نتزنق ونعوز دورة المياه؟

- ولو مطّرت؟

- هيأكلونا؟

كانت الأسئلة لها وجاهتها، لكنها ظلت مجرد أسئلة بدون إجابات.


2

في أحد الصباحات، وكنا قد اعتدنا حياتنا في الاستاد الدولي، المنعزل تقريباً عن كل أوجه الحياة، وبينما نتناول الطعام الجاف الذي يجلبونه في علب من الكرتون كل يوم، ونشرب الماء القليل الذي كان يكفينا جميعاً بحكم عددنا الذي يزداد كل يوم بسبب جلب المزيد والمزيد من الرجال مثلنا، وصرنا نقضي حاجاتنا في حفر مثل الحيوانات، في ذلك الصباح سمعنا صوت الإذاعة الداخلية للاستاد المقفر وقد انبعث على شكل ذبذبات متتالية إيذاناً بأن أحدهم سيتحدث، فانتبهنا... كنا قد صرنا آلاف الأشخاص، وكانت أرض الاستاد المقفرة قد ضاقت علينا بشكل ملحوظ، وباتت أقدامنا تصطدم برؤوس بعضنا البعض، كما لو كنا في شاطئ في عز ذروة موسم الاصطياف.

انبعثت ذبذبات من إذاعة الاستاد، تبعها صوت أجش تنحنح بقوة وغلظة، قبل أن يقول:

- حضرات المواطنين ضيوفنا الكرام.. نحب نوجه عناية حضراتكم إلى أن فترة احتجازكم هنا في الاستاد مؤقتة ولكنها مستمرة لحين زوال خطر لن نرعبكم به، لكننا اتخذنا تلك الإجراءات لحمايتكم ولرعايتكم، المطلوب من كل مواطن الآن فقط تهيئة الأجواء المناسبة لإقامته المؤقتة هنا في الاستاد، هناك موجة أمطار قادمة، يمكنكم حفر بعض الحفر التي تساعدكم على الاختباء من المطر، الحرس سيمدكم بمفارش وأغطية من البلاستيك لتغطية الحفر، سوف تواجهون أياماً صعبة، نطلب منكم الصبر.

كانت الرؤوس مشرئبة، والأعناق تحاول أن ترتفع أكثر من طاقتها، شخصت الأبصار حينما سمعت النبرة الغليظة والتعليمات، وارتجت الحناجر من الغضب، صرخ الرجال، وبكى الأطفال، ازداد الهلع في قلبي، ورددت كما ردد الآخرون:

- روّحونا.. روّحونا.. أحنا هنا محابيس.. روّحونا.. روّحونا.. الله ينتقم منكم.. الله ينتقم منكم..

لكن صوت الإذاعة الداخلية انقطع، واختفى الصوت الأجش الغليظ.

استسلم البعض وجلس يفكر في الخطوة القادمة، فيما علت أصوات غاضبة وعصبية وزئير حناجر تعبّر عن حنقها ويأسها من هذا الاحتجاز العجيب، شرع البعض الثالث في حفر الحفر التي نصح بها صاحب الصوت الأجش الغليظ، بينما انهار رجال في الخمسينيات من أعمارهم في نوبات بكاء عصبية وأخذوا يخمشون وجوههم بأظفارهم ويضربون الأرض بكعوبهم، بينما حاول ذووهم تهدئتهم بلا فائدة.

حاولت مجموعات أخرى التوجه إلى باب الاستاد الضخم الذي جاؤوا منه، ودقوا عليه بحنق وغضب، ثم انهاروا من التعب، لا أنكر أن قلبي ارتعش من الخوف كزهرة وحيدة نبتت فوجدت نفسها في حقل صبار، لا أعرف ما هو الخطر الذي جلبونا هنا اتقاء له، ما أعرفه أننا جميعا محتجزون هنا في ظروف مهينة أشبه بحديقة الحيوان، وأنهم يدفعوننا دفعاً للجنون، وربما لالتهام بعضنا البعض.

في أيامي السابقة على الاحتجاز، وقبل وصول الحافلة التي اقتادتني هنا، كنت أعمل مُدخلاً للبيانات في إحدى الوزارات، موظفاً عادياً، قضى من عمره في الوظيفة عشر سنوات، لم أرتكب مخالفة يوماً، ماش داخل الحيط تقريباً، لا أتحدث مع زملائي إلا همساً، ولا نتحدث في السياسة، ولا نأتي مطلقاً على سيرة مدير المصلحة الحكومية التي نعمل فيها، شاب شعري قبل الأوان، على الرغم من أنني لم أطرق الأربعين بعد، استسلمت زوجتي لعدم إنجابنا، في البداية أنفقنا الكثير على زيارات الأطباء وتعاطي الأدوية، ثم قررنا أن نستسلم فجأة، لم يكن في حياتنا أي شيء يبعث على البهجة، العجيب أن حالي كان تقريباً هو نفس حال أهل منطقتي حيث أعيش، كأننا جميعاً صرناً نسخة واحدة متعددة الأسماء.. أناس مستسلمون لأقدارهم.. لا يوجد بحياتهم ما يسعدهم.. أو يعينهم على الشقاء.

لاحقاً جلبوا موظفين مثلي، ورجال دين، ودعاة، ومهندسين، وطلبة، وخريجين، اتسعت دائرة الفئات التي ضموها إلينا في الاستاد، وبات هذا الأخير أشبه بسوق شعبي شديد الازدحام، ولا ينفض مطلقاً. في البداية انتابتني وساوس أنهم قد اختارونني بالخطأ، لكن اللافت أن هناك من يشبهني، هؤلاء الرجال في الخمسين من أعمارهم، الذين انهاروا بعد بيان صاحب الصوت الغليظ القصير، يبدون قريبي الشبه بي، الفارق بيني وبينهم أنهم أكبر في السن بحوالي عشر سنوات، لكننا تقريباً ننتمي لنفس الفئة الاجتماعية، هل قرروا فجأة مثلاً التخلص من الناس الهرمة.. المُسنة؟ أم قرروا إجراء تجارب علينا؟

الأقرب هو أنهم يحتجزوننا لإجراء تجارب.

تشكلت تجمعات غاضبة، تنبعث من وسطها أصوات هتافات وبكاء، ومناقشات صاخبة بلكنات متشعبة مختلفة، دلت على تنوع المتحدثين وأنهم قدموا من مدن مختلفة، نهضت من مكاني وتجولت بصعوبة وسط الزحام بين هذه التجمعات، مستمعاً لأصوات النقاشات والخلافات، كانت ثمة تكهنات كثيرة، بعضهم يرجع أسباب احتجازهم لاستخدامهم كفئران تجارب في اختبار مصل أنفلونزا جديد، رجل كان يصرخ مردداً أنه استمع لنفر من الحرس يقول إن الحقن ستُجلب منتصف الأسبوع بعدد كل المحتجزين، رجل آخر كان يستمع إليه باهتمام ويهز رأسه مؤيداً ما يقول، فيما كان ثالث يعارضه قائلاً:

- مش معقول يعملوا كدا فينا... دي تبقى مذبحة... مش معقول... فين الصحافة... فين الإعلام؟

فيرد رابع:

- خرسوا من زمن الزمن.

مجموعة أخرى كانت تتداول فكرة إعداد كل المحتجزين لتنفيذ مهمة سامية، وكانوا أكثر هدوءاً، وإيماناً بهذا الطرح، كانوا يتحدثون بهدوء ويقول أحدهم لباقي المجموعة:

- مشكلتنا أننا مش بنثق في بلدنا... بلدنا تؤذينا؟ طبعا لأ... وإن كانوا عاوزين يجربوا فينا مصل أو دواء... إيه المشكلة أننا نخدم بلدنا... لازم نخدم بلدنا بعنينا.

صرنا بيئة خصبة للشائعات، تتخبطنا ونضطرب في خضمها، كأننا غرقى نتشبث بألواح مفككة من فلك غارق، لم يكن هناك من يعترض على ما يقال في أية مجموعة، التقت عيني بعين الراجل الواثق في أن بلده لن تؤذيه، فصمت، وظللت أنا صامتاً غير عابئ بمناقشة طرحه، رغبت فقط في حفظ ملامحه ومضيت إلى مجموعة أخرى كانت تتباحث في طروحات مختلفة، فوجدت جماعة تردد أدعية وصلوات، ويهز أفرادها رؤوسهم ويومئون بها إلى السماء، ووقف في منتصف دائرتهم شخص أخذ يردد:

- والله العلي القدير... مُطلع وشاهد على ما يحدث وما يقال... والآن ستتدخل يد الله... يد الله فوق أيدينا يا إخواني... يد الله من فوق أيديهم... ولن يمر تدبيرهم إلا وسيجعله في نحورهم... إذا وثقنا فلنثق بالله... وإذا استعنا فلنستعن بالله... والله لن يخيب لنا رجاء... سنصلي طيلة اليوم... وسنصوم عما يقدمون لنا من طعام وشراب، حتى إذا هلكنا كانت هي مشيئة الله، ولكن الله لن يهلكنا إلا لينجينا.


3

هطلت الأمطار اليوم..

هطلت بغزارة..

غرقت أرض الملعب، عرفت للمرة الأولى معنى أن يركض اللاعبون في ملعب زلق.

بذلتي كانت قد صارت رثة الحال بعدما مر على ارتدائها أسبوع منذ جئت إلى هنا، فاحت مني رائحة عرقي وعفونة جلدي، كانت تنتابني الحكة إذا ما لم أستحم ليوم أو يومين، فكيف حالي الآن وقد مر عليّ أسبوع.

كانوا يقدمون لنا علب الطعام مرة واحدة يومياً، كان الحراس يضعونها على بوابة الاستاد الهائلة، بينما زملاء لهما يفسحوننا بعيداً، ويلوّحون بأسلحتهم ومدافعهم في وجوهنا كي نبتعد عن باب الاستاد الكبير خلال عملية تسليم الطعام، بعدها ينسحبون تدريجياً بأسلوب تكتيكي مدربين عليه، فيتدفق الناس بغزارة من كل ركن من أركان الملعب ويتخطّفون العلب بحماقة وعنف كبيرين، في الأيام الأولى لي عجزت عن التهام لقمة، أو الوصول إلى علبة من تلك العلب، البعض كان يتخطّف أكثر من علبة كل مرة، لأنه يدّخر بعضها ليتناولها ليلاً أو في الصباح التالي قبل وصول دفعة العُلب التالية، كان الوضع صعباً ومزرياً، أما الماء، فكانوا يمنحوننا فناطيس ممتلئة كل ثلاثة أيام، ثم بعد فترة صارت تتوفر كل ستة أيام، مرت عليّ أيام كثيرة والكثير منا يستخدم الماء للشرب والاغتسال والتطهر من قاذورات الإخراج، ثم حينما تباعدت الفترات التي يزودوننا فيها بالماء، تعلمنا جميعاً الاقتصاد، فصرنا نوفره للشرب فقط.

ولكن الأمور ساءت أكثر..

لم تعد فناطيس المياه تكفينا، وصارت عُلب الطعام تأتي كل يومين، بدا أن حراسنا قد شكلوا فيما بينهم عصابة تسمسر في علب الطعام التي تتدفق على الملعب، فباتوا يهرّبون تموين يوم ويمنحوننا تموين اليوم الذي يليه، وهكذا تضاءلت حصصنا جميعاً من الطعام، بدا الهزال بادياً على أغلب كبار السن من الفئات العمرية بين الأربعين والخمسين، وكان الشباب أكثر هيمنة واستحواذاً على الطعام، ثم تناقصت أنصبتنا من المياه أيضاً، فاستفحلت المشاكل، أنا أكتب هذه السطور ولساني قطعة خشب، بينما هناك جماعات تشرب كما يحلو لها، لم أجرّب تسوّل جرعة ماء كي لا ألقى مصير بعض الناس الذين ذهبوا بثيابهم الرثة، وقمصانهم المتدلية فوق بنطلوناتهم الممزقة لجماعة من الجماعات المهيمنة على الماء والطعام، ذهبوا مادين كفوفهم متسولين شربة ماء، وسندوتشاً، فإذا بهؤلاء ينقضون عليهم وينهالون عليهم ضرباً وركلاً ولكماً، حتى دميت أصابعهم، أما المضروبون، فيستلقون وقد تكسّرت بالتأكيد أذرعتهم وأضلعهم دون حراك عدة أيام، يتألمون من الأوجاع الشديدة، وبعضهم يموت من النزف في صمت.

كان من بين هؤلاء الذين تلقوا الضربات بغزارة على وجوههم ذلك الرجل الواثق أن ما يجري ليس من تدبير البلد، كان وجهه قد انتفخ من التورم بعدما هوت على وجهه لكمات أحد البلاطجة الذين هيمنوا على عُلب الطعام وفناطيس الماء، بعد عدة أيام مات ذلك الرجل، غالباً لم يمت من أثر اللكم، إنما من خيبة التوقع.

كنت وغيري كثيرين ننتظر المطر، لم نستمع لنصائحهم بأن نحفر حُفراً نختبئ بها من الماء، كان المطر يبللنا في نشوة، وكنا نفتح أفواهنا لنشرب دون تسول أو مذلة، المفارش البلاستيكية التي أمدوننا بها، كل منا ابتكر لها استخداماً غير ما طلبوا منا أن نستخدمها كأغطية ضد المطر، بعضنا صنع منها أردية تفتقر إلى الخياطة، البعض الآخر استخدمها كضمادات على جراحه التي أصيب بها في العراك والركل والضرب في المشاجرات التي تندلع كل ساعة بين أهل الاستاد، البعض الثالث التهمها من فرط الجوع في الأيام التي عجزت فيها يداه عن الوصول لعلبة طعام، والبعض الرابع وأنا منهم استخدمها على نحو آخر، أنا بدأت أكتب عليها، قطعتها عدة شرائح وطبقات أشبه بالورق الفلوسكاب القديم المندثر، بدأت أكتب بالقلم الذي ظل صابراً معي متحملاً كافة الظروف المهينة تلك، ولم يجف مداده، وكان هلعي أن ينفد ذلك المداد، ذلك يعني أنني إذا ما مت، لن تعرفوا حكايتنا.. فمما رأيته من الجموع، لم يُبد أحد اهتماماً بالكتابة وتدوين ما يحدث إلّاي.

بينما أمرق بين الوجوه، كثيرا ما أشعر أنني رأيت هؤلاء الناس، الذين صاروا جميعاً هنا أهل الملعب، حتى وإن تبادلوا العداوة والبغضاء فيما بينهم، أصواتهم الغاضبة الهادرة مألوفة، خاصة حينما يتشاجرون، أو يجرجرون بعضهم بعضا أو يتعاركون حينما تأتي عُلب الطعام، حتى تجمعاتهم الدائرية الكثيرة تلك تبدو لي مألوفة، حينما أنام أشعر أنني قد التقيتهم في موضع ما، تذكرت... التقيتهم في ميدان، ميدان كبير متسع جمعنا كلنا، ثم أستيقظ من الحلم قبل أن يكتمل، أستيقظ على أحدهم وهو يحاول خطف رقائق البلاستيك التي أكتب عليها ليلتهمها من فرط الجوع، فأذود عنها وأدفعه في غلظة بل وأصفعه في غضب هادر، وأنا كاره ما أفعله به.

منذ يومين استيقظت فلم أجد فردة من فرد حذائي، كان من الكاوتشوك، وخمنت أن أحدهم سرقها من تحت رأسي ليلتهمها، كنت قد لاحظت أن شخصاً أصلع، مهلهل الملابس نحيفاً للغاية من فرط الجوع وقلة الأكل ظل يحملق في حذائي عدة أيام، كنت أتجول في الملعب وسط الناس المستلقية والواقفة، وكان يتبعني في دأب وإصرار، توجست خيفة منه، وخشيت أن يكون من فرق المثليين التي حفر أعضاؤها خندقاً لممارسة رغباتهم مشبعين جوعهم من الرجال، لكنه لم يحاول استمالتي مطلقاً إلى ذلك الخندق، كانت تلك الفرقة تستميل بعض الرجال إلى ذلك الخندق المخيف، الذي حُفر على شكل حفرة طويلة مغطاة بالمشمع عند مدخلها وتمتد لثلاثة أمتار تحت أرض الملعب، وحينما يُعجب أحد أفراد الفرقة بواحد من الخلائق، ويرفض مراودته عن نفسه، كان يأتي برفاقه ليختطفوه عنوة إلى الخندق.. كنا نسميه خندق قوم لوط.

حينما استيقظت منذ يومين ولم أجد فردة حذائي، فهمت أن ذلك الشخص الذي كان يتبعني قد سرقها ليلتهمها... عثر بعض الرجال على جثته بعد بضعة أيام... عرفت أن حذائي قد سممه لأنه لم يلتهمه كله، كان قد أكله حتى الكعب، وظل يتلوى عدة ليال، قبل أن يطفح ما التهمه مع بضعة لترات من دمه، إلى أن لفظ أنفاسه الأخيرة.


4

تصاعدت فجأة ذبذبات الإذاعة الداخلية للاستاد إيذاناً بأن أحدهم سيتحدث...

آخر مرة خاطبونا فيها كانت من شهر.

جاء نفس الصوت الغليظ الأجش مغمغماً بلكنة صارمة أشد قسوة من ذي قبل، انبعثت كلماته تقول:

- المواطنون المحترمون... من فضلكم من فضلكم... ابدأوا عمليات دفن موتاكم... مش معقولة يعني اللي بيحصل دا... ناس ميتة وأنتوا مش بتدفنوهم... مفيش عندنا طاقة لدفن الموتى... من فضلكم... احفروا حفر في أرضية الملعب... وابدؤوا يلّا... دا حتى إكرام الميت دفنه يا حيوانات... يا منحطين.

اعترانا الذهول، صرخ بعض الموجودين من الغضب، وقد علق هؤلاء آمالهم على أن الصوت الغليظ سيفرج عنهم، كان عدد الموتى قد بدأ يتزايد فعلاً بسبب الجوع، الجوع الذي نتحدث عنه كأنه أمر سهل، إنما هو محض جنون، ما اختبرناه هنا في الاستاد من جوع كان بشعاً... بشع ولا يمكن وصفه إلا بالبشاعة... الجوع يهد أقوى الرجال ويحوّلهم إلى نمور شرسة.

بسبب التعارك والتشاجر المستمرين واللذين تنتج عنهما إصابات في مواضع حساسة أو كسور صعبة لا يمكن علاجها تزايدت الجثث، كما أصيب كثيرون بحالات تسمم من التهام الملابس الرثة والأحذية المنتعلة من أقدام عفنة... هؤلاء كانوا يتقيأون أمعاءهم... ولقي رجالُ آخرون مصرعهم من نزيف حاد بفتحات الشرج نتيجة تعرضهم لعمليات اغتصاب متتالية في الخندق.

في الأسابيع الماضية حاولت مجموعات من الناس كلما سقط منهم مصاب، أو تعرض بعضهم لآلام حادة، اقتحام باب الاستاد الذي تأتي منه علب الطعام وفناطيس المياه، محاولين الدق عليها بقبضاتهم العارية لعل الحراس يفتحون الأبواب، ويطلقون سراحهم، أو لعلهم يسمحون لهم بأخذ المصابين أو المرضى، أو المصابين بالجفاف من العطش وندرة الطعام، لكن الحراس لم يستجيبوا أبداً، كأنهم سقطوا في غفوة سرمدية.

كثرت الجثث، وصارت تشكل همّاً مستمراً، صار القتل مباحاً، وتحولت بعض الجماعات إلى مراكز قوى لا تعبأ بالجموع، ولا بالكثرة، أو بمصائر الناس المساكين، تحولوا إلى استلام عُلب الطعام، وتوزيعها على بعضهم، وعلى جماعتهم، وأنصارهم، صار الانضواء تحت مظلتهم هو المعبر للحصول على عُلبة طعام، جربت مرة التقدم إليهم لأكون ضمن جماعتهم، كانت هذه هي طريقتي الوحيدة للنجاة، وقفت في طوابير طويلة تمتد من خط الثمانية عشر، إلى خط منتصف الملعب، طبعا تلك الخطوط صارت وهمية ولم تعد محددة مطلقاً، لكن تخميني طولها كان ضرورياً لقياس ما ينتظرني من معاناة، لم يكن الوقوف في تلك الطوابير معناه أنني صرت ضمن تلك الجماعة التي تولت الاستحواذ على كل شيء، بل كان معناه أنني لم أزل قيد الاختبار، أما ماهية الاختبار فكانت عجيبة جداً.

كانوا يسألون الواقفين في الطوابير عن أعمارهم، عن ممتلكاتهم في الخارج، في عالمنا الذي جئنا منه، عالم ما قبل الاستاد، ثم كانوا يسألوننا عن أوصاف نسائنا، أعداد أطفالنا، مدخراتنا في البنوك، كنا ندلي بهذه المعلومات دون أي احتراز، لأننا جميعاً محبوسون هنا، فماذا سيفعلون بتلك المعلومات على أية حال؟

لكننا كنا مخطئين.

كبير تلك الجماعة، التي اتخذت من أحد أركان الملعب اليسرى مقراً لها، كان يدعى "حزحح"... لا أعرف من أين جاء بهذا الاسم، يقولون أن الاسم هو الأحرف الأولى من اسم الجماعة وهو "حراس زون الحداشر حفرة"، كانوا قد حفروا في الناحية اليسرى من الاستاد عدة حفر، أطلقوا على كل منها رقماً كودياً، ينتهي بكلمة "زون" وأسكنوا جماعتهم في هذه الحفر التي بدت أشبه بأفواه مرعبة تحوي رجال وشباب من مختلفي الأعمار، يتبادلون حراساتها، والنوم فيها وتخزين علب الطعام وفناطيس المياه، وبنوا حولها سورا من الفناطيس الفارغة وبات بعضهم فوق تلك الفناطيس مسلتقيا كناضورجي منبها جماعته من أية محاولة للهجوم على الجماعة والحُفر.

كنت أشعر أنني التقيت "حزحح" في مكان ما في حياة سابقة، ربما قابلته منذ عقود.

كان يجلس بعيداً عن الطوابير، مشرفاً على عملية انتقاء الناس لجماعته، لكنه بدا مسترخياً ناعساً، غير مبال بما يجري حوله، مطمئناً ومرتاحاً، وأمامه فنطاس ماء يشرب منه، وكذلك علبتا طعام.

المهم أنه حينما حان دوري، سألوني نفس الأسئلة، فقلت رداً عليها جميعاً:

- تفتكروا هنعرف نسدد حق خدماتكم دي لو طلعونا؟ تفتكروا إننا هنعيش تاني بعد ما هنطلع من هنا؟ ليه بتسألوا عن ستاتنا؟ وعن أرصدتنا في البنوك؟ المفروض أننا ودعنا الحاجات دي ومبقاش ليها لزمة...

لاحظت أن السائل قد ظل محملقاً فيّ مستغرباً جرأتي في الإجابة، متعجباً من طلاقتي، كأنني أتناول وجبة مثله يومياً، أو كأنني أشرب بانتظام مثلما يشرب، أشاح بيده كي أبتعد عن الطابور وهو يقول في ضجر:

- خلاص أمشي طالما مش عاوز تجاوب على الأسئلة..

هنا أقدمت للمرة الأولى منذ وصولي الملعب على فعلة لم أتخيل أن بمقدوري أن أفعلها. طوقته فجأة من رقبته، ووضعت سن قلمي بشكل عمودي على مقلة عيني، وصرخت في أعوانه من جماعة "حزحح":

- يا أما تقبلوني وسطكم يا أوساخ يا خنازير... يا إما هخزعق لكم عينيه... واللي تعملوه فيا اعملوه.

تسمروا جميعاً، حتى أنا لم يخطر على بالي أن بوسعي أن أستخدم قلمي في شيء غير الكتابة، سادت في المكان لحظة صمت مجلجلة، وهيمن على أعوانه في الجماعة سكون وشلل رهيبان، وقد أدركوا أنهم يواجهون شيئاً لم يعتادوه من قبل، ألا وهو الجنون، أما رفاقي الغلابة الواقفون في الطابور، فصفقوا، صفقوا في جزل فرحين بما آتيت، وإن ظلوا واقفين بخنوع، لم يتقدم أحدهم لدعمي، أو مساندتي، تسارعت ضربات قلبي، بينما يرتفع أنين الرجل الذي طوقت رقبته من أثر ضغط ساعدي عليها، عجز عن الفكاك، أنا نفسي لم أتوقع فعلتي، وهرع عدد من زملائه لإبلاغ كبيرهم... "حزحح" بما فعلت... كان لم يزل جالساً في مكانه يرمق ما يحدث بنظرة ناعسة، لم أدْر ماذا يجب أن أفعل، خصوصاً أنني لم أطلب التهام الطعام، ولم أطلب شربة ماء، بل طلبت الانضمام إليهم، عجزت عن توقع ردة فعلهم الآن.


5

انضممت إليهم، صرت واحداً منهم، الآن أنا جالس على أحد السواتر الترابية التي بنيناها في منطقة خط الثمانية عشرة أمام المرمى الأيسر من جهة المقصورة الرئيسية، إذا كنت جالساً في تلك المقصورة وتراقبنا، ستجدني منبطحاً على الساتر الترابي المرتفع الهائل، ظهري للمرمى، الذي يحيط به ساتر ترابي آخر ينبطح عليه زميلي بجماعة "حراس زون الحداشر حفرة"، كانت في أيدينا هراوات عملاقة صنعناها من تحطيم جدران الفناطيس الصغيرة وإعادة تثبيت بعض مكوناتها بأربطة وحبال علب الطعام، هكذا صنعنا هراواتنا.. اليوم الذي وضعت فيه سن القلم على معاون "حزحح" قادوني لمقابلته، جلست أمامه، وظل محملقاً فيّ، تذكرته بغتة، كان بحلمي أيضاً.. هو أحد الرجال الذين قادوا الحراك في ذلك الميدان الواسع... كان المتحدث الرئيسي على منصة ما، وكان يردد خطباً ثورية للتخلص من شخص قادر ومستبد لا أستطيع تذكره.

سألني:

- أخذت الحقنة؟ أم تتذكرني؟

- أية حقنة؟ افتكرتك.. كنت في الميدان... تخطب في الناس... وتلهب مشاعرهم...

- لقد جمعونا هنا من أجل ذلك السبب... كلنا هنا كنا وقتها هناك... في ذلك الميدان... كل هؤلاء الناس من حولك... جاؤوا بنا واحداً واحداً... وهكذا... عدنا مرة أخرى إلى ما يشبه ذلك الميدان... ليس إلا لغرض واحد... أظنك فهمت...

ظللت صامتاً، محملقاً فيه، خمنت ما يريد أن يقوله، ثم قلت:

- لكن مرت على ذلك سنين كثيرة... أليس كذلك... كنتُ وقتها في العشرينيات من عمري... أنا الآن في الأربعين...

هز رأسه بثقل، مومئاً بعلامة الإيجاب، قائلاً:

- مبينسوش...

خيّم الصمت، كان الرجل الذي وضعت سن قلمي على رقبته يرمقني غاضباً، بينما أتباع "حزحح" يرمقونه بفضول، انتظاراً لردة فعله المقبلة، أشار لهم إيجاباً، فانضممت، وهكذا صرت ضمن جماعته، وفهمت ماذا يجري في الاستاد.

كانت ثمة جمهورية وليدة، توزعت سلطاتها بين خمس جماعات كنا واحدة منها، وهيمنت على خمس تقسيمات إقليمية أساسية في الاستاد، سيطرت جماعة حزحح على ركن الملعب الأيسر الشمالي، منطقة خط الثمانية عشرة بالمرمى، وإلى الجنوب منا جماعة ثانية شكل رئيسها حلفاً معنا، وفي وسط الاستاد جماعة ثالثة كنا كشوكة في ظهرها، بيننا وبينهم هدنة تهددها مناوشات خفيفة، كأن يتسلل أحد رجالهم إلى أحد سواترنا الترابية، ويسرق علب طعام، أو أنصبة من فناطيس الماء، أما في الجهة اليمنى من الملعب، فعسكرت جماعتان تبادلتا معنا العداء بشكل صريح، ورفعتا رايات عليها جماجم وأشخاص يهاجمون، هؤلاء كان يقع في نطاقهما خندق قوم لوط، لهذا وقع على عاتق الجماعة الثالثة في منتصف الملعب صد أي هجوم متوقع من هؤلاء.

على الأطراف، وبين الجماعات الخمس المتصارعة تناثر عدد من الناس الذين عجزوا عن الانضمام لأية جماعة، إما لضعف بنياتهم، أو لانتفاء الحاجة لهم، إما أن تكون موهوباً في القتال وتمتلك جسداً ممشوقاً يرشحك أن تكون بيدقاً في الصفوف الأولى، وإما أن تتمتع بموهبة خاصة، تجعلك مفيداً في الصفوف الخلفية، كأن تمتلك أفكاراً متميزة في تبطين جوانب الحُفر التي نحفرها، أو تمتلك قدرات تفاوضية مع حراس الاستاد لتمرير بعض الممنوعات، كالأقلام والأوراق، وهي الأشياء التي كنت أستطيع أن أهرّبها باستمرار، ولم يكن أحد يستخدمها غيري، لهذا كنت مفيداً لجماعة حزحح، كنت أنجح أيضاً في الحصول على أجهزة راديو عتيقة الطراز يعرف منها حراس السواتر الترابية أخبار العالم الخارجي، كنا نمتلئ حسرة وغضباً، حينما نجد أن قنوات الإذاعة لم تتحدث أبداً عنا، شيء عجيب، على الرغم من أن ما يحدث في الاستاد كان خطيراً، في بطنه مقبرة جماعية تلتهم كل يوم العشرات منا، الذين يسقطون جوعى، أو ضحايا للمعارك، وعلى سطحه رفاق الميدان القدامى، وقد صاروا الآن أعداء، يتحزبون في خمس جماعات متصارعة، ولا تظفر بأي شيء من صراعها المستمر، فقط تحفُّز يومي يستهلك أعصابنا ويقتلنا يومياً بالبطء وإلى ما لا نهاية.


6

زوجتي العزيزة..

مر عامان منذ بدأت أكتب لك هذه السطورة الطويلة.. أعرف ذلك لأنني سمعت تاريخ اليوم بالصدفة في الراديو الصغير العتيق الذي بحوزتي..

ويبدو أنني سأتوقف قريباً عن كل شيء... عن الكتابة... وعن الاستماع للراديو.

مات حزحح..

لقي مصرعه في هجمة غير متوقعة شنتها الجماعتان اللتان استوطنتا يمين الملعب.

لم نتوقع الهجمة، ولم تتصد لها جماعة منتصف الاستاد.

كان الهجوم غرضه الأساسي هو قتل أكبر عدد ممكن من الجانبين.. من جانب المهاجمين، ومن جانب المقصودين بالهجوم، الموارد باتت شحيحة للغاية، والحل كان قتل كثيرين، كي تظفر النخبة بالموارد القليلة التي في حالة نقصان مستمرة.

المباغتة شلتنا، كان في أيديهم كل ما تتخيلونه من أسلحة بدائية لا نعرف كيف حصلوا عليها... هراوات مصنوعة من الحجر شديدة العتو والفجور، نبال مارقة بأشرطة مطاطية فتاكة، لا نعرف من أين لهم بها، فقعوا أعين كثيرين من صفوفنا بكرات من الصلب مقذوفة بتلك النبال، وهووا بهراواتهم على دروعنا من الفناطيس البلاستيكية فكانت الغلبة لهم ببساطة، كانت أعدادهم هائلة وكثيرة، حاصرونا كالجراد، واقتحموا سواترنا ببأس جدير بالإعجاب شُجت رأسي مع أول ضربة من هراواتهم البشعة، كنت مستلقياً على أوراقي وبجانبي أحد أجهزة الراديو التي أمدني بها حراس الاستاد، صادروها كلها، وحطموها وأشعلوا فيها النيران ودفنوها في حفرة من إحدى حُفر الزون.

أما "حزحح" فقد اقتادوه كالبقرة، وانهالوا عليه لكماً وضرباً وركلاً حتى أدموه، ثم خلعوا ملابسه، تلك الجاكت التي حاكها له المقربون منه من الأغطية القماشية والملابس التي كانوا يجردون أسرى المعارك منها، جاء الوقت على "حزحح" ليُجرب أن ينتزعها أعداؤه من على جسده، سطع لحمه العاري بشكل عجيب، وانكشفت عورته، ضربوه عدة مرات بأرجلهم في خصيتيه، فشهق من الألم، وإن كتم صراخه، ثم جذبه أحدهم من قضيبه، واستل مُدية وبتره، فأطلق "حزحح" صرخة بشعة، ارتجت لها أنفسنا، وشلال دم يتفجر من قضيبه المبتور، سقط بعض من أتباعه مغشياً عليهم بالفعل، أما أنا، فحافظت على وعيي متأثراً بفضولي في معرفة النهاية.

عزيزتي..

جاءت النهاية أسرع مما أتوقع..

كنت أنتظر تفسيراً ما على احتجازنا هذا، التفسير الأقرب كما قال حزحح هو الانتقام... لقد جعلونا ننتقم من بعضنا البعض.

الآن نصطف طابوراً وقد طلبوا منا جميعاً أن نلقي ما بأيدينا... لا أعرف ما سيفعلونه في أوراقي، أكتب لك هذه السطور لأنهم طلبوا منا أن نتجرّد من ملابسنا، ونكوّمها أرضاً، هذه هي سطوري الأخيرة... يوماً ما... ستجدينها وتعرفين كيف تحوّل أناس مهذبون إلى قتلة مرعبين... ربما تعثرين على هذه الأوراق... سأكتب شيئاً أخيراً... لا أعرف كيف أوقعوا بيننا هكذا... ألم نكن يوماً ما رفاق حلم واحد... ألم نتشارك أملاً واحداً... ألم نكن نضحك ونبتسم لبعضنا البعض... ألم يكن بعضنا ينام بينما بعضنا الآخر يحرس؟ الآن صار بعضنا يقف انتظاراً لبعضنا الآخر بينما يتولون إعدامنا.

يشحذون أسلحتهم لبتر أعضائنا الجنسية وشق حناجرنا وتركنا ننزف حتى الموت... لا أعلم متى سيحدث ذلك؟

لكنهم سيشربون من نفس الكأس..
يوماً ما.


* كاتب من مصر

المساهمون