كتب ونوافذ عمياء

كتب ونوافذ عمياء

19 يوليو 2019
عمارة من تصميم فريدنسرايش هوندرتفاسر
+ الخط -

الوحدة هنا هي الأساس. إنها مادة كل الأشياء في هذه الشوارع الباردة والتي لا يمرّ منها أحد تقريباً عند منتصف الليل. الإضاءة فيها سقيمة، وعلى جنباتها تقف في خط مستقيم سيارات كثيرة تشبه جثث حشرات عملاقة. على اليمين وعلى الشمال، تترصّف الحجارة في مبانٍ ضخمة عمياء النوافذ.

يتسلّق نظري هذه الأحجارَ، يصعد، يصعد، إلى أن يصطدم بالغطاء الكبير الذي يفترض أنه السماء. لأطمئن نفسي، أحاول أن أتخيّل دفء الحياة من وراء الستائر المقفلة. ومن حين إلى آخر، تُخلخل سيارةٌ عابرة كل السكون الرهيب، ثم - وفي اللامبالاة التامة - يختفي صوتُها الهادر كأنه لم يكن. لم يبق إلا وقع خطاي الذي يترجم الشكوى التي تسكنني.

كان المترو، في رحلته الأخيرة قد بدا لي مرهَقاً، وقد لفظني في النهاية مثل غرض بلا قيمة. أشعر أن العزلة باتت غير محتملة، وكلّما حضرني هذا النوع من التفكير أُقرّر أن أكسر قوقعتي وأقترب من هؤلاء الناس الذين أتشارك معهم الحياة في نفس المدينة. لكنني أعرف أن مثل هذه المبادرة ستبدو لهم غريبة وربما مثيرة للشبهات والمخاوف. لا يرحّب بكل مبادرة تواصل إلا التجّار، ولكن بالنسبة لهؤلاء كل شيء إنما هو مدخل للوصول إلى الأموال التي يمكن أن تكون في جيبك.

منذ فترة، وجدتُ عملاً في "مغازة" (متجر كبير) في ضواحي باريس. كان عليّ يومياً أن أمضي ساعة في الذهاب وأخرى في العودة. في البداية راقني النظر من نوافذ الميترو أو الحافلة إلى مشاهد المدينة ثم سرعان ما بات ذلك مضجراً، وانسحبتُ تدريجياً للقراءة في طريق الذهاب والعودة. بشكل عام، لم تكن لي أدوات لمقاومة ابتلاع الكتب لي.

أما الناس في هذه المدينة، فهم يتشاركون المكان نفسه ولكنهم لا يلتقون. كان العمل هو الفسحة الوحيدة لملامسة الحياة، حيث أتحدّث إلى أشخاص بحكم التعامل مع الزبائن، وبدرجة أكثر عمقاً مع زملاء العمل بما في ذلك من مشاركة في الهموم والمشاكل اليومية. لا يعني ذلك أنني أكون مستمتعاً خلال تلك الفترة التي أقضّيها في العمل، فليس من السهل بالنسبة لي أن أشعر بالرضا في هذا المناخ العام حيث عليك أن تتبنّى الكثير من الغباء كي تسير الأمور بأحسن وجه. لم أستطع أبداً أن أتخلّص من الشعور بأن هذا العمل يشبه الإقامة الجبرية أو السجن.


* من كتاب السيرة الذاتية لبيار رابحي: "من الصحراء إلى سيفين.. مسار إنسان في خدمة الأرض-الأم".
** ترجمة عن الفرنسية: شوقي بن حسن

دلالات

المساهمون