أمَا آن لهذا الكابوس أن يعود إلى السينما؟

أمَا آن لهذا الكابوس أن يعود إلى السينما؟

18 مايو 2020
من المدينة العتيقة في تطوان (Getty)
+ الخط -

تقف هذه الزاوية مع الكتّاب العرب في يومياتهم أثناء فترة الوباء، وما يودّون مشاركته مع القرّاء في زمن العزلة الإجبارية.


في البدء كان خبراً. ومن فرط تكريره في وسائل الإعلام، صار معتاداً: فيروسٌ يغزو الصين ويقتل المئات، بل الآلاف. ومع ذلك ظلّ خبراً يعني الآخرين، الذين هم هناك؛ نُخمّن: "في نهاية المطاف، إنه فيروس مثل ما سبقه، سوف يضمحل، هذا كلّ ما في الأمر". لكنه يقترب الآن، شيئاً فشيئاً، يقطع المسافات بسرعة، يستوطن قلب أوروبا، وبلداناً لنا فيها أبناءُ وطنٍ كُثر؛ وإذا به يرحل مع الهاربين إلى أرض الوطن، ويصير الخبرُ الذي كان معتاداً حدثاً جللاً يأخذ الناس على حين غرّة، يخلط كل الأوراق!

ذلك القاتل الغريبُ أصبح يفتك بالعباد بين ظهرانينا، وأصبح الناس يعُدّون الأنفُس التي تُزهَق، وصار النَّفَس عدواً للنَّفْسِ. خذلتنا كلُّ الأهواء والأحاسيس إلّا الخوف: الذي كان جبناً فصار شجاعة. أن تخاف من مدِّ يدك مصافَحةً، أو ذراعيك عناقاً، أن تخاف الجار ذا الجنب، أن تتجنّب من يصادفك في الطريق. هكذا تقلِبُ كورونا، التاج، كلَّ شيء على رؤوسنا، وتقيّد حركتنا، جزئياًـ ثم كلياً.

الحظر الصحّي، عدم الخروج إلّا برخصة. ذلك الشارع الذي كان مصدراً للضجيج والتضجّر، بات اليوم مشتهى. أقصى ما يرغبه الواحد منّا أن يمشي في ضوء النهار، تحت أشعة الشمس، أن يشرب قهوته في مقهاه المعتاد. وصارت الأسئلة المحيّرة المتضاربة هي قوتَ وقته: ذلك الموت الذي كان مؤجَّلاً، في التفكير، صار حاضراً في التدبير.

تدبير اليومي على إيقاع كورونا. أستيقظ وأحمد الله أني ومن أحب لم يمسسهم سوء، وأوّل ما يتبادر إلى الذهن: "يومٌ آخر في زمن كورونا. أمَا آن لهذا الكابوس أن يعود إلى عوالم الحلم، على الأقلّ، أو السينما، ويتركنا في حال سبيلنا؟".

في البداية، أيام الحجر الأولى كان القلق والاضطراب هو سيّد الموقف. هل أوشك العالم أن يدخل زمن النهايات؟ هل العالم بكلّ هذا القدر من الضآلة ليُهزَم أمام أقلّ من كائنٍ لا حياة له؟ لا حياة له ويقتل الحياة؛ مفارقة مفجعة. كلّ هذا العلم والتكنولوجيا الفائقة والأموال والحروب والإرهاب و"داعش" والاتحاد الأوروبي وعنجهية ترامب، لم يعد له أدنى قيمة أو قدرة.

لكن مع ذلك، تعود الأخبار إلى الصين، موطن تفشّي الداء، لكن هذه المرّة كلُّ العالم يتابعها على أنَّ الأمر يتعلّق بحدث كوني: الانتصار تدريجياً على الفيروس، ونأمل أن يكون لنا حظُّ الصين، ونحن نعلم أنه ليس لدينا تاريخ الصين، القديم منه والحديث: لأنَّ الصين اليوم وليدة ثورتها الثقافية (1966) الصارمة التي نجحت في تربية "الناس"، وليس "الموارد البشرية" بلسان الرأسمالية التي أفرغت الإنسان من محتواه وجعلته مجرّد أداة. حين تعطلت آلة الاقتصاد تعطّل كل شيء، وصرنا نسمع عن قرصنة شحنات بها معدّات أجهزة التنفّس والكمّامات.

هذه هي يوميات الحيرة وقلب إيقاع الحياة؛ ما خلا ذلك، فإن اليومي لم يتغيّر في العمق كثيراً بين ترجمة كتاب نقدي أشتغل عليه منذ أشهر وقراءة رواية "متاهة الأرواح" لكارلوس زافون بترجمة صديقي معاوية عبد المجيد عن "منشورات الجمل" (2020)، وهي رواية ضخمة، أكثر من ألف صفحة، ولعلَّ اختيارها في هذا الزمن الكوروني فيه كثيرٌ من الأمل، أن ترفع هذه الغمّة في أقرب الآجال، إذ أحدّث نفسي: "هذه رواية سوف تستغرق قراءةُ صفحاتها ما لا يقلُّ عن شهر، يكون الحجر الصحّي قد رُفع"، هذا ما أرجوه اليوم على الأقلّ.

ولأنّي في العادة أقرأ أكثر من كتاب في اليوم نفسه، شرط أن يكون من جنس مختلف، فقد اخترتُ كتاباً نقدياً لا يقلُّ عن "متاهة الأرواح" ضخامةً بكثير: يتعلّق الأمر بالكتاب العمدة، "محاكاة الواقع كما يتصوّره أدب الغرب"، لعالم اللغة والناقد الألماني إريك آورباخ، بترجمة محمد جديد والأب رفائيل خوري (1998)، وقد كتبه مؤلّفه في إسطنبول، من الذاكرة بفضل تبحُّره، إذ كان مضطهَداً، هارباً من بطش النازية. ولعلَّ في الكتاب، حيث أنّي لم أفرغ من قراءته بعد، الكثير من العزاء لكلّ من أكْرِه على ملازمة البيت، وصار لبثة، حتى لا أستعمل كلمة منفّرة تداولتها الألسن كثيراً وهي "بيتوتي". يا له من توليد مقرِف. ها هو مفكّرٌ اضطرّ للرحيل من دون مكتبته، أو قُل مراجعه ومصادره، لكنّه قدّم عصارة فكره، حقيقةً لا مجازاً، مرتقياً سلالم الإبداع حتى هوميروس وسِفر التكوين...

ولأنَّ المُتعةَ لا توجد في الترجمة وقراءة الكتب وحدها، فإنَّ النفسَ تلوذُ بالمكتبة السينمائية، هرباً من أخبار التلفزيون التي لا تتوقّف عن تكرير الأرقام تصاعُداً، إحصاء الأنفُس التي أُزهقت، وتلك التي تعافت أو استبعِدت، لكنَّ لا شيء عن تلك التي ما تزال تنشُر الوباء خفيةً؛ حيث الفحص لا يشمل الجميع، وهنا يبقى الباب مفتوحاً على كلّ الاحتمالات: هل نحن ذاهبون إلى سيناريو تصاعدي مرعب، أم أنَّ "الذروة" لن تحصد أكثر مما حصده هادم اللذّات ومفرّق الجماعات؟


* ناقد أدبي ومترجم مغربي

المساهمون